نماذج من أعمالها :
بقايا امرأة
تك تك .. دقات الساعة الخشبية تعلن عن وجودها .. تخترق الصمت بهدوء .. ملل رتيب ..
هاتف نقال في زاوية الطاولة.. أوراق مبعثرة .. والقلم في يدها ترسم تارة به دوائر وتارة أشياء غريبة وهي شاردة الفكر وتارة خطوط تتحد مع بعضها لتعطي أشكال غير معروفة ..
وببطء شديد بدأ الحزن يتسلل لقلبها المتعب فازداد وجعها واشتدت يدها على القلم لتكمل خربشتها الطفولية على الورقة ...مع ازدياد غضبها زاد حنقها على قلمها وبدأت تخربش بقوة حتى أن القلم اخترق الورقة ومزقها فطفرت الدموع من عينيها بقوة .. لو قدر للورقة أن تتألم الآن لتألمت مثلما تتألم هي فالوجع مشترك بينهما .. تمزق قلبهما ..سقطت دموعها السخية على الورقة وبللتها ..وسقط القلم من يدها .. تحول البكاء إلى نحيب فأحنت رأسها على الورقة وبدأت بالبكاء المر ..
خيل إليها للحظة بأنها ستبكي لساعات طوال ولكنها سرعان ما رفعت رأسها عن ورقتها وصرخت بنفسها كفى كفى .. مسحت دموعها بطرف أناملها بعصبية ورتبت شعرها.
اختصر الموعد ببضع كلمات ينهي فيها علاقتهما التي استمرت لسنوات واعتذارات كثيرة وبأن الزمن لا يرحم و القدر لا يمهله ليحقق حلمه الجميل بالزواج بها .. فهمت من حديثه المتقطع بأنه سيسافر طلبا للقمة العيش الرغدة .. ولكن ما ذنبها هي لتتورط في كل هذا وليرحل من دنياها بهكذا طريقة وبهكذا سبب ..
اختتم حديثه معها بدموع تعرف بأنها حقيقية ولكنها لم تشفع له وطوال ذلك اللقاء القصير لم تنبس ببنت شفة ودموعها كانت كلامها الوحيد .. لم تحاول ثنيه ولماذا تحاول ردعه فقد قرر هو كل شيء بدون حتى أن يشركها في القرار .. همشها بطريقة محكمة .. ظلت تنظر لعينيه وقدا بدا الذهول على ملامحها الغضة ..لماذا القدر دائما يرسم طريقنا بغير ما نأمل ونحلم ؟؟؟ أرادت الصراخ أرادت هز كتفيه وأرادت أن تكسر كل ما تراه .. أرادت حتى أن ... لكنها تمالكت أعصابها بحكمة وظلت تستمع لكلامه المتلو المعد جيدا والذي بدا من الواضح بأنه كان يعده جيدا البارحة .. سمعت وسمعت وسأمت من تكراره للكلام والاعتذارات فحاولت الصراخ به ولكن لسانها خانها وقلبها بالتأكيد لن يسمح لها بان تسبب له أي ضيق.. دائما ما تحاملت على نفسها لكي ترضي رجولته وتحملت بعض طباعه السيئة لحبها الشديد له ولمحاولته التغير أيضا .. ولا تنكر بأنه رجل رائع ..
رفع حاجبه بقوه ناشدا منها الرد على سؤاله .. أي سؤال لا تعرف فتفكيرها شرد بعيدا جدا .. تفكر في المستقبل ... وفكرت في غدا .. كيف ستتحمل فراقه وكيف ستمضي حياتها بدونه .. بدون رقة حديثة .. بدون عذوبة غزله .. بدون صوته الأجش الآمر الناهي .. ابتسمت بفتور وهي تفكر في كل هذا ..
ارتعشت شفتاها حينما أردفت باقتضاب : حتما لا استطيع .. رفعت عيناها لتعاتب عيناه بحنان فابتسم بألم .. لن يفهم احد حديث عينيها الصامت سواه .. لن يتكرر ذلك مع رجل آخر أبدا .. أبدا .. تمتم ببضع كلمات لم تفهمها حتى فذهنها مشتت ولا تستطيع التركيز إطلاقا واحتضن يديها ليواسيها . دقات قلبها تزايدت وعن جموحها أعلنت .. داعب شعرها الجميل النسيم فهزت رأسها بعنف وكأنما تحاول طرد تلك الأفكار التي تحتل ذهنها مسببة لها الجنون .. حدق إليها فتجاهلت عينيه العسليتين بغضب وآثرت الرحيل فلا شي سيتغير والفراق أرخى ستائره معلنا نهاية المسرحية الجميلة التي عاشتها .. للمرة الألف يخونها لسانها فتكتفي بأن تنظر إلى عينيه لآخر مره وأطالت النظر .. للمرة الأخيرة تتعانق عيناهما .. حدثت نفسها بذلك .
إلتوت شفتاها بابتسامة ساخرة وتمكنت بطريقة ما من أن تودعه وتتمنى له الحظ والتوفيق في حياته الجديدة .. نظرت بفضول إلى تكشيرة وجهه .. و لكن سرعان ما رقت ملامحه وابتسم بجاذبية وبضيق .. نظرت له للمرة الأخيرة تستنكر ما يحدث وسرعان ما احتلت الدموع عينيها مجددا ..إغرورقت الدموع في عينيه أيضا ولكنها ترجته بان لا يبكي فذلك حتما سيقتلها .. لن تستطيع أن ترى دموعا أخرى في عينيه ... امتثل لكلامها .. والآن حان وقت الوداع .. بقبلة على الجبين ودعها .. ورحل ..
ظلت هناك لفترة ليست بالقصيرة تصارع طيفه وتحاول إقناع نفسها بأنه قد رحل فعلا .. وحينما لم يعد نهرت نفسها قائلة قلت لكي بأنه قد رحل والى الأبد !
غالبت دموعها حينما مر شريط الذكريات هذا .. احتضنت نفسها بعذاب وامتدت يدها لهاتفها النقال الملقى بإهمال على طرف الطاولة لتتأكد بأنه قد هاتفها قبل ساعة تقريبا .. لقد عاد ويريد لقائها والوفاء بوعده القديم كما لمح لها ..ماذا حدث ليست تدري ولماذا عاد ؟ لقد تحرر من وعده كما تذكر .. ظلت هنا قرابة الساعة تفكر وتفكر هل تذهب للقائه أم لا .. هل ترمي بطلبه عرض الحائط .. إن أرادت الحقيقة فهو يستحق ذلك ..
بعد فترة نهضت .. مسحت دموعها بقسوة سرحت شعرها بإتقان ووضعت ماكياج خفيف وعمدت إلى وضع احمر شفاه غامق .. لماذا فعلت ذلك أيضا لا تعلم .. باغتها صوت خفي تعلمين لماذا . لأنه يكره هذا اللون . ربما بدأت بالتمرد ربما لم يعد يهمها رضاؤه .. رغم امتلاكه لقلبها حتى الآن فهي لم تنسى الليالي الطوال التي قضتها في نحيب طويل و صباحاتها البائسة .. ورقصاتها المذبوحة على أنغام أغنيتهما المفضلة .. وتساءلت كثيرا هل لا تزال أغنيته المفضلة أم انه قد نسيها أيضا ؟؟؟ .. طردت هذه الأفكار من رأسها ووضعت هاتفها في حقيبتها وخرجت مسرعة إلى المكان الذي حدده على عجل ..
صحيح بان الشجاعة لا تباع في زجاجات .. فهي لم تقوى على التقدم خطوة واحدة وعاجلها الشوق بإصرار .. وتسارعت خفقات قلبها بجنون وسعادة .. ولكن نظرة الخوف غلفت عينيها بقوة .. و ظلت لفترة تنظر إليه من بعيد وهو يقلب نظره شمالا ويمينا ينظر للمارة تارة وللبحر تارة .. قررت التقدم وتقدمت بخطوات مهتزة .. ابتسمت بثقة لم تكن تشعر بها إطلاقا حينما لمحها وابتسم لها .. أذهلتها ابتسامته الفتاكة .. تلعثمت في التحية ولكنه احتوى اضطرابها بابتسامة أخرى هادئة . تمعنت فيه جيدا .. لقد تغير كثيرا .. وبد ا أكثر وسامة وأكثر نحافة ولكن أجمل ما فيه حفاظه على الزي العماني التقليدي وهذا ما قدرته فيه كثيرا .. احترقت يدها بين يده حينما صافحها .. سحبت يدها بسرعة و اعترت عيناها فجأة نظرة غريبة .. وسألت خفقات قلبها هل ما تعيشه الآن حقيقة أم أنها سرعان ما ستستفيق من هذا الحلم .. صوته أعادها إلى الواقع وأكد لها بأنه فعلا قد عاد .. سألها بسرعة عن حياتها وعملها فأجابته باقتضاب وضيق.. للحظة ظنت بأنه سيغضب ولكنه تفهم تغير مزاجها فجأة .. ليس من العدل بأن يبدو في قمة الهدوء والوسامة فيما هي ترتسم كل علامات الحزن والضيق في وجهها .. وليس من الإنصاف أن يطلب لقاؤها بعد كل ما حدث وبعد كل هذه السنوات، نعم هي تعلم بأنه تعذب بقدر ما تعذبت ولكنه لم يعلم بأنها رأته في عيون كل رجل صادفها ورأت عينيه في كل مكان .. وابتسامته المهلكة في كل صفحات كتبها وفي أوراقها أيضا وكم كم رسمت عينيه بوجل .. ولم يعلم بأنها أعلنت تحجر قلبها بعده فلا شخص بنظرها يستحقه سواه .
لن تبكي .. أمرت نفسها بغضب ولن تنحني .. ولن تسامحه .. لقد اختصر هو ذاك اليوم بسرعة وستفعل هي ذلك أيضا ستختصر كل أحلامه فليتألم مثل ما جعلها تتألم وسط لياليها الموحشة .. طفق يتحدث عن السنوات التي قضاها بعيدا وكيف قضاها وفهمت من حديثه الطويل بأنه قد حقق هدفه وعاد إلى بلده حاملا الشهادات والطموح ومتأكدا بان مستقبلا واعدا مشرقا ينتظره .. ومع كثرة كلامه شعرت بالضجر فرفعت يدها تمنعه من مواصلة حديثه .. صمت فتجاهلت نظرة التساؤل في عينيه واكتفت بالقول بأنها على عجلة و سعدت لرؤيته وتود الرحيل كما أنها تتمنى له مستقبلا مشرقا واعدا .. لم تخطئ الصدمة في عينيه ولا التوتر في ارتعاش يده حينما مررها على جبينه العريض .. طالبها بتفسير .. فغضبت بشدة لماذا التفسير .. لم تطالبه هي بتفسير حينما قرر الرحيل .. هل يظن بأنه سيذهب دائما وحينما يعود سيجدها بانتظاره !!!!
حطم قلبها ويطالبها بتفسير !! عجبا !!
سألها لماذا؟؟؟
أجابت بسخرية ووقاحة : - من يزرع الرياح يحصد العواصف ! .. قطب جبينه وحاجبيه بشدة معبرا عن غضبه .. تنهدت .. ثم أعطته كتفيها لتحتضن دموعها التي باغتتها فجأة .. بحركة رشيقة ذكية تمكنت من مسح دموعها بدون أن يلاحظ . ابتسمت بزيف والتفتت إليه .. ودمرتها ابتسامته مرة أخرى !
شحذت عزيمتها وقررت أن تنهي هذه اللحظة بأسرع ما يمكن .. التمست القوة من ربها أغمضت عينيها لبرهة من ثم فتحتمها و تنفست بعمق وقالت ببطء: لا جدوى من دق الماء !
هز رأسه بعنف ثم قال والدهشة تكتسح وجهه بألم : تعرفين بأنك الوحيدة التي استطاعت أن تسرق قلبي !
حاصرتها عيناه فتجاهلت رده وهمست وهي تطرق رأسها أرضا : الضربات المؤلمة لا تسدد بالأيدي !
واستطاعت هذه المرة أن ترفع أهدابها وتنظر في عينيه بثبات كما أنها استشفت غضبه المكتوم ويمكنها رؤية عذابه بكل تأكيد ولكن ماذا بيدها أن تفعل .. فكل شيء قد انتهى .. ولا جدوى الآن من نبش الماضي أو محاولة إحياءه ..
رقت ملامحها قليلا لحالته البائسة ولكن ألا يستحق ذلك ؟؟؟ .. والآن بالذات قد حانت ساعة الصفر رفعت قامتها واستطردت قائلة بحزن : المسرحية انتهت !
اخترق صوته صمتها قائلا بلطف محاولا أن يهدأ الوضع : ولكني لم اسمع التصفيق بعد !!َ
هزت كتفيها : ربما لأننا ممثلين فاشلين !
نظر إلى عينيها بعمق وكانت تعلم تماما بأن نظرنه العميقة تلك تخترق روحها ولو بقيت للحظة أخرى فحتما سترمي بجميع قراراتها عرض الحائط وسيصبح عذابها رمادا تذروه الرياح !
نظرت إليه للمرة الأخيرة وتكلمت بصوت بالكاد سمعه هو إياك أن تطرق الباب دون أن تتوقع سماع الجواب !
أعطته ظهرها وليست بحاجة لترى خيبة الأمل في عينيه فذلك سيقتلها حتما ..همت بالرحيل ولكن صوته عاجلها كيف يمكنك أن تكوني بهذه القسوة .. باغتته بإجابة قوية وكيف يمكنك أن تكون بهذا الصمم ؟
سيمضي بقية حياته يرى نادما في المرآة إنها متا كده من ذلك .. رحلت بصمت تجر أحزانها خلفها ولم تنظر إلى الخلف مرة واحدة .. وستواصل حياتها بكل ثقة وسعادة إياه أن يفكر بأنها محطمة و وإياه أن يفكر بأنها منهارة وتبكي في المساء لا أبدا فهي فقط تتألم عندما تتنفس .. قلبها ينفطر فقط حينما يخفق .. أحلامها تموت فقط حينما تحلم !! لذا فأنها تمسك أنفاسها .. حتى تنساه !!!! ليست محطمة هي ... فقط.... بقايا امرأة !