| رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:55 pm | |
| رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات
لستُ أدري أمن الحكمة أن ألتجئ إلى قلم أترجم به أحاسيسي، في وقت لا يُدينك فيه سوى قلمك. فاقتراف الكتابة، مثل تعاطي الأخبار، لن يضيف إليك سوى تبعثرٍ على تبعثرٍ، فتجد نفسك أكثر فوضى وشتاتاً. ما سأرويه، يصلحُ لأن يكون لكلّ زمن، ومسرحه كلّ بقعة من أرضنا المفرنجة، وشخصياته أنا وأنت، هو وهي، وإن سألت من أنا..؟! أنا جزء منك ومنه ومنها... أنا ما لم تستطع أن تقوله زمن الكلام وما تقوله دائماً زمن الصمت. صدّقني أنا لا أدّعي الحكمة ولستُ تابعة لأي مدرسة فلسفيّة. أنا قصة من هذه الحياة اليوميّة. إنني أكثر من عادية، أبحث عن الحبِّ المطلق، أزرع شتلاته أينما رحلت، وأحيا على أمل صمودها في وجه أعاصير الأيام. وفي كثير من الأحيان، أشعر أنه لا وجود له سوى في قلبي، وأحياناً كثيرة أجد له ملامح في كل مكان.. كلنا يسأل لماذا خلقنا، وكلنا يظنّ أنه وجد الجواب. و الحقيقة أننا لم نصل حتى إلى سفحه. فالجواب أعلى من أن يطال، ودائماً لا تصلكَ سوى أنصاف الحقائق مهما بالغت في الإلحاح عن إجابةٍ لها. ودائماً هناك دوافع مخفيّة لا نبوح بها، تبقى هي الحقيقة الغامضة التي نتلذذ بإخفائها. ما سأقوله أيضاً له أكثر من دافع، ستفهم أنت ما توده، وتدعي أن لغتي لم تصلك لتفهم النصف الذي لا تودّه.. ما يربطنا هو فقط ما يتقاطع من لغتي مع حسك، ومن حزني مع خيبتك، ومن أنوثتي مع شهوتك، ومن غبائي في البوح مع ذكائك في الفضول، ما ستسمعه قد يكون ضرباً من الجنون أو من الصحوة أو لعله هذيان أحزان.. فعندما تحزن تثبت للإنسانية أنك جدير بالبكاء. وعندما تفرح تضحك عليك الإنسانية. فمن أيّ نافذة تطلّ على الفرح، لتجد نفسك في مكيدة للبكاء أيضاً... أنتَ تصلح للتهكم ولمقايضة الدنيا بدموع ساخنة، خاصة عندما تعي أنك سليل عائلة عاش أمواتها زمن الخوف والجوع والاستبداد. أي ابتسامة زارتْ وجهكَ وأنت تقفُ على هاوية الأمل الكاذب كحد الجرح آن يتماثل للنزف، وكحد الوقت آنَ يشفى بالنسيان. انظر إلى أكف البساتين المتعبة، ترى أنها تقيم الصلاة على خرابها وتبكي بثمر لا يطؤها إلا سراب من مطر حزين، فكيف تضحك على صدورها سنابل أو أشجار أو رجال؟! لا يسعني وأنا أرى خرابة بكل هذا التأذّي إلا أن أسخر من تفاؤل أجدادي بالآتي وأجدادي شديدو الإخلاص لأجدادهم، فتخيّل كم عاهة يحتمل هذا البلد. ـ بلدتي قرية كبيرة، توارثت عن أجدادها حنكة النميمة. زارتها الحضارة مؤخراً بأشرطة الفيديو وأجهزة التلفاز، لكنها ظلت محتفظة بكل عاداتها، أقصد بكل أمراضها فتلك الأجهزة لم تزدهم سوى ساعات ماجنة، يبقون طوال الليل يتأملون أجساد الغرباء، وطوال النهار يلعنونهم، وكأن تلك الأجهزة لم تُخترع إلا للفساد ولإضافة سلبيات أخرى على رداءة أخلاقهم.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:55 pm | |
| تتمة الفصل الأول
لماذا لا يفطن أحد لوجود الله إلا في معرض الحديث، لماذا لا يكون شيوخنا قدوة تحملنا من مستنقع يائس إلى هضبة نائية أو تحمينا من شياطين لا تسكن إلا في خرافاتنا ومنازلنا المعتمة..
ولماذا يرتجف صوت المؤذن ظهراً أو يقطر دماً عند الفجر، ولماذا لا يجرؤ أحدنا على الصرّاخ إلا في منزله وعلى من يستحق المؤازرة؟!
زمن أغبر من سابقه وأحزن من تاليه، لأننا فيه لا نجيد سوى البكاء وترتيب الأحلام حسب صراخ الأب والزوج.. والمختار.
بلد قايض بمفكريه أسلحةً لدمار الباقي.
واشترى ما يلهي الأغبياء، اشترى صوراً لنساء الغرب يتباهين بأثدائهن أمام شهوة الكبار والصغار، المذبوحة على رائحة الأحلام.
بلد توأد فيه الأنثى لو عرفت أنَّ لعَرقِها رائحة الدّعوة. ويداس فيه الرجل لو سمح لقلبه أن يقوده إلى أنثاه.
بلد يستسلم للعرّافين كي يَقْبَل الزوج بقرته وكي تَقْبَل الزوجة بغلها..
ولدتُ في صفصافة على خد ساقية خلف رابية عجوز، عرفت فيه نغم الترقرق وصراخ الرق. وعرفت فيه أنني لو أردت الحياة فيجب أن أبقى الأعلى ولو على تلة الجثث التي نأكل لحمها كل يوم.
قرية خلف إحدى الروابي وعائلة خلف جدار الجهل، كيف يهرب والدي من نظرة الشفقة في عيون الجوار فبيته لا يحوي إلا النساء، أمي وأختي ميس وأنا، رولى وهو الديك الوحيد فوق هذه المزبلة.
أدرك والدي أنه في ورطة طالما أنَّ خلفته بنات، وعرف حجم الكارثة لو أن أثداءهن تشامخن إلى حدّ النهوض بالقميص إلى أحلام الشباب، ووالدي بحكم تجارته يعرف الثمين من الرخيص فقرر الرحيلَ بكل مخاوفه إلى بلد لا يعرفُ عن ثرائه سوانا أنا وأختي.
وكعادته حمل في ذاكرته كل شوائب البلد وتدثّر بنسيمه ذات صباح وغادره باكياً.
سافرنا إلى بلد ضاع فيه والدي (بيروت) فلو بقي بسرواله لصار أضحوكة الشارع. ولو خلعه لبقي طوال عمره يبكي على نفسه، وكأنَّه خان كل من تركهم خلفه. ظل والدي ستة أشهر يشعر بالبرد أو بالخوف.. لست أدري لكنّ صوت نحيبه في الليل كان يقول أنه يشعر بالضياع..
لم تكن أمي مثله وكأنَّ النساء أقدر على التلاؤم مع المحيط، أو لعلهن أكثر نسياناً، ومع مرور الوقت كان أبي يستسلم لقرار البحر.
صعب على من عاش موارباً خلف الهضاب أن ينفتح مباشرة على المدى. والبحر!! أستاذ يعلمكَ كل يوم حكمة من أسراره تفاجأ أنه قد لا يكررها ثانية.
بيروت تلك المؤهّلة لأن تكون جنة الله على الأرض تخشى من عبادها غير المؤهّلين للإقامة فيها.
وتخشى من رائحة الجهل القابعة تحت رؤوسنا.
ومن رائحة الجبن العفنة التي تسكن عباءة والدي، ويرفض أن يرميها وكأنها التاريخ الذي يربطه بكلّ البقر هنا.
كي يهرب من ذاته أكثر فاجأ أمي بالرحيل إلى البرازيل على ظهر سفينة يعمل عليها بأجرة نقله إلى هناك. ولم يحدد موعد العودة وكأنه يخيّرها بين العودة إلى قريتنا وبين العمل لتأمين حياتنا.
فهمتْ أمي لغز التحدّي لكنها فضّلت الصمت ككل نساء الشرق على مواجهة الخوف القابع في عينيه، وعلى هروبه من المسؤولية، ومن نحيب ابتعد أخيراً مع بوقٍ قاسي النبرة، كركاب السفينة.
نسيتُ شكل أبي مع الأيام وبقيتْ أمي تحفر صورتها في مخيلتي. كيف تشتري حاجات نساء المبنى، كيف تحمل أكياس القمامة، وكيف تشطف الأدراج، وكيف تحوك الثياب، وكيف.. وكيف.. كبرنا على حساب تعبها. وأبتْ تعليمنا إلاّ في مدارس أجنبية. تضحك أمي من لكْنَتِنا لكنّها تضّمنا دائماً كمن يحتفي بجائزة عالمية. ومن حظّنا كان الجمال يتوّجنا كل يوم في أعين العابرين والمقيمين في مبنانا، لدرجة جعلت أمي لا تغادرنا لحظة، خاصة أختي ميس التي تصغرني بثلاث سنوات.
ميس الغندورة، هكذا كان لقبها، يندى الورد لو مرت ميس قربه. إنها قصيدة تمشي على قدمين. وكي تحافظ أمي عليها أكثر أدخلتها معهداً لتعليم رياضة (الكراتيه) مما جعل كل فتيان وفتيات الحي ينتسبون إليه.
وأمي التي تسأل البحر كل يومٍ عن سفينة ينعقُ فيها بوم الغياب وتأخذُ الأمواج دموعها لتضفي على البحر ملوحة الحزن، ثم ترمي بصوتها إلى صخور اليأس، ويعود الزبد حاملاً معه هلام الذكرى.
أمي ما كنتُ أظنُ بعد هذه السنين أنكِ أقوى من النسيان.
يكفي نداء عليه وإن عاد فماذا سيضيف لنا سوى نميمته المتأصّلة.
يذهب إلى الغرب ويعود حاملاً قصصاً لا تعني أحداً منا سوى تمضية ساعات من الزمن يتثاءب القمر فيها على سرد حكاياته.
ـ بيروت ونيسان عاشقان منذ طفحتْ خدود شواطئها بحمرة الشمس بيروت ونيسان لوحة لا تقاوم مشاهدتها كل صباح ومساء.
يتململ فيك الحزن حتى ترميه وتهرع إلى مصاحبتها بحثاً عن مضاجعة وقت لا يملّك.
في منتصف التأمّل، وأمي ترتّب بكاءها على شباب مضى، يعلن التلفاز عن وصول سفينة من البرازيل بعد خمسة عشر عاماً.
ينزل والدي سلّم السفينة مرتدياً بدلة بيضاء ويحمل حقيبة دبلوماسية سوداء وفي يده الأخرى قبعة تقول: إنه رمى تاريخه في عَرض البحر قبل أنْ يغادر.
صرختْ أمي: إنه هو والدكم. تسمّرتْ أمام التلفاز الذي يعرض كبار المستقبلين وتعليق المذيع عن تاجر البن الكبير العربي الأصل الذي يزور بيروت بعد غياب طويل.. والذي سيدعم الاقتصاد المحليّ بمشاريع كبيرة.
انهارت أمي على أريكتها الصّبورة لا تدري ما تفعل..
هل تبكي أم تضحك، كل ما فيها يهذي، إلى أن حالفها الإغماء واسترخت. نظرتُ إلى ميس، كانتْ تقيسُ بشغب مقدار الشوق في حركات أمي وتُلقي بعض التعليقات بدهشة حيناً، وبفضول أحياناً.
وكانت تراودني دموع ثم تختفي دون إرادة مني، فأنا لا أقوى على ترجمة مشاعري إلا بالهروب.
مسكينة أمي.. فقياس المسافة بينها وبين والدي بات صعباً. ولكن ليس بقدر صعوبة أن يرانا بهذا الشكل.
فاته الكثير من تفاصيلنا ولم نكُ ننوي قبل اليوم أن نعرف شيئاً عن تفاصيله إنه ببساطة نذر نفسه للغربة.
الآن عرفت لماذا لم تغيّر أمي مسكننا كل هذا الوقت، ليدخل علينا حاملاً شوقه وآماله وأمنياته ويرمي لنا بما يحمل من متاع متّسخ وببعض الهدايا التي يظن أنها تسدُّ جوعنا إلى الأبوّة، وكأنّ الأب هديّة بعد طول هروب. رششتُ على أمي ماء الزهر لتصحو وأمي لا ترش إلا بماء الورد والزهر. تماثلت إلى اليقظة وتساءلت:
هل حضر والدكما؟.
ليس بعد.. ما زالت تعاند دقات قلبها، إلى أن سمعنا صوت الجرس، هرولت ميس لتفتح الباب، تسمّرت أمي في مكانها، إلى أن دخل بكامل شوقه وبعنفوان رجولته، يختصر الزمان بكلمات بسيطة! ويقول:
ها أنذا قد عدت كيف حالكم؟!
أول من ركض إلى احتضانِهِ أمي، فما كان منه إلا أن قال: (عيب البنات هنا). وقعت أمي أرضاً تلملم خيبتها، وتخلع له حذاءه؟!
وتقول: تعالين يا بنات قبلن والدكما.
تعالت أصوات ضحكاتنا المدوّية مع شهقات أمي اليائسة ونحن نقول أوه "نو" "إمبُوسِبل".
صعب عليك أن تصف حزنك بالمقتضبِ من الدموع وصعب عليك أنْ ترسم ابتسامة على شفاه القهر.
إن يخذلك القدر، فتلك صفعة لم تكُ تتوقعها لكنك لا بد ستستسلم لحزنها رضيت أم أبيت.
أما أن يخذلك من تحبّ تاركاً ظهرك لكل طعنات الغدر فلا بد يوماً سيستفزك جرح وتغلي في شرايينك كل الطعنات دفعة واحدة.
وهذا ما جعل أمي تستذئب فجأة خاصة بعد أن رأت مجلّدات الصور وعشرات الفاتنات يقفن قرب والدي كاشفات الرأس، عاريات الصدور والأفخاذ. | |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:56 pm | |
| تتمة الفصل الأول
يأتي إلى هنا متأبطاً مجلّداته ليقول: (عيب البنات هنا)!!
كيف تقبل أمي كلّ هذه التنازلات دفعة واحدة، وهي من ركنت أنوثتها خمسة عشر عاماً على الرف لتعمل كآلة مبرمجة من الصباح وحتى يهدّها التعب كيف؟! وهي من مزّقتْ من عمرها أروع الصفحات.
صفحات الشباب ورمت بها في موقد الغياب يتناثر رمادها يوماً فيوم.
أظن أن أمي ما عادت تعرف كيف تمسك مشطاً، أو تضع في عينيها كحلاً أو حتى ترتدي ثوباً مغرياً. صارت تخجل من نفسها لو فعلت ذلك.
وأظن أن أمي على طول الهجر عادت عذراء. فهل تراه الآن سيعود إليها. ينقر على ثدييها طالباً جرعة حنان أو شهوة، وأمي وزّعت حنانها علينا صارتْ تحلم لو أنها تضع رأسها على صدر يفهم بالفطرة عودة الأنثى إليه. إلى السند.. إلى الحائط الذي يحمي انهيارها. لكنّ المشكلة أن أمي كان تسند جداراً من الوهم تخاف في كلّ لحظة أن يخفي ظلها تحت الرفات.
وأبي يُكْبر أمي فينا كلما رآنا نتفتل في حُجرات البيت. كانتْ دموعه تحكي.. لكننا لم نعتد أن نرى رجلاً في بيتنا، كنا نتصرّف بحرية أكثر لا نحسب حساب عُرينا. نخرج من الحمّام بعد أن نوْدع أصوات غنائنا هناك. و لكن بعد قدومه صارت المسجلة مبحوحة الصوت، والتلفاز غائرَ النظرة، ولا يسمح لنا إلا بالأخبار.. صرنا أكثر تحفظاً من ذي قبل. حرّمت علينا أشياء كثيرة مثل (الإنترنت) ومحادثة الأصدقاء والدخول على مواقع محظورة.
حتّى الكتب التي كنت أعشقها وأسبح معها في عوالم أخرى صارت تخضع للمراقبة. يسمح لي بقراءة الكتب الدينية والجغرافية والتاريخية. أما الكتب التي تتحدث عن الفلسفة والحب والحياة وقصص المغامرات والقصص البوليسية. فهي حسب اعتقاده صارت خارج المنزل. الحمد لله أنه لا يدري بما يحويه صندوق سريري من ممنوعات رائعة عن نزار وعن الروايات العالمية والعاطفية لو كان يدري على ماذا أنام، لكان اعتبر نومي فعلاً أشنع من الزِّنا.
آه يا أبي لو أنك تتعلم لغة (الإنترنت) لكنت أكثر سعادة مع أمي وأنت يا أمي كم ينقصك من الجرأة لتقتربي من جهاز الكمبيوتر تخافين منه وكأنه أحد أبطال الروايات الخرافيّة في قريتكم.
متى تخرجون من القمقم متى تتحرًّرون من الآخر فيكم، وترمون خوفكم في سلة الماضي متى يتحوّل الآخر إلى سند لا إلى قيد.
خلعتَ يا أبي سروالك الخارجي، يبقى أن تخلعَ سروالك الداخلي، وتخرج من عقدة القطيع.
كيف أقولُ لك بكل صراحة إنني إنسان يعشق ويحب ويرغب. ولست مضطرة إلى كبت كل ما أحبّ لأنه لا يوافق اعتقاداتك وأنا منذ أتيتَ أحتال على الظروف لرؤية وليد، أضعته مني برفضك الجائر له. أرجوك أن تفهم أنني اخترت وليداً حبيباً وزوجاً وأتمنى أن تبارك ارتباطنا لا أن تهدم بلحظة ما بنيناه سنين.
حتى ميس حطّمتَ قلبها. كَسَرْتَه مئة شظيّة فأنت لا تدري كم تحب فؤاداً. ففؤاد كان الدّم الذي يسري في عروقها كان الهواء والسّماء. قتلتَ أجمل حلم داخلها..
كيف تقبلُ أن تحطّم قلبين، وتبيع الحبّ بأرخص ثمن، أو بلا ثمن وتقبل بزواجها من ذلك التّاجر وترسلها إلى بلد آخر. كم يكوينا الجهل بجمر العناد.
زوجتها لمن تراه أنت أهلاً لها مالاً ومركزاً. لكنها ليستْ سعيدة. كم يرهقنا ويقتل مشاعرنا عقل من عقول التجار؟! كلما حاورتك أشعر أنني أدق بإزميلٍ على صخر من صوّان.. العناد غباء ولكنك تبدو أكثر غباء لو حاورتَ عنيداً.
استسلمنا لقرار والدي بزواج ميس من ذاك التاجر الذي لم نعرف عنه سوى مظاهر الثراء وتلك الأموال التي يرشّها على أختي ليسحب منها ابتسامة.
غادرت أختي إلى دبي بلاد الذهب الأسود. لم تقطعنا أبداً من رسائلها واتصالاتها ولهفتها. ولم تشهد أيضاً ذاك الحادث المشؤوم لوالديّ.. تركتني أعاني هول المصيبة وحيدة.
كان والدي حديث التعلم على قيادة السيارة، وعندما قرر أن يقوم برحلة بين الجبال، تدخّلت أمي لتحسم قدرها. لأول مرة أرى أمي بهذا الإصرار، وبهذه الرغبة، علماً أنني حاولت إغراءها بمسرحية رائعة للرحابنة أو بحضور مهجران شعريِّ أو حتى فيلمٍ في إحدى دور (السينما) أبتْ كل ذلك. أظنّها كانت تودّ أن تعيد ذكرياتها الأولى مع والدي. ما كنت أظن أنّ حتفها على كتف طريق في الجبال.. انفجرتْ السيارة وتفحّمت الجثتان.
لم أستطع النظر إليهما عندما بلّغتني الشرّطة. تعرفت فقط على رقم السيّارة وعلى حقيبة أمي الجلديّة التي سلمت من الحريق.
ولم أستطع أن أخبر أختي ميس إلا بعد مراسم الدفن وبعد أن استطاع لساني أن يعيد ذاكرة الكلام..
وليتني ما فعلت. فشهقتها فجّرت في كياني كلَّ الأحزان وصوت ارتطامها على الأرض جعلني أصرخ وأنادي. ولكنّني لم أعرف عنها شيئاً سوى بعد يومين حيث حادثتني من المشفى وهي أكثر انهياراً مني.
تعلّمنا بعض المحن أن نكون أقوى، هكذا نظن، وهي في الحقيقة تكون قد صلَّبتْ جزءاً كبيراً من أحاسيسنا. حتى نموت ونحن واقفون، نمشي كالأشباح لا نرى شمساً ولا شجراً ولا حياة. من يشغله عالمه الداخلي لا يرى خارجه، ومن يشغله ما هو حوله لا يفطن في بعض الأحيان إن كان سعيداً أو حزيناً، جائعاً أو متخماً، وهكذا مع مرور الوقت تحوّلتُ إلى تمثالٍ أو آلة، أستيقظُ بنظام. أذهب إلى عملي، أعود لأنام. أدخل مرحلة الإفراغ. أنام لأشحن من جديد.
وأنا في غمرة أحزاني في زاوية منسيّة تحت ركام الأيام، انتشلني رنين جرس الباب من ضياعي. كنت أقلّب صوراً ورسائل وأنبش في الماضي بحثاً عن إحساس يؤنس وجعي، عاود الرنين إصراره. أحقاً مازال جرسنا يعمل؟!
أسعدني سماع صوته حتى لو كان لعابر سبيل.
قمت أتمطّى من سبات الحزن، أنتعل ومضة حسٍ عابرة، وإذا بأختي ميس بعد غياب سنة ونصف، بقامتها، بلهفتها، بدموعها. بذراعيها، أشهد أن الوطن كان ذراعي ميس وحضن ميس.
مازلت لا أصدق عيني..حملتْ حقائبها. رمتْها في زاوية ميّتة ثم خلعتْ حذاءها ومعطفها. وبدأتْ تنادي أمي.. أبي ها أنذا قد عدت. كانت جدران البيت تهتز. كما كانت أعصابي قد أصيبت بنوبة زلزالٍ فجأة. ثم أخذتْ تتحدث بصوتٍ عالٍ ليسمع الأموات.
قالت: كيف يجرؤ الموت على أن يأخذ أعزّ من لدينا ويتركنا هكذا للفراغ؟! وكيف تستطيعين العيش هنا مع كل هذه الوحشة؟! مع هذا القبر؟! لا يسمى البيت بيتاً إلا بأهله. صار قبراً لكلّ ضحكاتنا. لكل ذكرياتنا!!
أشمّ رائحة أمي في زوايا المكان.. لكنني لا أرى سوى غبار غيابها وانطفاء الموت!!
رمت بنفسها على سرير أمي وأجهشت بالبكاء، وأنا ما زلت أفك عقدة لساني ودهشتي وأعيد إلى ذاكرتي تلك الأبجدية، وأحاول النطق لعلّ لساني فقد صلاحيّة الكلام.
ـ ميس أنا هنا أشتاقك جداً. أحتاجك جداً.. يكفي، وحاولي أن تستجمعي قواك. سأُعِدُ فنجاني قهوة بينما تخلعين ثيابك، فردّتْ : فنجانا قهوة فقط اثنان يا رولى؟!!
تجاهلتُ قصدها وهرعتُ إلى المطبخ، وبعد أن عدتُ وجدتها نائمة وشاحبة.. جلستُ أتأمّلها، كم كانتْ رائعة!! حتى بحزنها رائعة.. سبحان الخلاق!!
في الصباح أيقظتني برائحة قهوتها، وبرائحة صابونها وعطرها، وبرائحة الأرض التي تسللتْ من نافذة خجولة تردٌّ لنا عبق الأموات.
تحادثنا طويلاً وفهمتُ أنها أتت لتقيم معي بعد أن أنهتْ علاقتها الزوجية بسلامٍ وتراضٍ، وأنها لن تعود أبداً إلى تلك البلاد المحمومة.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:56 pm | |
| الفصل الثاني
بعودتها عاد إلى جفوني الكرى, وعاد إلى دمي دفقه, وعاد إلى حسي بعض الدفء. شعرتُ بأنني المسؤولة عنها. ألستُ الكبرى؟
لا شعورياً صرتُ أقوم بدور أمي. وبعد فترة لاحظت ميس أنني أشبهها بجميع حركاتي وسكناتي, بحناني وتفانيّ المطلق. لكنها لا تدري أنها السبب الأعظم لوجودي. هي من أعطتني هذا الدافع لأحيا, ومن أعادتْ البسمة إلى وجهٍ كان قد حنّطه اليأس.
أحاديثها المشوّقة أعادت إليّ الانفعال, وحزنها في بعض الأحيان كان يحفّزني, فأقوم بأعمالٍ ما كنت أظنّ أنني قادرة عليها.
فمثلاً اليوم طلبتُ من لؤي زميلي في العمل محادثتها على الهاتف.
ولؤي يحبها حقاً وكان قد طلب مني يدها لكنها لا تراه.. لا ترى إلا فؤاداً.
البارحة كانت ميس متوعكة, وطلبتْ مني اصطحابها إلى الطبيب.
وبعد أن خرجتْ من غرفة المعاينة تشاغلت عن سؤاله ودسّت دمعة في جيب منديل متعب ومضتْ دون إجابة.
ما زالت ميس رغم طلاقها غاية الرجال ومحطّ الأنظار. ترشقها النساء بنظرات الحسد, ويرشقها الرجال بنظرات الإعجاب, حادة الذكاء وحادة الطباع.
فعندما سألتها ما قال الطبيب قالت: كلام تافه مثله تماماً, ومثل هذه الدنيا أيضاً. بعد نزولنا حاولتُ استنطاقها ولم أُفلح لم تنطق سوى بضع كلمات: أسرعي قليلاً سيارتكِ مثل سلحفاة عجوز.
دخلتْ مسرعة فرنين الهاتف عجّل من خطوتها.
رفعت سماعة لاهثة وقالت: آلو نعم.
ـ أحبّك.. بُهتتْ.. صمتٌ اغتال أسلاك الهاتف.
ـ تابع أحبّك ميس.. أشتاق إليكِ أحتاجك قربي أرجوك قولي نعم.
ـ أهلاً سيد لؤي..
ـ سيد لؤي ياه أشكرك على هذا الاحترام أقول أحبك لتقولي سيد لؤي.
ـ عفواً أرجوك لو كان لديك ما تقوله قل ويكفي تجريحاً.
أنا من أجرّح.. لا ليس لدي أكثر مما قلتْ.
ـ حسناً إذاً رافقتك السلامة.
أعادت سمّاعة مذبوحة إلى مكانها, وانهارت فجأة على كرسي اعترض على ثقل جلستها بإصدار بعض الطقطقات الخفيفة, ثمّ قالت: كيف أُفهم من حولي أنّ الجليد بركان يغلي وأنني حرّة في اختياري هذه المرّة.
ومتى يفهم فؤاد أيضاً أنني لا أقبل المساومة على كرامتي, وأنّني لستُ رقماً في سجلّ مفكرته, أو صفحة يكتب عليها ذكرياته كلما أحبَّ المتعة. سأكون تاريخه يا رولى وغداً ستعلمين كيف يكون الحبّ تاريخاً. هل تُراني أعاقبه بإهمالي له بعض الشيء أم أعاقب نفسي؟!
فقلت لها: اتركي له فسحة من التفكير يا ميس.
ردّت الكارثة تكمن في الحريّة وغياب الرقيب. لست أدري تتقاذفني الأفكار كريشة منهكة من إعصار.
ـ سياط الزمن قويّة.
ـ الأقوى حِبال اللاءات يا رولى.
ـ اعتذرتْ لتغيّر ملابسها. بدأتْ تفكّ أزرار القميص. أظن أنّها الآن تبكي لفراق جسدها, وأن الحاجات بدأت تترامى لتحظى بملامسة جسدها.
فاتنة أنت مثل الربيع ومثل حوريات النعيم.
في الصّباح أيقظها المنبّه. أخرستْ رنينه بإصبع متعب واستجابت فوراً لليقظة فالطّبيب طلب منها تحليلاً سريعاً للدّم.
ارتدت قناع الحزم وأغلقت خلفها كل الأفكار وغادرتْ إلى مصيرها وبدأتْ تحادث نفسها.
لن أيأس ويجب أن أُشفى. ففؤاد يحتاجني قويّة جميلة وإن كان زوجي طلّقني لظنّه أنّني لا أنجب. فغداً سأنجب من حبيبي ما يشتهي يجب أن أبقى بذات الألق.
نتيجة التحليل قد تأخذ راحة بالي عدّة أيام ولكن لا بدّ من مواجهة الحقيقة مهما كانت قاسية.
بعد التحليل خرجتْ متثاقلة, وفجأة لمعتُ في ذهنها فكرة أن تشرب معه القهوة.. دخلت ممراً طويلاً وهي تقول: إنه هنا.
رائحته تصلني. عطره ينعش رئتي مثل نسيم الشوق, وهذه الأغنية هي ما يجب سماعها حال وجودنا سويّة.
ـ دخلتْ كاللص لتسرقَ لهفته, لكنّ ما حصل سرق عقلها.
ـ مُنى؟!! أنت هنا. قالتها بذهول ثمّ أضافت أين فؤاد؟!!
ـ إنه في الحمّام.
ـ نظرتْ ميس إلى فنجانين من القوة مشروب نصفاهما وتساءلت في نفسها أيكون ارتشاف الشفاه أدعى للصحوة أم للسكر؟! فما كان منها إلاّ أن تركتْ المكان وهي تتمتم بألفاظ سيئة وشياطين العالم تتقافز أمام عينيها, وتحادث نفسها بلوم شديد:
ـ غبيّة.. أنتِ غبيّة يا ميس جئت لتفاجئيه ففاجأك القدر.
تركتِ لأجله مالاً ومركزاً وجاهاً. تركتِ من يحبّك ليعاقبك القدر على عذابه بذات الطريقة.
نزلتْ على سلمٍ هوى بها من قمّة اللهفة إلى قارعة الجنون, مع قمّة الشوق إلى وحل الواقع.
كانت دموعها تركض قبل قدميها, ورائحة المكان تنذر بالنتانة.. كيف تنقلب الأمور فجأة دون إشارة أو إنذار؟!!
دخلت بيتها منهوكة الدمع, مقهورة الخطوة إلى سريرٍ ما زال يحلم باحتضانها إلى الأبد.
لم أكُ أدري ما بها. تجاهلتْ وجودي, أو لعلّها لم تحسّ به أصلاً.
كنت أراقب اختلاجاتها وشهقاتها. أنا أعلم مَنْ وراءها, لكن لا أعلم السبب المباشر لها, وأعلم أيضاً أنّ أحلامها وهم.
لكنني أشفقت على النعجة المذبوحة من السلخ. كان بإمكاني قول أشياء كثيرة عن فؤاد أثناء غيابها.
لم أكن أنقل لها سوى ما تحبّ سماعه في الغربة عن أحباء تركتهم.
كيف.. أقول لها إنه أكثر من مرّة حاول مغازلتي وملاطفتي وأشياء أخرى؟!
كيف أقول لها إنه مدمن نساء, وصيّاد متعة, وهي ذاك النوع الخاص جداً الذي يسكره؟!!
كيف أقول لها إن ما تعتبره عشقاً هو بمنتهى البساطة قمّة الرذيلة؟!
كلما مرّ قربي أشعر بأنه يستنشقني ويعلّق ببساطة (أنتِ من ريحة الحبايب).
بعد أن امتلكتْ زمام نفسها قالت ببساطة:
ـ رولى: هل أنا غبيّة أم غبيّة؟!
ـ فقلتُ ضاحكة: الأولى.
فردتْ بل غبيّة.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:57 pm | |
| لا خلاف في ذلك. المهم السبب في قولكِ هذا؟!
تردّدتْ قليلاً ثمّ حكت لي عن ظنونها في تلك الجلسة المشبوهة, وكيف جن جنونها وتركت المكان ورحلت. فقلت لها:
ـ لا.. أنتِ حقاً غبيّة لأنّك اكتشفتِ هذا مؤخراً جداً. ففؤاد يا عزيزتي بكلّ بساطة تخرّج من كليّة العشق فنان مداعبة.
ـ وما أدراكِ أنتِ
ـ أنا أنثى يا ميس وأدرك بحدسي أشياء قد لا أجرؤ على قولها.
ـ ها.. وماذا أيضاً؟!
ـ إنه رجل يدّعي الأخلاق, كما يدّعي بعض رجال الدين لحاهم. وهو أستاذ, ويشهد له أنه قادر على كسب أي امرأة.. لسانه حصانه.
ـ وهل كسِبَكِ أيضاً؟!
ـ كان ممكناً, لولا معرفتي بإعجابك به.
ـ ليس إعجاباً يا رولى. إنه حبّي الوحيد.
ـ نعم أدري لكنكِ لستِ كذلك.
ـ هل تعلمين شيئاً لا أعلمه؟!
ـ لا.. لكنّه متزوج وليس مستعداً لأن يتنازل عن زوجته رغم ادّعائه بحبّك.
ـ لا يستطيع يا رولى. إنها من العائلة وهناك روابط عائلية تمنعه من تركها وعندهم أولاد واحتملت معه حياة قاسية.
ـ ها.. إذاً المفروض أن يقدّرها لا أن يعشق عليها.
ـ العشرة من قاربت بينهما وليس العشق.
ـ ولماذا لم تقرّب العشرة بينك وبين زوجك.
ـ رولى أنت تعلمين تماماً كيف تزوجت, وأنا لا أكره زوجي بل كنت أشفق عليه, ومع هذا لم أستطع يوماً أن أخونه حتّى بالكلام واتفقت معه على الانفصال.. لأنني ما أحببته يوماً, ومع هذا تركني حزيناً, وطلب مني العودة حال اقتناعي فيه.. القناعة شيء والحب شيء آخر.. زوجي الأنسب لي وهذه قناعة. لكنّ قلبي أرّقني كثيراً. لو تعلمين مقدار حبي لفؤاد.. رولى ببساطة, لا يخفق قلبي إلا معه. ولا أشعر بأنني أثنى إلا معه. وخوفي من خيانته دفعني لمصارحته.. في البداية كان الموضوع كارثة عليه, ولكن بعد مدة شكرني, وأكبر فيّ صراحتي وطلقني.
ـ رولى أنا بالأساس لم أستشرْ بزواجي. كان زواجي صفقة تجارية بين والدك وبينه.
ـ حسنٌ يا ميس.. إنسي.. إنسي الماضي, ولكن افتحي عينيك كما قلبك.. ليس سهلاً عليك تجربة جديدة.
ـ رولى أتسمين فؤاداً تجربة؟! إنه كل حياتي. هوائي مائي سمائي وأرضي, الدم الذي يجري في عروقي.
ـ هيْ.. فهمتْ.. فهمتْ.. أنتِ حرّة.
ـ نعم حرّة ولن أدعه مرة أخرى.
ـ إذاً لماذا هربتِ؟!
ـ لست أدري. أخاف أن ينهار هذا العملاق أمامي. لتخذلني كلّ الدنيا إلاّ هو.
ـ عملاق؟! إنه ببساطة إنسان عادي وأقلّ من عادي.
ـ أنت لا تعرفينه.. لو كان عاديّاً لما تهافتت عليه كل النساء.
ـ أي نساء يا ميس. إنهن ببساطة عوانس آخر زمان.
يسعدهن بألفاظٍ لم يسمعنها مطلقاً.
ـ وهل أنا عانس يا رولى.
ـ لا أنت مطلّقة يا ميس.
صمتتْ فجأة وأطرقتْ طويلاً ثمّ قالت: وما يعني هذا يا رولى.
ـ أربكتْني وشعرتُ بالأسف لكنني تابعتُ: أنتِ بالنسبة له فريسة سهلة, خاصة أنه يعرف بأنكِ تحبينه.
ـ هكذا ترين الدنيا يا رولى.
ـ أي دنيا يا ميس؟! أنا لا أرى شيئاً, بل اسمع قصصاً تقشعرّ لها الأبدان.
ـ مسكينة أنت يا رولى!!
ـ كلنا مساكين يا ميس.. كلنا مساكين.
اختارت زاوية واخترتُ أخرى. جلست أفكر بما قالت وأعلم أنها تفعل الشيء ذاتهُ. بعد حوالي نصف الساعة نظرنا في عيون بعضنا بعضاً ثمّ أطلقنا في وجه الأيام ضحكة يائسة. وجمعنا سرير واحد إلى صباح الغد.
جلستُ طوال الليل أحادثها دون صوت. هاأنذا يا ميس مهندسة في شركة كبيرة. لي بيت وسيارة ورصيد يكبر يوميّاً في البنوك, وينقص يومياً من عمري, يأخذني الواجب بعيداً عن نفسي, يسرق مني شباباً ما عرفت قيمته إلا بعد أن رسم الحزن خطوطاً ناعمة تحت عينيّ, فعندما رفض والدي زواجي من وليد لاعتبارات اجتماعيّة في زعمه. رفضتُ الزواج من غيره إلى أن كواني القدر بوحدة أبديّة, ومع هذا لم يفعل ما فعلت. كواني أيضاً بزواجه من غيري, وأنا لا ألومه, فأنا من نذرتُ نفسي للهلاك. للأيام تركض على ملامحي ركض العابث المستهتر. لعلّه فكّر جيّداً. وهاأنت أيضاً يا ميس تدفعين ثمن حبّكِ طلاقاً وضياعاً. يجب أن نتحوّل.
فالماضي ذكريات تالفة, والحاضر تعاسة مخيفة. بقي أمامنا المستقبل. لا بدّ من المستقبل. إنه النافذة الوحيدة على الحياة, والأمل مفتاحها, ولم يفت الأوان بعد. سأقهر كلّ أفكار اليأس وأمضي إلى الأمام.
نظرتُ في وجهها. لم أجد فيه سوى علامات السخرية وكأنها تجيبني بالتهكّم ذاته. في الصباح رميتُ الغطاء عنّي كمن يرمي الماضي كلّه في حاوية.
قمتُ رشيقة جداً. تناولت جرعة أخبار, وحبة أمل, وأخرى للنسيان, وتقدمتُ من ميس.
ـ هل تذهبين معي إلى السوق فأنا اليوم في إجازة؟!
ـ لا.. أنا متعبة. اذهبي وتمتّعي بوقتك.
ـ هل تودين أي شيء من السوق؟!
ـ أرجوك أحضري لي مسكناً قويّاً أو منوّماً.
ـ أتشكين من ألم ما؟!
ـ لا. أريد النوم فقط. فأفكاري تؤلمني.
ـ أفكارك؟!.. حسنٌ دخلنا في الفلسفة.. ردّت:
ـ بل شعري وأظافري.
ـ حسنٌ إلى اللقاء.
ـ أغلقتُ الباب لأرى جارنا أبا فادي وأبادره السلام:
صباح الخير.
ردّ مندهشاً: صباح النور.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:57 pm | |
| جارنا أبو فادي كزوجه من هواة الثرثرة. لم أنتظر منه أي سؤال. تابعت النزول, وما زال يتبعني بالاندهاش ذاته. والحق معه فهو لم يَرَ ابتسامتي منذ وفاة والديّ ولا حتّى رشاقتي. وكذلك الأرض كانت تشتكي ثقل خطوتي. أشعر الآن أنني برشاقة ريشة. يا إلهي كم تغيّرنا الأفكار.
استقبلتني واجهات المحلات بالتأهيل. اخترتُ كل الألوان التي لم أكن أرتديها. اخترت القصير والضيق والشفاف. موضة العام. اشتريت أدوات تجميل فاخرة, وعطوراً وأحذية لامعة, وحقائب غريبة, ولفافات للشعر, وأدوات زينة منزليّة أيضاً لتحسين الديكور.
اكتظت سيارتي بالحاجات. خسرتُ مالاً لم أصرفه طوال حياتي على نفسي. لكن لا بدّ أن أربح ذاتي وأخرج من ذاك القمقم.
شعرتُ أنني بحاجة ماسّة لفنجان قهوة وسيجارة, دخلت مقهى كنت أخشاه, لست أدري لماذا. وكأنّ دخوله الآن بمثابة دخول بوابة التحدي مع ذاتي. وكم كنت سعيدة لأنني اقتحمت مكاناً كنت أخشاه.
كان المكان هادئاً. أصوات الموسيقا تدعو للاسترخاء. لكنّ الوجه الذي أمامي سحب مني تلك الفرصة. وجه حلمتُ كثيراً أن أراه. أيكون هو؟! بدأ قلبي يعدّل من نبضاته وازدادت سرعته لمجرّد التخمين.
نعم يشبهه كثير اً. تسع سنوات كافية لتغيّر قليلاً من هذه الملامح. نعم إنه هو, قلبي يحدّثني بذلك. ركّزت في وجهه مباشرة. لن أترك للتردد فرصة اللعب مع أعصابي, تقدمتُ منه كان يقرأ جريدة. ثمّ انحنيتُ بلطف قائلة:
ـ عفواً يا سيدي ألست وليداً!!.
ـ رفع رأسه بعفويّة وقال: من رولى؟!
ـ نعم بلحمها وشحمها.
ـ بل قولي بعظمها وجلدها. أهلاً رولى تفضلي بالجلوس.
ودون تفكير استجبت لدعوته.
ـ كم أنا سعيد.
ـ كم أنا محظوظة.
ـ أخبريني عن أحوالك.
ـ لا أريد سوى سماع صوتكَ.
ـ هيْ رولى.. نحن في مكان عام. صوتك عالِ لم أَرَكِ بهذا الاندفاع سابقاً.
ـ وليد هيا.. احكِ لي عن أخبارك. هل أنت سعيد بزواجك؟! هل لديك أولاد؟!
ـ سعيد؟ هذه كلمة غريبة على مسامعي كيف أكون سعيداً وأنتِ بعيدة عني؟!!
ـ هل تعني أنك كنتَ تذكرني.
ـ ومتى نسيتك يا رولى؟! إنك هنا في القلب. لم تغادريه لحظة.
ـ وليد: أشعر بدفق غريب. بنبض جديد. كدتُ أنسى أنني أنثى.
ـ رولى أنا لا أصدّق ما اسمع. هل أنا في حلم أم في علم؟!
ـ هات يدك لأقرصك!!
وتلاقت الأيدي بحركة عفوية. قلبت موازين الدنيا كلّها.
ساد صمت غريب, واشتعال بركان قلبي مرة واحدة.
ـ رولى أين كنتِ كلّ هذه السنين؟!
ـ في زوايا النسيان.
ـ وأنتَ؟!
ـ في زوايا الذكريات. رولى هل تكونين لي؟!
ـ إذا أردت أن تكون لي أيضاً.
ـ أنا مرتبط ولديّ أولاد!
ـ أعرف والشرع حلّل زوجات أربعاً.
ـ لا أستطيع يا عمري. إنها ابنة عمي وتربطني من هنا من عنقي.. هذا عدا عن أحوالي المادية السيئة.
ـ يكفيني قلبكَ ونتزوج سراً.
ـ لا أرضى لكِ هذا.
ـ إذاً ماذا تريد؟!
ـ أريدكِ جسداً وعقلاً وقلباً.
ـ كيف بدون ارتباط..؟!
وماذا تعني لكِ هذه الورقة إنها مجرّد ورقة.
ـ صك الزواج مجرّد ورقة. إنه من يبيح شرعيّة علاقتي بكَ. من يحميني من ذاتي. منك. من المجتمع. لا يا وليد ليس مجرّد ورقة.
ـ لكني مقيّد ولا أجرؤ على ما تقولين.
ـ لك الخيار في أن تضيّعني ثانية.
ـ رولى أرجوك. قولي نعم.
ـ على ماذا يا سيد وليد, على صك عبوديتي لك؟! عن تنازلي عن كرامتي؟! بما تختلف أنت عن أي عاهر يشتري المتعة بالعواطف. لن أقبل بهذه المهانة. وداعاً وأنسى أنك قابلتني.
ركضتُ. ما عدت أسمع حتّى نداءه. ركبتُ سيارتي مذهولة وأنا أتساءل, هل من المعقول أنني كنت أحيا وهماً طوال حياتي. | |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:58 pm | |
| لمَ أظن أن الرجال أقوى من الظروف؟!! ولَم أظن أن النساء يمثلن الضعف. ها إنَّني خرجت من ذاتي وقلت ما يجب أن يقال رغم أنّني كنت أرتجف. نعم كرامي أغلى حتّى منّك يا وليد..
دخلت وأنا أحمل ما يزيد عن وزني بضعفين وفطنتُ إلى أوجاع ميس. أيكون الرجال سبب كل وجع. ربما.
هيا إلى الحمام واغسلي أدران اليوم واخرجي إلى الدنيا بثوبك الجديد.
ثوب امرأة العصر. هيا يا رولى هكذا كانت مرآتي تقول:
كان الماء منعشاً ينساب على جسدي فيدغدغني. أشعر به اليوم عشيقاً جريئاً فأضحك من أفكاري.
خرجتُ وأنا ألتف بمنشفة ناعمة. وقفتُ أمام المرأة معصوبة الرأس بمنشفة أخرى. تراخت يداي عمّا يلتف حول جسدي. وقفت أتأمّله. لأول مرة أرى نفسي بهذه الروعة. لماذا لم أنتبه إلى هذا الجسد الممتلئ نضجاً. ما أروع ملمسه, وما أرقى استدارته. كنز مدفون تحت الحزن. ياه كم أنا غبيّة. سأكون يا مرآتي كما تشتهينني أن أكون.
ساعة من الزمن فقط وأكون جاهزة.
نعم أنا الآن أروع رولى في تاريخ البشريّة إضافة عطريّة وتكتمل اللوحة, شكلاً ومعنى.. ما أغباكَ يا وليد. لا تستحق سوى حموضة عرقها اللاذعة وعفونة أيامك الذابلة.
سأجعلك تتمنّى لو أنّك تنسى اسمك كلما رأيتني بهذا الألق.
كنتُ أنادي على ميس وأنا أدخلُ غرفتها ففؤجئتُ بسرير فارغ إلا من رائحتها الزكيّة.
يا لله يا ميس أين ذهبت؟! كان بودي أن أفاجئك برولى الجديدة. خاب قصدي. جلستُ على سريرها, ثمّ ارتميتُ مستلقية لأرى الأحلام الورديّة مرسومة هناك على السقف, وأبتسم للأيام التي تنتظرني.
اعتدلتُ بعد مدة, فوجدت ورقة قد أسندت إلى منبّه فوق صندوق أشيائها الخاصة. قرأت.. (رولى حبيبتي. اضطررت للذهاب مع بعض أصدقائي في رحلة قد تطول بعض الشيء. قبلتُ بها لأخرج من قلقي وكي لا أستسلم للألم).
قبلاتي ميس.
ـ رحلة؟! أهذا وقت الرحلات يا ميس. فوّتِ عليّ فرصة المفاجأة. ولكن لا بأس. الأيام قادمة. فقررتُ أنا الأخرى الخروج. فكل هذا الجمال للجدران.. لا.. نزلتُ سلّم المبنى لأركب سيّارتي. فالتقيتُ بالثنائي الثرثار أبي فادي وزوجه, وكم كنت سعيدة عندما رأيتُ العيون تنفتحُ بدهشة, وشهقة بتوقيت واحد تدخل رئتيهما.
ابتسمتُ وألقيت التحيّة فما كان من أبي فادي إلا أن قال: ماذا يحصل هنا. صرت أحسدُ نفسي لأنني أقيمُ في هذا المبنى. انتفضتْ أم فادي وأزاحت ْوجه زوجها نحوها وهي تقول: ألا تخجل من شيبتك؟! إنها بعمر ابنتك. وبدأت تشده من يده ليدخل المنزل وأنا أضحك ملء أشداقي على كوميديا العلاقة الزوجية.
ركبتُ السيارة لأرى أبا فادي على الشرفة يومئ لي بكل إشراق. هززتُ رأسي ساخرة وانطلقت بعد أن وضعت شريطاً في مسجّل السيارة كله إيقاع لرقصاتٍ شرقية. لم تمض دقائق إلا وعشرات السيارات تتبعني فضحكت في سري.
ما كنت أظن أنّ الموضوع بهذه البساطة. نعم فقط عليك أن تكشف الحلوى لترى حشود الحشرات عليها. ثمّ انتبهتُ.. رولى لا يناسبكِ هذا التشبيه أبداً.
نزلتُ الشاطئ أتناول عصيراً مثلجاً. كم ضحكت وكم أسعدني أنني في ساعة واحدة تلقيت ثلاثة عروض للزواج. أمضيت قرابة الساعتين ثمّ عدتُ أنثرُ عبير أنوثتي في كل مكان.
دخلتُ البيت. غريبٌ تأخرها. قلت في نفسي. أشعلت التلفاز شاهدتُ محطات عديدة, ثمّ تذكرتُ أنني اشتريت كتاباً جديداً لاسم يلمع الآن في سماء الأدب والفن. كم راقني هذا الشعر الحديث, وكم استمتعتُ بكل معنى وبكل كلمة, سبحتُ في عالم من الأحلام. وكم تمنّيت حقاً أن أكون تلك المرأة التي يتغزّل فيها هذا العاشق. شعرت بأنني في عالم من الحس غريب بعض الشيء عن الماديّات التي تربطنا مع الواقع بقيود أعنف من قيود السجناء. بصراحة كان هذا الكتاب عرساً, مهرجاناً, من التألق في سماء الحس أغلقت الكتاب ونظرت إلى الساعة.
يا الله يا ميس أين أنتِ أريد محادثتك عن مجريات اليوم لا بأس سأنام الآن وغداً أفاجئها.
استيقظتُ في الساعة السابعة نشيطة متفائلة لأقوم ببعض الحركات الرياضيّة. لكن يجب عليّ أن ألقي التحيّة أولاً.
ما هذا؟ السرير فارغ. هل أمضت ليلتها خارج المنزل. لم تذكر أنها ستتأخر. أمسكت الورقة. أعدتُ قراءتها. لا بل قالت قد تطول لعلّها تعود مساء.
ذهبت إلى عملي, يومٌ رائع من صرخات وشهقات شعرت أنني حقاً صنعت نصراً أو فتحاً. لكن شيئاً داخلي بدأ يخفت. نعم ليَعْوِ صوت القلق الذي بدأ يطرق بابي.
عدتُ إلى البيت مسرعة. ومباشرة إلى غرفة ميس يا الله لم تعد بعد.
قرأت بعض المجلات. حللت بعض الكلمات المتقاطعة. يمضي الوقت بطيئاً هذا اليوم.
في السادسة مساءً بدأ شعورٌ آخر ينتابني شيء من فعل الشيطان. لم أعد أرى أمامي سوى حادث والديّ. كيف سأطرد هذه الأفكار؟! أمسكت الهاتف واتصلت ليردّ فؤاد:
ـ مرحباً فؤاد هل التقيت بميس اليوم؟!
ـ لا. كان صوته صارماً.
ـ هل تعرف أين يمكن أن أجدها؟!!
ـ لا.. لم تخبرني عنها أي شيء. ولكن رولى إذا سمعتِ ما يريحكِ اتصلي بي؟! لقد أقلقتني فأين يمكن أن تكون؟!
ـ لست أدري. كانت طريقة كلامه مختصرة مما جعلني أعتذر وأغلق السماعة.
ـ قمت أشغل نفسي بترتيب المنزل وبطهو الطعام علّني أنسى غيابها بعضَ الوقت. ولكنني قررت أنني صباحاً سأخبر الشرطة في حالِ عدم قدومها. وبالفعل طوال الليل وأنا أنتظر, أقرض أظفاري حتّى سيلان الدم. وما إن أشرقت الشمس حتّى تهيأت. ارتديت ملابسي وإلى أول قسم للشرطة فاجأني ذاك المسؤول وهو يقول.
ـ أهي طفلة صغيرة؟!
ـ لا.. لكنها غائبة منذ يومين.
ـ حسنٌ. بعد أربع وعشرين ساعة من الآن نقوم بالبحث عنها اتركي أوصافها.
كنت أحمل معي صورتها فناولته إياها. وعندما نظر إلى جمالها قال مبتسماً: من يجد هذا الجمال لا أظنّه سيعيده.
ـ نعم أستاذ!!
ـ ضحك وقال: كنت أمزح. لكنها حقاً فاتنة وهذا يجعلني أتحرك بصورة أسرع.
ـ بعد حوالي عدة أيام وأنا أغرق في اضطرابي جاءني هاتف مرعب.
ـ آنسة رولى؟!
ـ نعم.
ـ أنا ضابط الأمن المسؤول.
ـ أهلاً أستاذ. أهناك أخبار عنها؟!
ـ لا أعرف. لكن هل تعرفين أنت ماذا كانت ترتدي عند خروجها.
ـ لا يا سيدي خرجتْ قبل عودتي.
ـ أفهم أنها خرجت من المنزل أثناء غيابك؟!
ـ نعم.. نعم.
ـ هل تسمحين بالحضور إلينا!!
ـ لماذا؟!
ـ ستعرفين حال حضورك.
أكلتُ الشوارع بسيارتي. عشر دقائق وكنت أقف قبالته استقبلني بكل احترام وبكل جديّة ثمّ قال:
ـ لست أدري كيف أدخل في الموضوع.
ـ بسرعة قل من حيث شئت.
ـ هناك حادث غريب جرى في بلادنا منذ ثلاثة أيام. سُرق مبنى سفارةٍ لدولة أجنبية. ثمّ تفجّر قسم من المبنى وذهب ضحيَّته عشرات الأفراد ونحن الآن نحمل الأنقاض وما لدينا سوى أجزاء من جثث لعلّ أختك بينها.
صرخت بخوفٍ فظيع.. لا.. أرجوك لا. أختي ذهبت في رحلةٍ مع أصدقائها فما الذي سيأخذها إلى مبنى السفارة.
لا.. لا شيء معقول في كلامك سيدي.
ـ إنه مجرد تخمين وأرجو أن لا يصدق ظني.
ودّعته مذهولة, ثمّ عدت إلى المنزل وأنا على حافة الانهيار. لماذا يعاكسني القدر دائماً؟! لماذا لا نتفق؟! لماذا يسرق مني ابتسامتي وأغلى ما عندي؟! فما كان مني إلا أن أخذتُ أضرب بكلتا يدي على رأسي ووجهي, أبعثر شعري, وأمحو رسم الدمية, وأختار زيّاً آخر جديداً, زيّ مومياء خرجت من تحت الأنقاض والهموم والقلق.
أخبرت فؤاداً بما حصل. كاد أن يجن لكنه مثلي تماماً يسدّ باب الخوف ويفتح باب الأمل. فلا يمكن أن نصدّق بهذه السهولة أن احتمال غيابها لا رجعة فيه. كيف نصدّق أن يدفن الشباب والجمال. وكيف أصدّق بأنني سأبقى وحيدة, لا دمعة تسعفني, ولا حتّى صراخ.
سكون حلَّ في المكان وكأن القيامة على بعد أمنية. ذهول يسكن الأشياء. كل شيء يفتقدها. مشط الشعر. أساورها المنبوذة. خزانتها. صور الفنانين على الجدار سُرقت منها البسمة. بعد لحظة كنت أرى نفسي أمام نكتة مجسّمة. دميّة تخرج من عرس التألّق. فراشة تخرج من شرنقتها ليقصّ القدر أجنحة التحليق وأقع في عجز الموقف وشلل المحنة. من يردّ الباب عليّ ويغلقني إلى الأبد؟!!
وقف هناك في زاوية الباب مرتدياً خذلانة العاري من كل أمل. كان مثل قطرة مطر تأبى الغيمة الحبلى أن تجهضها وقال: أرجو أن يكذّب الخبر, فلا حقيقة ثابتة حتّى الآن. أنا معك رولى. أنا معك لا تخشي شيئاً. فقلتُ: اطمئن يا فؤاد. ما عاد هناك ما أخشى عليه ـ ما عاد هناك ما أخشى عليه. | |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:58 pm | |
| الفصل الثالث
مازلتُ في أسبوعي الثالث من الإجازة. أعاند الحزن ويعاندني. أبكي كنبعٍ فاض بعد ذوبان الثلوج عن الأوهام. وما كان ينقصني سوى تلك الرسالة المرميّة تحت عقب الباب. أمسكتها بيد مرتجفة صرتُ أخاف المجهول قرأت بهدوء:
الآنسة رولى الخطيب تحية عربية أما بعد
نحن معك لأنك سليلة عائلة عريقة نتقدم بأحرّ التعازي بأختنا البطلة ميس. إنها أغلى شهيدة ضحّت في سبيل الوطن بكل عزمٍ وإصرار. إنها رمز البطولة والفداء. أوصتنا بالاهتمام بك إن لم تعد من تلك العملية. وهاهي قد فارقتنا إلى مكان يليق بها تماماً. بعد إصابتها بشظيّة جرّاء الانفجار. فلا يسعنا أن نقول سوى تعازينا القلبيّة.
ملاحظة: رصيدك أصبح ثمانية ملايين دولار في بنك سويسرا.
التوقيع: الشهيد القادم
قرأت الورقة عدّة مرات. كانت أوصالي ترتعد خوفاً. أطوي الورقة ثم أعود إلى قراءتها. صرت أشكّ باستيعابي.. أختي بطلة وشهيدة وقامت بعملية مقاومة. ضد من تقاوم؟! ومع من تقاوم؟! ومنذ متّى هي منظّمة؟! وإلى من تابعة؟! وكم أنا غبيّة إلى متى سأحيا على دوامة الآتي من المجهول. أنا لم أعد أعرف أي شيء.. فؤاد هل فؤاد كاذب أم صادق؟! وهل يعمل معها أم لا يدري عن نشاطها شيئاً؟! وهل ما أخبرتني به عن لقائه الغرامي صحيح أم لا؟! هل آخذ هذه الورقة إلى الشرطة أم لا؟! لست أدري ارتميت على السرير وعادت بي ذاكرتي إلى الطفولة إلى أيام الخوف خلف التلال. أرى الآن ميس وهي تلعب مع الأولاد (عسكر وحراميّة) لا تأخذ سوى دور العسكر. وأبي كيف كان يضحك ملء أشداقه كلما رآها تمسك طفلاً وتشبعه لطماً وضرباً ورفساً يصفّق لها ويقول: أنت أفضل من كل الصبية.
صرت أتساءل الآن عن موت أبي وأمي في حادث واحد بسيارتنا القديمة وأيضاً رفض والدي لوليد. كان يقول دائماً:
لا أقبل لك برجل والده انهزامي وتؤكد أمي ذلك بإصرار.
نعم يا والدي. لست أدري ما كنت تقصد بمعنى انهزامي ذاك الوقت، لكنني اليوم أؤكد لك أن الموضوع بالوراثة. وذاك التاجر زوج أختي ميس ما نوع تجارته يا ترى؟! أسلحة؟! مخدرات؟! مجوهرات؟! وهل علم بموت ميس؟! يا إلهي أشعر أنني أكاد أن أجن كلما تخيلت منظر الجثث أو بقاياها. هل من المعقول أن ميس بينهم؟!
قمت من مكاني كمن لسعه عقرب دخلت غرفة أختي. فتحت الأدراج والخزائن. فتَّشتُ حتى الملابس. لا يوجد حقاً ما يلفت النظر. كتب عاديّة حقائب عاديّة. فتحت الحقائب واحدة واحدة لا يوجد ما يلفت النظر حقاً. أحمر شفاه. فواتير ـ تحليل للدم دفتر هواتف أعرف بعض الأرقام فيه وأجهل الكثير. قلم غريب بعض الشيء لكنه جميل ـ شريط (كاسيت) مكتوب عليه أغنية الأمل لأم كلثوم. أوه ميس أصبحت تسمع لأم كلثوم. لعل العشق أوصلها إلى ذلك!!
أعدتُ كل شيء إلى مكانه. فتحتُ كتاباً كانت تقرؤه فإذا بورقة مطويّة داخله تقول:
ميس يا أرق نسمة عبرت مخيّلتي لا تحزني يا حبّي الأوّل والأخير ظلمتني وظلمتِ منى. نعم كانت عندي لأسباب بعيدة كل البعد عن العشق. كانت تحت وطأة اضطراب عصبي لعلاقتها السيّئة مع زوجها. وأنا صديقها. لجأت إليّ كما يمكن أن تلجأ لكِ أنتِ نحن أصدقاء منذ أكثر من عشرة أعوام فلماذا ذهب بك التفكير إلى حالة عشق. نعم كنت في الحمّام في ذلك اليوم وكنت أعاني من تلبّك معوي وزادت القهوة من مفعولها معي. اعتذرتُ لأدخل الحمّام، ففوجئت أنك حضرتِ وذهبتِ بعد كلامٍ قاسٍ واتهامات لا أصدق أنها تخرج منك بالذات. سامحك الله ومع هذا فأنا أشعر بالغبطة والسعادة. فرح جداً جداً. فلا يعني تصرفك إلا أنّك مازلت تعشقينني وتغارين عليّ أحبك إلى الأبد.
"فؤادك"
لماذا يا ميس لماذا كل هذا التحفظ والسريّة؟! قلتِ لي عن رؤيتك لفؤاد ومنى ولم تذكري شيئاً عن هذه الرسالة. إذاً فؤاد مظلوم. والآن لماذا طلبتْ مني المهدئ أو المنوم. ألتوهمني أنها متعبة أم أنها متعبة حقاً من هذه الرسالة؟! لعلّها لم تصدق فؤاداً أو لعلّها صدقته وشعرتْ بالندم لأنها ظلمته. ولو لم أخرج للتسوق أكنت أبقيتها في البيت وحافظت على حياتها؟! لا أعرف. أفكر بلغز عصيب. من أنت يا ميس؟! من أنت يا فؤاد؟! ليكلمني أحد. أكاد أن أموت من الوحدة حقاً أفكاري تؤلمني. قالت أيضاً ميس هذه الجملة قبل مغادرتي ماذا كانت تعني؟! ليتني قرأت أفكارها.
شعرتُ للحظة أنني محتاجة لمن يحاورني. يجب أن أكلم أحداً مَنْ؟!
.. نعم فؤاد. سأتصل به. إنه يحبُّ ميس وهي القاسم المشترك لأحزاننا. اتصلت به دون تردّد.
ـ آلو فؤاد.. أرجوك أنا أحتاج إلى أن أكلمك.. تعال حالاً؟!
ـ رولى ما بك؟! هل هناك أي شيء؟!
ـ لا، الوحدة تقتلني. هل ستأتي؟!
ـ نعم.. حالاً.
أغلقتُ سماعة الهاتف، وبحركة عفوية اتجهت نحو المرآة لأغيّر من ملامح يأسي بعض الشيء. رتّبت شعري وغسلت وجهي وارتديتُ ثياباً أكثر جودة.
سمعت جرس الباب. بهدوء اتجهت نحوه.
ـ تفضل فؤاد أهلاً بك.
ـ هل تحتسين القهوة؟!
ـ لا بل. انتظرتُ لتأتي.
ـ هل تسمحين لي بتحضيرها؟!
ـ أنتْ؟!
ـ ولم لا!!
ـ حسنٌ تفضّل إلى المطبخ. هاك الأدوات.
جلست أراقبه. لأول مرة أتمعّن في حركاته. في ملامحه في تقاسيم جسده. ليس جميلاً كفاية. لكنه قريب من القلب بسرعة قال لي:
ـ ها.. لم أعجبك حتماً.
ـ أربكتني معرفته بما أفكر فانتفضت وقلت: بل تعجب الملك.
ـ حقاً.. هذه مبالغة. أنا أعرف أنني لست جميلاً بالقدر الذي يلفت النظر، لكنني أعرف تماماً أن لي أثراً لا يمحى في عقول وقلوب النساء، لأنني أحسن استخدام المفاتيح.
ـ ماذا.. مفاتيح.. ماذا؟!
ـ ابتسم وقال: مفاتيح القلوب والنفوس.
ـ وهلْ رميت مفتاح قلب ميس بعد رحيلها؟!
كان يسكب القهوة فأخذتْ يده ترتجف، ثم ببساطة جلس على الكرسي الذي يقابلني وقال: الوحيدة التي كانت تُمسك مفتاح قلبي هي ميس. ذهبت والمفتاح معها، ومازال قلبي مغلقاً على اسمها.
ـ هل حقاً كنت تحبها؟!
ـ ميس تملك من التناقض ما يحيّر العقول ناعمة مثل نسمة ربيع. قاسية مباشرة مثل طلقة مسدس. عقل مدهش وحس أكثر دهشة روح بجمال الجسد المشع نوراً أنا لم أكن أحبها بل أعبدها.. أعشقها ـ أموتُ بها.. لا تسأليني أنا فقط. اسألي الشوارع التي كانت تعبرها اسألي نظرات الدهشة التي تلاحقها يقفز القلب لو مرّت ميس قربه كانت بجمال مرعب .
ـ ومنى؟!!
ـ وما أدراك أنتِ بقصة منى؟!
ـ ميس.. وهذه الورقة.
ـ ميس كانت غاضبة، لا تدري ما تقول. وهذه الورقة لتوضح لميس صورة الحقيقة.
ـ صورة الحقيقة أم لتضمن بها عودة ميس إليك.. أي لعبة من ألاعيبك سيد فؤاد!!
ـ رولى ماذا تقولين؟!
ـ ما سمعت. أنت تدري ما أعرفه عنكَ من قصص مسليّة.
ـ إنها نزوات شباب.
ـ ومحاولاتك الجادة كي تكسبني أيام غيابها؟!
ـ رولى دعينا من الماضي وتعالي نقلب صفحته. لماذا اتصلتِ بي؟!
ـ لا أعرف.. أنا متعبة جداً.
ـ ممَّ؟!!
ـ من كل شيء. من الغموض. من الوحدة. من المجهول. أنا خائفة.. أشعر أنني لا أجرؤ على أن أخرج من هذا المكان. وبالوقت ذاته خائفة وأنا فيه. أشباح كثيرة تلاحقني من الماضي والحاضر. صور. ذكريات. خوف يشل أعضائي. | |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:59 pm | |
| لن تصلي إلى أي شيء وأنتِ بهذه الصورة.
ـ ماذا أفعل؟!
ـ اخلعي الماضي. ارميه خلف ظهركِ.
ـ إن أنا رميت الماضي فلا حاضر ولا مستقبل لي. لأنني أرمي كل من أحببت، كل تاريخي. أتساءل ماذا سيحصل لي. أي هدف أحيا لأجله. لا أمل يدفعني. لا حبّ.أشعر أنني مشلولة حقاً، وبالوقت ذاته أنا أحيا متاهة. أمي، أبي، أختي جثث تحت التراب. من يردّ على أسئلتي من يقول لي الحقيقة؟ وهل لوفاتهم قصص ما؟! أم أنّ الوهم يأكل رأسي؟! كأني ما عرفتهم يوماً. وكأنّ تاريخي كذبة ما عدت أثق بشيء على الإطلاق.
ـ لماذا يا رولى كل هذا العذاب؟.
ترددت في أن أقول لـه، ثم ذهبت إلى غرفة النوم وأحضرت الرسالة ليقرأها.
ـ أمسك بالرسالة بهدوء. قرأها بهدوء. ناولني إياها بهدوء وقال بهدوء قاتل: أهذا ما يقلقك؟! لعلّها مزحة من أحدهم؟!
ـ مزحة؟! فكّرتُ بكلّ شيء إلاّ أن تكون مزحة. نعم أنا أجهل كل السُّبل لإثبات أن هذه الورقة حقيقة. لكنني أشعر أنها حقيقة. لماذا تُرسل لي هذه الرسالة بعد وفاتها بثلاثة أسابيع؟! أقصد بعد غيابها!! لماذا يدّعون أنها شهيدة، مع العلم أنني ما كنت أدري عن نشاطها أي شيء لماذا يا فؤاد.. قُلْ لي ؟!
ـ يمكنك التأكد فقط بطريقة واحدة.
ـ كيف.
ـ حسابها في بنك سويسرا. أقصد حسابك. هل تعرفين رقم حسابها؟!
ـ لا.. لا أعرف عن أموالها أي شيء.
ـ ألم يكن لديها أي أوراق في خزانتها؟! في أدراجها؟!
ـ فتّشت كل شيء.. نعم تذكرتُ صندوق أمي.. لكنه بأرقام سريّة.
ـ ما هو رمزها يا رولى؟!
ـ لستُ أدري. كانت ميس تستخدمه.
ـ أحضريه .. لأراه.
أحضرتُ الصندوق. أخذ يحاول فتحه، ثم وضع أذنه على قفل الصندوق وأخذ يحرك بهدوء شديد مثل رجال العصابات وخمس دقائق وبعدها فُتح الصندوق.. أوراق كثيرة داخله عقد المنزل ملكية السيارة ـ ملكية أراضٍ ـ مجوهرات قديمة وحديثة وأخيراً دفتر شيكاتها وأوراق البنك.
قمت إلى الهاتف وأجريت اتصالاتي حتى ردّت عليّ مسؤولة البنك. حادثتها بالإنكليزية واستفسرت عن رصيد أختي بعد إعطائها الرقم السري للحساب ورقم هويتي فقالت: إنها نقلتْ كافة رصيدها إلى أختها رولى الخطيب منذ شهر. والرصيد الحالي لرولى الآن هو ثمانية ملايين دولار. أوْدِعتْ في حسابها عن طريق محامٍ بالوكالة منذ أسبوع.
وقعت السماعة من يدي. اقترب فؤاد بهدوء وأغلق السماعة ثم وضع رأسي على وسادة حانية. مددني على الأريكة خلع لي حذائي، وذهب إلى المطبخ وعاد بكأس من عصير الليمون وأنا أنظر في العدم. الذهول عقد لساني.. وعقلي يقول ثمانية ملايين دولار وأملاك كثيرة وأراضٍ.. إذاً أنا أملك الكثير الكثير ولي أيضاً قصة غامضة لا أعرف لها تفاصيل. ثم نطقت أخيراً:
ـ فؤاد أرجوك قُلْ لي: أأنا في حلم أم في علم؟!
ـ على ما يبدو في علم!!
ـ هل تعرف عن نشاطها أي شيء؟!
ـ أنا مثلك تماماً شيء يدعو للدهشة حقاً.
ـ إذاً ميس بطلة وشهيدة. فؤاد هل يمكن أنّ ميس كانت تعاني من مرض ما جعلها تنهي حياتها بطريقتها!؟
ـ رولى لا تقلّلي ممّا فعلته ميس. الحياة غالية. ونظلّ نقاوم أمراضنا حتى آخر ثانية. ما تقولينه يعني أنها انتحرت. في الوقت الذي كانت فيه شديدة التعلّق بالحياة والحب. ميس أصبحت رمزاً. لقد كبرت الآن في نفسي ملايين المرات وأشعر بحسرة شديدة لأنني لم أرها قبل موتها.
ـ أكاد أجن!!
ـ وأنا أيضاً!!
ـ فؤاد فاتني أن أسال عن اسم المحامي.
ـ اسألي لاحقاً.
جلس فؤاد. ووضع رأسه بين يديه. شعرتُ أنّ دموعاً سقطتْ على يدي. رفعتُ رأسه. فؤاد أنت تبكي؟ وانفجرتُ أنا أيضاً بالبكاء!!
ارتمى عليَّ وحضنني بقوة وهو يجهش بالمرارة وقال: آه يا رولى فقلت: آه يا فؤاد.. نصف الوقت بكاء، وربع الوقت حسرة، وثمن الوقت نوم، والباقي ندم. لو أنني أستطيع الموت لفعلت.
ـ لو أنني أستطيع الصراخ لفعلت.
ـ رولى يجب أن نصمد. أصمدي وساعديني كي أصمد.
ـ حسنٌ فؤاد. كن معي لأكون معك.
تعانقنا دون تفكير. جمعتنا الأحزان، فهل تراه سيفرّقنا الفرح، وهل سأعرف له طعماً بعد كلّ هذا الضياع؟!
غادر فؤاد وهو يثبّت خطاه على وهم الطريق. يترنّح على سكر الألم. وتركني أهذي وحيدة. ترك لي طيفاً تعلّقتُ بأذياله كي أبقى على قيد الخوف.. ترك لي صوتاً دافئاً مثل أحضانه، وترك لي وهماً سهل التصديق. فما زلتُ ألتحف به كل ليلة. نعم لأحضانه دفء الشمس حين تداعب خدود وردة وتترك عليها ألق الألوان. ولأنفاسه بصمة عطر فريدة لا يمكن أن تتكرر.
آه كم أتعذب. كم تأكل رأسي التناقضات. أحب أختي وأبحث عن لغز رحيلها. وليس أمامي سوى ذلك الحبيب لآخذ منه وجبة معلومات تدلني على الطريق الصحيحة. فلماذا انحرفتُ بمشاعري نحو الاتجاه المعاكس. لماذا انهرت إلى حدّ الاستسلام إلى تلميحات جسدي إنني أنثى. لماذا هذا الانجراف نحو الدفء؟ لماذا نسيت سبب دعوته. وانطبع بذاكرتي فقط ذاك العناق العفوي؟! كيف أحترم نفسي الآن وأنا الباحثة عن الحقيقة. أن أكون أداة جرم لجريمة أخرى. لخيانة ذكرى. كيف أستسلم لعشيق أختي وأنا من كنت أبعدها عن ذاك الرجل الخطير، عن زير النساء، عن نبع الشهوة؟!
هل كنت أظلمه وأغار من أختي دون أن أدري. أم أنني كنت لا أعترف بأنوثتي أصلاً؟! أم أشعر بالدونية تجاه أي رجل؟! كم كان ينقصني من الثقة لأقف أمام رجل دون أن أرتجف وأشيح بأنوثتي عن دعوى رجولته؟! وأين أسير الآن؟! هل أنا في الطريق الصحيحة؟! أم أنا في متاهة الأحلام؟! يجب أن أكون منصفة ومع وجود هذه المشاعر حتماً. سأتيه. سيضللني فؤاد رغم مساعدته لي بالوصول إلى حقيقة الرصيد. يجب أن أتجه نحو شخص آخر.. ه لماذا لا أتصل بفهد زوج أختي السابق وصديق والدي أيضاً؟!!
هرعتُ إلى الهاتف طلبتُ الرقم.. مرَّ دهر إلى أن ردّ عليّ صوت لا يعرف من العربية سوى.. نعم.. نعم. فاضطررت للتّحدث بالإنكليزية وطلبت فهداً.. وبعد دهرٍ آخر جاءني صوت رزين جداً.
ـ أهلاً .. أهلاً من المتكلّم؟!
ـ أنا رولى يا سيد فهد.
ـ رولى!.. فات زمن طويل على سماعي هذا الاسم.
ـ أرجوك يا سيد فهد هناك أخبار سيّئة جداً وأريد مساعدتك.
ـ خيراً إن شاء الله؟!
ـ ميس.
ـ ما بها.
ـ آه عفواً.. أنت لم تدرِ بعد أي شيء.
ـ عمّ تتحدثين؟!!
ـ ميس انتقلت إلى رحمة الله. (صمتٌ طويل).
ـ لا.. أرجوك قولي شيئاً آخر.
ـ هذه هي الحقيقة.
ـ منذ متى؟!!
ـ منذ حوالي ثلاثة أسابيع.
أشعر أن كل قطعة من جسده كانت ترتجف، وصمته يقطر دماً ودمعاً ثم قال: البقيّة في حياتك رولى!! | |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 8:59 pm | |
| البقيّة في حياتك أنت أيضاً. لكنني أودّ أن أطلب منكَ الحضور وبوقت سريع.
ـ سأحضر على أوَّل طائرة.
ـ سيد فهد لو كان لميس أي شيء عندك هل تعدني بأن تحضره مهما كان في نظرك صغيراً؟!!
ـ نعم رولى أعدك!!
ـ ابحث في أشيائها المتبقية ولو حتى على ورقة.
ـ حسنٌ رولى.:. لا بأس سأفعل.. هل من شيء آخر أستطيع فعله؟!
ـ لا شكراً. حاول أن تأتي سريعاً.
ـ إلى اللقاء.
ـ أغلقت السماعة وأنا أقول ـ فهد فؤاد. نفس الحرف الأول من الاسمين هل هذه مصادفة؟! ربما ـ آه يا ميس لماذا تركتِ هذا الإنسان المحبّ؟! إنه حزين بالفعل. ما كنتُ أظن أنْ يكون وقع الخبر عليه بهذا الحزن.. ما أغباني حقاً كيف لا، أو ليستْ زوجه. من يعاشرْ قطة يحزن فقدها، فكيف بمن عاشر زوجه؟! بعد تفكير طويل هدّني الإعياء. فاستسلمت لنوم غافلني وأنا مازلت جالسة على الأريكة. وفي الصباح تسللتْ أشعة الشمس من خلال زجاج النافذة لتعاكسني وتجبرني على اليقظة.
كانت رقبتي تؤلمني جداً. أشعر أنني متيّبسة مثل قطعة خشب ناشفة وأطرافي باردة كالموت.
ـ هممتُ بالقيام إلى سريري، لكنّ جرس الباب غيّر وجهتي ذهبتُ وفتحتُ الباب وأنا أجرّ قامتي على لوحين من خشب. وإذا بي أمام رجل طويل القامة يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق سوداء وإذا بي أمام فهد شخصياً.
ـ فهد. أهلاً وسهلاً. هل حضرتَ بصاروخ؟
ـ ألم تطلبي الحضور بأسرع وقت؟
ـ لكنّك في بدل يبعد ثلاث ساعات بالطائرة تقريباً.
ـ نعم وها قد فاتت حوالي عشر ساعات على هاتفكِ!!
ـ أهلاً بك على كل حال.
انتشل فهد كل آلامي دفعة واحدة وعندما نزع النظارة عن عينيه عرفت أنه كان يبكي طوال كلّ هذه المدّة. وعشر ساعات من البكاء كافية لتهدّ جبلاً. لكنه يقف بكلّ ثبات. بكلّ عنفوان يكابر ويحمل حقيبة صغيرة أظنّها أشياء لميس
بعد أن تناولنا القهوة طلب مني التحدّث عن ميس، وعن طريقة موتها، وعن كل تفاصيلها. كنتُ أتحدث، وكان يصغي بكل صمت، وكأنه قطعة إسفنج. كان يتشرب كلامي ليغذي روحه. تحدثت طويلاً وأصغى بكل اهتمام، ثم طلبتُ منه أن يحادثني عن ميس وعن تفاصيل دقيقة أيضاً في علاقتيهما. بعد أن أخذ نفساً عميقاً نظر إلى البعيد وكأنه يشاهد فيلماً. ثم قال: بصوت يقطر دماً وينضح حزناً: بدأت القصة هناك في البرازيل، عندما التقيتُ والدك في أحد شوارع (سان باولو) كان قد اشترى طعاماً شعبياً ليتذكر وطنه في وجبة دافئة. وعندما بسمَلَ عرفتُ من لكْنَتِهِ أنه عربي. وفي بلاد الغربة تصبح آذاننا كالرادار تلتقط أي لفظة عربية. فقلت له وأنا أجلس قربه أتناول وجبة مشابهة بالهناء والشفاء.. التفت نحوي وقال: تفضّل، شكرتُه وجلسنا. بعد تناول الطعام أخذنا نتبادل الذكريات. كان والدك يكبرني بخمسة عشر عاماً. طلب مني مشاركته السكن. بعد مدة انتقلت إلى مكان سكنه. كان غريب الأطوار. كثير الصَّمت، لكنه كان كريماً جداً. ومخلصاً جداً. ما كان يستطيع النوم ليلة قبل أن يتأمل صورتكم ويقبّلها، ثم يضعها تحت الوسادة وينام، وكأنها ستدخل في أحلامه، فقط إذا كانت تحت رأسه. مرة أخذت الصورة لأشاهدها، فقد كان يثير فضولي كلما أطال النظر فيها، وحقاً وجدت أنها تستحق كل هذا التأمَّل، وخاصة ابتسامة ميس، تلك الطفلة التي تشبه برعم زهرة في أول الربيع، وكم جن جنونه عندما لم يجد الصورة تحت الوسادة، لكنّها كانت تنام في جيبي قرب نبضي فتجعلني أكثر سعادة وتفاؤلاً: أعطيته إيّاها بعد أن قطع لي عهداً بأن يزوجني ميس إن كانت ما تزال حرة. طبعاً كانت أحلاماً تؤنس ليالي الغربة، ولكن بعد ثلاثة أشهر ورؤية ميس شخصياً، تفاقم الموضوع. فطلبتُ يدها منه وذكرته بوعده لي. كانت ميس طبعاً لا تعرفني. لكنّ والدك يعرف أدق تفاصيل دماغي وحياتي. عرف قلبي. حبي. كرمي. عفواً أنا لا أقصد التفاخر، أقصد إظهار سبب والدك وإصراره على زواجي من ميس لأنه يعرف أيضاً مقدار ثروتي وطريقة الحصول عليها. وكم مرّة تعرضت للسرقة وللقتل من وراء هذه الثروة وهو يدري أيضاً أنها لا تساوي عندي ابتسامة من ثغر ميس. وللأسف حاولت كثيراً الاحتفاظ بميس حاولت أن أزرع حبي داخل قلبها. لكنه كان ممتلئاً حتى الثّمالة. هي من اعترفت لي بذلك. في البداية جن جنوني. كدت أن أقتلها. لكن بعد تفكير عميق وجدت أن لها قلباً بل حديقة تشتعل بشتى ألوان الحب. ولكن لا مكان لي فيها. كنتُ خارج السور ولا يحق لي سوى النظر من خارجها وبكل حسرة. قدّرت عواطفها لأنني أعرف أنّ المحبّ الحقيقي لا يستطيع السيطرة على خلجاته، ولأنني أحبّها حقاً تركت لها الخيار، وأطلقت يدها تماماً في أن تأخذ ما تشاء، والعودة أيضاً وقت تشاء، لتجدني في انتظارها على الدوام. طبعتْ قبلة على خدي وأخرى على يدي، وألقتْ نظرة وداع أخيرة على قصرٍ كان يهتز لفراقها. تركت مفاتيح القصر والسيارة واحتفظت فقط بتلك الميدالية الفضية التي تحمل أول حرف من اسمه وغادرت.
كنت طوال الوقت سعيداً لأنها تحمل ميدالية تبدأ بحرف من اسمي ثم اكتشفت عند مغادرتها أننا نتشابه بالحرف الأول من اسمينا فقط. تخيّلي مدى خيبتي عندما عرفت ذلك. وأنا من جعلَ أثاث البيت كله مدوراً كاستدارة حرف الميم. أنا لا ألومها لأنني أفعل فعلها. كان كلانا يحبّ بصدق، ولذلك فكلانا يتعذب. لكنّنا نحن الرجال لا نشعر بانهيار ذكورتنا إلا عندما تتحدانا امرأة وتثبت على ما تريد. كنت أموتُ كل يوم ألف مرة. كيفما التفتُ أراها، في المطبخِ. في الحمّامِ. في السرير. في غرف المنزل. على الشرفة. في المسبح. لكن كرامتي كانت ذاك الحائط المنيع الذي يجابهني كلما هممتُ بالاتصال بها.
سافرت بلاداً كثيرة كي أنساها. ولكن هيهات. تشرّبت حبّها كالأرض العطشى. وهل تردَّ الأرض ماء شربته؟! وإن فعلتْ فإنها لا تنضح إلا بالحياة وبالينابيع وبالخضرة. هكذا كان حبها في قلبي فتخيلي مقدار الألم الذي انتابني عندما علمتُ.. وصَمَتَ. وحكتْ دمعتان أكثر مما قال. ثم سألني لماذا يا رولي لم تخبريني إلا بعد هذه المدّة؟!
ـ بصراحة وأنا آسفة حقاً أن أقول: أنني ما كنت أنوي إخبارك لولا بعض الظروف التي تغيّرتْ وغيّرتْ مجرى تفكيري ولم أجد سبيلاً يوصلني إلى الحقيقة إلا أنت.
ـ أنا؟!
ـ نعم.. وقد لا تستطيع أيضاً. ولكن عليّ أن أحاول. لو سمحت اقرأ هذه الرسالة وناولته إياها. بدأ القراءة. بيد مرتجفة كان يمسك الورقة. وبعيون تنفتح تدريجياً كان يعبّر عن دهشته فيما يقرأ.
وضع الرسالة جانباً، وأخرج منديلاً مسح به دموعاً غزيرة، ثم وضع رأسه في يدين ضعيفتين وراح في ذهول عميق. بقي على هذه الحالة خمس دقائق وأنا أتضوَّرُ فضولاً، ومع ذلك تركتُ له حرية التأمّل والتصديق أو عدمه ثم قال:
ـ رولى.
ـ نعم!!
ـ هل تسمحين لي بالمبيت هنا. ما عادت قدماي تحملاني؟!
ـ لا بأس.. ولكن.
ـ أرجوكِ هذه أمنية. أرجو أن تدعيني أنام في غرفتها في سريرها.
ـ لك ما تريد لكنني مازلت أنتظر جواباً أو تعليقاً يسدُّ جوعي لمعرفة أي شيء.
ـ هل تسمحين أيضاً بتأجيل الحديث إلى يوم غد: أشعر أنني سأنهار في أي لحظة.
رغم فضولي الشديد شعرت أنه أكثر حاجة مني إلى الراحة الآن. فقلتُ ببساطة: هذه غرفتها. هذا سريرها. هذا عالمها الخاص. ولك حريّة التصرف. تصبح على خير. | |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:00 pm | |
| آلمني كثيراً هذا المشهد. مشهد الفجيعة. حيث يقف كلّ واحد منّا على حافة الهاوية. ويتمنّى من الحافّة أن تتصرف وتلقي به في أحد الاتجاهين، ومع هذا جلست أعيد شريط كلامه ببطء. بداية تعرفه بوالدي. سكنه معه. تعلّقه بصورة طفلة، وكيفية تكوين الثروة. هناك غموض، خاصة عندما قال إنه تعرّض للسرقة والقتل، لم يذكر سبب ذهابه إلى هناك. لم يذكر شيئاً عن عائلته ولا عن موضوعية علاقته بوالدي رغم أنه يكبره بكثير، حرف الفاء المشترك بين الاسمين.
ـ قمت إلى غرفة الجلوس تذكرتُ أنه وضع حمّالة مفاتيحه على المنضَّدة، اقتربتُ بهدوء. أمسكتُ الحمّالة ثم أعدتُها مرعوبة. إنها ذات حمّالة ميس. فكيف يقول أنها أخذتها هل يحملان ذات الحمّالة؟! ربما أو لعله اشترى حمّالة مشابهة ليتذكر ميس، لكن كان يجب عليه عند ذاك أن يشتري حمّالة تحوي أول حرف من اسمها. حرف الميم. انتبهت فجأة إلى حركة في غرفة ميس. قال إنه متعب جداً وسينهار فلماذا لا ينام؟! هل تراه يبحث عن شيء؟ وإن كان يفعل فعمَّ يبحث؟!
ـ ماذا كان يعمل مع والدي، ولماذا كنّا نظنّ أن والدي بلا قلب، وأنه نسينا تماماً؟!
آه يا إلهي أفتح عقلي كلّه على مجهول لا يمكن أن أعرفه، فلا حيٌّ يجيبني والحقيقة دفنت مع أجسادٍ مهترئة. هل أكفُّ عن البحث وألتفت لحياتي؟! ألا يكفي عذاباً؟.
دخلت غرفة والدي، شعرتُ بقشعريرة تنتابني من أسفل قدمي حتى أخمص رأسي. أخذت أفتش في جيوب والدي وإذا بيدي ترتطم بشيء معدني.. رفعته فإذا بميداليّة هي ذات ميداليّة ميس وفهد. ميداليّة مصنوعة من الفضة وعليه حرف الفاء أيضاً. يا إلهي أتكون هذه ميدالية ميس؟! وإذا كانت كذلك فلماذا أجدها هنا؟! ووجدت أيضاً ورقة صغيرة كتب عليها (السيد فارس كفاك غربة. نحن نشكر جهودك. حان وقت العودة. لا مانع لدينا من ترويج بضاعتك هنا. تجارتك ستلقى كل عناية فأهلاً وسهلاً بك).
أعدت قراءة الرسالة. لا يوجد عليها اسم المرسل. ورقة بحبر شفاف جداً بالكاد تقرأ. تساءلت لماذا يحتفظ والدي بهذه الرسالة.
حتى بعد عودته وإقامته بيننا؟! إذاً والدي عاد إلى البلد بقرار، أبي.. أبي ماذا يا رولى.. لا أعرف. فارس ـ فؤاد ـ فهد ـ ثلاثة أسماء تبدأ بحرف الفاء ثلاثة ميداليّات فضيّة ـ تحمل ذات الشكل وذات الحرف. لكن واحدة منها كانت مع ميس فلماذا يا ترى؟! غير معقول بلحظة واحدة تتشابك كل الخيوط كلما حاولت أن أفكّ لغزاً ينعقد أكثر. أكاد أن أجن ولا سبيل إلى النوم. وكيف أنام في منزل فيه رجل لا أعرف عنه إلا ما قيل لي. أتراه سيهديني إلى الحقيقة أم سيضللني مثلما فعل فؤاد؟! لعلي كثيرة الظن. نعم صرت أشكّ في كلّ مَنْ حولي وكيف لا وموتهم هدم حاجز الثقة بيني وبين العالم.
أساكنُ عائلتي طوال عمري لأكتشف أنني لا أعرف عنهم إلا ما يودّون مني أن أعرفه.
وقفتُ أمام المرآة لأقول: نصف الحقيقة أمامك ونصفها الآخر أين؟! كيف يمكنني الآن أن أقف أمام باب خُلع من ريح هوجاء تعصف بالمجهول؟! أريد أن أنام. أن أستريح.. آه آه يا فؤاد ليتك لم تعشق أختي لكنت ملاذي الوحيد الآن، أحتاج إلى صدر أضع عليه رأسي وأبكي صدر يسع كل صراخي وخوفي واضطرابي وفضولي.
صدر ينسيني الدنيا فيكون وحده ذاك السرير الوثير الذي أهرب إلى دفئه ليتك يا فؤاد حبيبي.
لم أشعر كيف سهوت وسرقني النوم وكم فوجئتُ عندما استيقظت أن وسادة وُضعت تحت رأسي، وأخرى بين يدي، وغطاء رمي علي، ورائحة تطير بي خلفها نحو اليقظة. فأفتح عيني لأرى فهداً جالساً قربي يتأمّل وجهي ويحتسي القهوة ويدخّن قلبه..
صباح الخير. قلتُ لم يخرج من صمته سريعاً، بل ظلَّ يتأملني لدرجة أشعرني فيها بالحرج. هممتُ بالنهوض لكنه أمسك يدي وقال: أرجوك عودي كما كنتِ فقلتُ: لا.. لا يكفي نوماً. أريد التحدث معك.
ـ يا إلهي يا رولى كم تشبهينها وأنت نائمة. ذات الطريقة في النوم. يدٌ تحت الوسادة والأخرى فوقها وتنامين على الطرف الأيمن ورجلك فوق الوسادة الأخرى. غير معقول أبداً هذا التشابه.
ـ أنكون أختين؟!
ـ ابتسم وقال: والدك أيضاً ينام بذات الطريقة.
ـ حقاً؟!!
ـ نعم ـ آمنت الآن بعامل الوراثة.
ـ ألم تكن تؤمن به من قبل؟!
ـ ليس إلى هذا الحد.
ـ سأحضر فنجان قهوة.
ـ أحضرتُ لكِ واحداً.
ـ إذاً سأغسلُ وجهي وأعود لنشرب القهوة على الشرفة.
ـ حسنٌ يا رولى.
وأنا أغسل وجهي، كنتُ أرتّب الأسئلة التي سأقولها وسأفاجئهُ بها. ما إن عدت حتى ناولني لفافة تبغ فاخرة وفنجان قهوة وبدأ الحديث مباشرة.
ـ سأريحك قليلاً وسأجيب بما أستطيع البوح به. كنتُ مبعوث منظمة سرية لحماية والدك ومراسلاً أيضاً لتلك المنظمة.
ـ ممن تحميه يا ترى؟!
ـ والدك كان مراقباً في الفترة الأخيرة.
ـ ولماذا يراقب (تاجر بنّ)؟!
ـ هذا العمل واجهة له أمام المجتمع يا رولى.
ـ وما هو عمله الأصلي إذاً؟!
ـ عنصر أساسي وهام في المنظّمة. لنقل مثل عنصر مخابرات دولي!!
ـ والدي كذلك؟!! هذا مستحيل.
ـ وأنا كذلك أيضاً. فجمّدني الذهول لحظة من الزمن. ثم عدت لأسأل: علاقتنا مع تلك البلاد ممتازة. فلماذا أمضى خمسة عشر عاماً هناك.
ـ تلك البلاد كانت فقط مقرنا البعيد لما حولها من البلاد.
ـ لكن جنسيّتك غير جنسيّته فكيف تحميه؟!
ـ منظمتنا دولية ولا تعترف بحدود للبلاد العربية ولها مكتب سريّ أيضاً في كافة البلاد العربية.
ـ هي منظّمة سريّة إذاً.. وأين مقرها الأساسي؟!!
ـ ضحك بسخرية وقال: ألا تقولين أنها سرّية فكيف أفضح.
أنا ما هو سري للغاية؟
ـ هل كنت تتقاضى أجراً عالياً؟!
ـ طبعاً.
ـ أهذا هو مصدر ثروتك؟!
ـ جزء من المصدر.
ـ معنى هذا أن والدي لم يمت بحادث سيارة.
ـ طبعاً لا.
ـ وذهبت أمي ضحيّة.
ـ هذا قدرها.
ـ وهل للرسالة التي وصلتني علاقة بمنظّمتكم؟!
ـ لا أعرف.. لكنّي أرجّح ذلك.
ـ هل كانت ميس تعرف عمل والدي؟!
ـ ليس قبل أن يموت.
ـ متى إذاً؟!
ـ بعد اغتياله. وبعد أن وصلتني إشارة صوتية بذلك. وقمتِ أنتِ أيضاً بواجبكِ كاملاً وأخبرتها بتلك الفاجعة. مما أوصلها إلى حافة الانهيار، وظلت في المشفى قرابة يومين، حلفتُ لها بأنني سأنتقم فقالت:
ـ ممن؟!.. شعرتُ أنني تورطت. فأخذت تلاحقني بالأسئلة وتقول: أشعر أنك تخفي أمراً. إلحاحها المتواصل جعلني أضطر لمصارحتها، كما أفعل الآن معك. لكنها قالت: هذا واجبي دع هؤلاء الأوغاد لي ومن مسؤوليتي أنا راحة الانتقام. سأنتقم. انضمت إلى المنظّمة بعد مراسلاتي ورجائي لهم وتعهّدي الكامل بتدريبها ولكنّها اكتشفت مفاجأة ثانية لا أستطيع البوح بها الآن وهي من حتّمت موضوع انفصالنا وعودتها إلى هنا.
ـ ما الذي اكتشفته؟!
ـ لا أستطيع البوح بأكثر مما قلت.
ـ أرجوك فهد. أريد أن أعرف رأسي من قدمي أريد الحقيقة.
ـ واجبي يدفعني الآن إلى الانسحاب.
ـ واجبك يطلب منك أن تتركني إلى الضياع والخوف والجنون.
ـ اهدئي. ما حصل قد حصل ولا فائدة من فتح ملفات مغلقة.
ـ عائلتي كلها ملفات مغلقة. أشباحهم تلاحقني كيفما مِلت:
أريد جواباً سريعاً والآن.
ـ رولى.. لا أستطيع وإلا اعتبرت خائناً.
ـ إذاً خذني معك.
ـ رولى الموضوع ليس بهذه السهولة.
ـ أريد أن أفكّ سرّ الغموض.
ـ كلَّما حاولتِ فتح باب تجدين عشرة أبواب نهاية كل واحد منها الجحيم.
ـ الجحيم أم الجنة.
ـ في الدنيا جحيم وفي الآخرة الجنة.
ـ أتكون من جماعة الأخوان المسلمين.
ـ ضحك بصوت عالٍ جداً وقال: هذه منظّمة مكشوفة يا رولى ونحن أكثر سرّية ونختلف بطريقة معالجة الأمور وبالانفتاح.
ـ ليس مهماً ما عدت أريد الدنيا. أريد أهلي.
ـ ومن قال لك أننا لا نريد الدنيا. إننا نحارب لكي نحيا بهذه الدنيا بكل سلام. ونطال حقوقنا بأي طريقة حتى لو كانت القوة هي السبيل الوحيد علماً أننا لا نوّد ذلك. لكنّ الواقع الذي نحياه يدفعنا لامتلاك القوة كي نجابه القوة فلا يمكن أن ندفع عنا دبابة بنظرة رجاء. ولا طائرة أو صاروخاً بكلمة أو بحجر.
ـ فهد خذني معك أرجوك.
ـ رولى يكفي عذاباً واهدئي سنتدارس الموضوع وأخبرك لاحقاً.
ـ مع مَنْ؟!
ـ لست أدري. أنا فقط مراسل ولا علاقة لي برؤية الشخصيات.
ـ هل تعدني يا فهد.
ـ نعم أعدك.
ـ أواثق أنت مما تقول؟!
ـ حتى الآن في هذه اللحظة أنا واثق. سأكمل قهوتي وأسافر هكذا جاءت الإشارة.
نظرتُ إلى قلمٍ كان يضيء في جيبه. ولم أشعره بذلك قام فهد وودّعني. عدّل قليلاً من مظهره ومضى.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:00 pm | |
| الفصل الرابع
ذهب فهد وتركني لذهولي. لم يقل وجهته ولم يعدني بالعودة، ولم يضف على حيرتي إلاَّ الحيرة!!
لكنني الآن أمسك بطرف الخيط. هذا القلم الذي يضيء. لقد رأيته سابقاً في حقيبة ميس مع شريط الأمل لأم كلثوم.
قمتُ بسرعة جنونيّة إلى غرفة ميس فتحتُ حقائبها.. لا يوجد فيها أثرٌ لا للقلم ولا للشريط. وبدأ صراع آخر. كيف يوهمني بكل هذا الصدق والجديّة. في الوقت الذي يسرقني ويسرق أختي. إذاً حضر إلى هنا بمهمة من مهامه، الشريط والقلم لا بدافع الحب. كل يوم أكتشف أنَّني أغبى من ذي قبل.. لكن دموعه وملامحه ولهفته وحضوره الأكثر من سريع وكأنه قادم على ظهر من براق. ومع هذا فهو خائف. خائف من أن يقع الشريط والقلم بين يدي لماذا وهو من وعدني بأنه سيجري محادثاته ويدخلني إلى تلك المنظّمة؟!!
وأي غباء لي.. كيف أطلب منه هذا الطلب؟!! هل الفضول يجعلني أتورّط إلى هذا الحد، حد اقتحام المجهول والخوف؟!!
ـ يا الله. أنا في دوامة. دوامة حقيقية.
ـ أفزعني جرس الهاتف لدرجة أنني انتفضتُ من أفكاري بهزة عصبية وهرعت أردّ عليه.
ـ نعم.
ـ مرحباً.. رولى.
ـ فؤاد؟!
ـ نعم فؤاد.. وهل هناك غيري.
ـ لا طبعاً.
ـ ما بالك رولى؟!
ـ لا شيء.. كنت أفكر، وجرس الهاتف أفزعني.
ـ ضحك بصوت عالٍ وقال: لا هناك اختلاف كبير بينكِ وبين ميس.
ـ من أي ناحية؟!
ـ من ناحية الجرأة.
ـ قبل مدة كنت تراني صلبة كالصوّان أما اليوم فتراني هشّة مثل قطعة (بسكويت).
ـ هكذا أحبّ الأنثى مع إضافة بسيطة. قطعة بسكويت مغطّسة بالشوكولا.
ـ فؤاد ماذا حصل لك.
ـ لا شيء. أقول لك فقط كيف أحبّ الأنثى.
استفزني كلامه لدرجة أن أقول، وأنا أحب الرجل كفاكهة قاسية ونادرة وتلسعني حموضة بكارتها.
ـ لا.. نصيحة مني. دعيها تنضج فمذاقُها ألذّ وهي تقطر عسلاً وشهوةً.
ـ فؤاد أنا حرّة فيما أحب.
ـ اسمعي كلامي إنه خلاصة تجربة وستستفيدين منه.
ـ إلام تنوّه فؤاد؟!
ـ إلى ما قصدت في كلامك.
ـ أرجوك. أنا لا أسمح لك. كيف تحادثني بهذه الجرأة وبهذا الطريقة وأنت تعرف حالتي النفسية.
ـ رولى ما بالك؟! اخرجي قليلاً عن رسميتك.
ـ ألا تستطيع أن تخرج أنت عن هزليتك؟!
ـ أأعتبر هذا تجريحاً؟!
ـ فؤاد أرجوك أنا متعبة جداً بعد ليلة أمس وحضور فهد.
ـ ماذا حضور فهد؟! ما الذي أتى به إلى هنا؟!
ـ أنا اتصلتُ به لأستفسر عن بعض الأمور.
ـ رولى ضعي القهوة على النار سآتي حالاً.
لم ينتظر اعتراضي أو دعوتي. أغلقتُ السماعة ثم ذهبتُ إلى غرفة النوم أعيد تفاصيل كلامه. نعم كاد أن يمسك مفتاح نفسي إنه رجل خطير لا يقاوم. لكن كلامه يسعدني ـ يدغدغ مشاعري يضرب على وتر لا تقاومه النساء ـ وتر الرغبة ومع هذا سأقاومه. نعم سأقاومه قدر الإمكان.
تذكّرت طلبه. وضعتُ القهوة على النار. رتّبت المنزل وبعض اضطرابي. جلست على الشرفة بانتظاره. لم يطل حضوره. شاهدته يقفز مسرعاً يحاول تجنب سيارة، ثم أكملَ الصعود ركضاً. يا إلهي كلّه حيويّة. فتحتُ الباب قبل أن يقرع الجرس فإذا به يقول: أيْوَهْ.. هكذا كالعشاق تنتظرين قدومي بلهفة.. أدهشني أنه يعرف كل ما أخفيه ثم مدّ يده التي يخفيها خلف ظهره وإذا بفلّة حمراء رائعة ترقص على اهتزاز يده المرتجفة وقال: تفضلي.
ـ أهذه لي؟!!
تلفّتَ حوله ثم قال: لا أظن أنه يوجد أنثى أخرى هنا.
أخذتُ الوردة مندهشة فهذه أول مرة في حياتي يقدم لي أحدهم وردة حمراء. شعرتُ بسيّالة غريبة. وبدفق شديد في عروقي. ماذا أسمّي ما أشعر به حباً؟! عشقاً؟ نزوة؟ رغبة؟ حاجة؟! لا أعرف؟. لكنه انجرافٌ غير طبيعي نحو رجل بدأ يتسلى باللعب على أعصابي يعزف عليها أي مقطوعة شاء في أيّ وقت شاء.
نظر في عيني مباشرة وقال: رولى أنت حقاً في منتهى النقاء.
شكراً فؤاد. أشكرك من كل قلبي أنت لا تعرف كم أسعدتني بهذه الوردة.
ـ هيْ. رولى. إنها هدية بسيطة جداً. لأقول لك بلغة الورود أنتِ مثلها أو مثلك من تُهدى الورود.
ـ حقاً فؤاد. تنتشلني ببساطة .من أفكار كادت أن تسحق دماغي.
ـ رولى تعالي معي إلى الشرفة. تبعته بكل طواعيّة.
ـ انظري أمامك. ماذا ترين؟!
ـ شوارع ـ سيارات ـ أضواء ـ ضوضاء.
ـ فقط يا رولى.
ـ ماذا تقصد؟!!
ـ رولى، كلُّ واحد منا يرى الدنيا بخصوصيته.
ـ ماذا ترى الآن؟!!
ـ أرى الحياة. أرى الجمال. الورود. أرى النساء. كلّ حركة حياةٌ، وكلُّ حياة متعة وكل متعة اختبار.
ـ فؤاد كيف تفكر؟!! | |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:01 pm | |
| فقط أحاول أن أعطي كلّ شيء حقه. تشرق الشمس وتغيب في دورة يوميّة ولا يهمها أبداً إن كنت ترقبين شروقها أو غروبها، ومع هذا فأنت الخاسرة الوحيدة. للشمس أسرار لو راقبتها لعرفت مدى النعم التي نحيا بها. فلماذا تأسرين نظرك بأربعة جدران في الوقت الذي تملكين به الحرية لتطلقين نظرك إلى ملكوت واسع مدى لا ينتهي إلا بنهايتنا. ببساطة أكثر. تخيلي أن الزمن كله ساعة والشمس عقربها. والأيام هي حساب التوقيت علينا.
ـ فؤاد ما هذه الفلسفة.
ـ من تحدث عن الفلسفة؟! أنا أتكلّم بكل بساطة عن رؤيتي في الحياة. صدقيني لن تجدي وأنت على هذا الحال من يمسح لكِ دموعاً. فحاولي الانطلاق. في هذا الكون، لا قلب ولا فكر ولا إنسان بلا هموم ومعاناة. حلّك يا رولى هو النسيان.
ـ فؤاد أتمنى أن أصل إليه. لكنّه يهرب منّي مع كلّ جديد أكتشفه.
أي جديد الآن، لا أريد أن أسمع أي شيء. أرجوك رولى هل تقبلين دعوتي على العشاء؟!!
ـ طبعاً.. لا.. كيف أخرجُ وأختي ميس لم يفتْ على وفاتها سوى مدة قصيرة؟!
ـ رولى يؤسفني أن أقول أن ميس انتهت في لحظة وفاتها.
رحلتْ بلا عودة. مهما طالت مدة مكوثك هنا فلن يغير هذا من الأمر شيئاً. ومن قال إنَّ ميس تريدك على هذه الحال. كانت تحب الحياة بل كانت رمزها. امنحيها الراحة وافعلي ما كانت تودّ أن تراكِ عليه.
ـ فؤاد لم ينتهِ الزمان.
ـ وما أدراك. من يعرف موعد نهايته لعلّي بعد لحظة أموت.
لا شعورياً وضعتُ يدي على فمه لأنهي كلاماً لا أودّ سماعه. أمسك يدي كما كان يمسك تلك الوردة بكل أناقة وحنان. قبّل أصابع يدي واحدةً واحدة. حتى كدت أقع أرضاً من شدة اضطرابي وأنا مثل الصنم أنظر في عينيه وشفتيه مأخوذة مسحورة.
ما الذي يحصل معي؟! لماذا نسيتُ كل القوانين والأعراف والتنظير الذي كنت أجابه به أختي ميس؟! لماذا أقف كالبلهاء في حضرته؟! لماذا أستسلم بكل عفوية لاضطرابات جسدي، لماذا أتحوّل بكل بساطة إلى قطعة من بسكويت هشة تذوب عليّ كلّ شوكولا العالم. لماذا أكون كما يشتهيني؟! أغمض عينيّ لأسمع صوته اللزج يسيل من أذنيّ إلى قلبي إلى كامل جسدي أشعر كأنني عصفور يرتجف بين يديه.
ـ رولى ما بالك. أنت ترتجفين: هل تشعرين بالبرد؟!
ـ تسأل: يا لك من شيطان؟!
ـ ضحك بخبث وقال: يسعدني جداً أنك تملكين هذه الحساسية النادرة.
ـ كأنك عرفت مفتاحي!!
ـ ضحك بصوت مدوٍ وقال: لا بل طريق الوصول إليه. فالأنثى عالم واسع جداً. فيه من المفاجآت ما يجعلني أتريّث كثيراً قبل أن أدّعي أنني عرفت مفتاحها.
ـ حقاً؟!
ـ بل أكثر أنت داهية.
ـ هل هذا مدح أم ذم؟!
ـ لست أدري. الغموض هالة من العظمة. لكنّ الذكاء هو أكثر ما يلفت نظري في الرجل.
ـ ها قد عرفتُ السمة الأخرى التي تعجبك في الرجال.
ضربته بخفةٍ على كتفه ومضيت لإحضار القهوة.
ـ دعينا نشربها خارجاً.
ـ أول مرى أرى رجلاً لا يحبُّ الانفراد بالأنثى.
ـ من قال لك ذلك. سأنفرد بك. ولكن هناك على الشاطئ. دعينا نمشي حفاة، نلعب بالماء، نأكل بعض السندويشات. نتحدث بحرية كما تفعل الطبيعة. أشعر بعفونة الوحدة هنا.
ـ هل حقاً تشعر بوحدتي يا فؤاد؟!
ـ أنا أيضاً وحيد.. والوحدة بين الجمع أمرُّ وأقسى.
ـ لماذا أصدّقك؟! لست أدري.
ـ لأنك تودّين أن تصدّقي أي شيء.
ـ نعم لعلّي كذلك!! لكَ حكمة تفوق بيتهوفن.
ـ أكان حكيماً رغم صممه؟!
ـ ما سمعتُ عن حكمته شيئاً ولا هو سمع. لكنّه أسمعَ العالم بكاءه الصامت حوّله إلى فن.
ـ أحسنتِ يا رولى. لا يدوم إلا الفن، ولا يدوم إلا كل عظيم. أقصد رغم عاهته صنع فناً يثبت للإنسانية أنه موجود. وكذلك يصنع أناس آخرون. يضعون هدفاً أمامهم. يمضون هم ويبقى ما صنعوا. كم من قصيدة كُتبتْ بالدّم قالها طفل بريء دون أن ينطق بحرف، تحدّى بها كل قصائد الشعراء الموجودين على قيد الخوف. يمضي هو ونبقى نحن نجترُّ أحزاننا لنقول قصائد تبدو قزمة جداً أمام مشهد رحيله.
ـ هيْ.. فؤاد ما هذه الحكمة التي هطلتْ عليكَ فجأة؟!!
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:02 pm | |
| رولى. منذ قليل كنت ألعقُ عن أصابعك قصائد لم تكتبها يداك يوماً. لكنني تذوّقت لذّة طعمها. طُبعتْ في ذاكرتي. صارت مشاعر جديدةً ما كلّ ما يكتب شعراً، وما كل ما لا يقال بتافه.
ـ أنتَ تذهلني.
ـ أنتِ تصعقينني. أشعر أنني أمامك كطفل. أريد أن تأخذينني في حضنك كأمي التي ما شاهدتها يوماً. وأشتاق إليها كثيراً الآن.. أشتاقها فيك.
ـ أمك لم تشاهدها.. لماذا؟!
ـ أقصد لم يتربَّ وعيي عليها.
ـ كيف.. ولماذا.
ـ لأنها قتلتْ مع أخوتي أثناء الحرب.
ـ ما كنت أدري هذا.
ـ ليس مهماً. المهم خذيني بين أحضانك.. أرجوكِ أنا محتاج جداً لأن أبكي.
كيف يكون هذا التوارد. الأمس كنت أتمنى ذلك واليوم هو يتمناه الفرق بين الأنثى والذكر. أنها تضمر أمنياتها وهو يعلنها.
فقلت له لعلي أفضّل الخروج الآن.
ـ أتهربين مني يا ميس؟!
ـ فؤاد.. أنا رولى يا فؤاد.. أكنتَ تبحث عن صدر ميس؟
ـ عفواً رولى زلة لسان.
ـ لا عليك إنها أختي أيضاً.
ـ هربتُ، ودخلتُ غرفتي لأغيّر ملابسي. رغماً عني غالبتني دمعة بل دمعتان، بل نهرٌ من الدموع. هل أغار منها. أم أبكي على مشاعر كنت أظن أنها تخصني بعد رحيلها؟!
لستُ أدري كل ما أشعر به مصاب بالفوضى وبالغموض. أسرعتُ بالخروج وقبل أن أفتح باب المنزل قال: أرجوك رولى أنا آسف حقاً.
ـ لا عليك يا فؤاد فأنت بالأصل تحبها.
ـ لكنني منذ قليل كنت أقنعك برحيلها.
ـ تقنعني. هذا شيء من فعل العقل أليس كذلك؟!
ـ نعم نعم.
ـ والعقل لا علاقة له بما ينبض هنا. وبما يخزّن من ذكريات. لابد ستفلت رقابته عن القلب ليخرج اسم من نحبّ دون رغبة منا.
ـ لا يا رولى أرجو أن تصدقيني. منذ أن ضممتك تلك المرة وسمعت كل ما تقوله اختلاجاتك شعرت أنني أمام عشق جديد.
عشق لم أكن أتوقع هبوب عاصفته بهذه الشدة.
ـ ما أسرعكم أنتم الرجال بتبديل العشيقات.
ـ وأنت تعشقينني فلا تنكري ذلك.
ـ لا. لا أعشقك!!
ـ فلماذا كنت ترتجفين بين يديّ قبل قليل؟
ـ موقف لم أتعرّض له من قبل.
ـ ألم يلمسك رجل قبلي؟
ـ طبعاً لا. ولن يحصل!!
ـ أهذا وعد بأنك لي؟!
ـ طبعاً لا. لست ملكاً لأحد.
ـ عفواً ما قصدت ذلك.
ـ فؤاد. أنا غيّرت رأيي. لن أذهب إلى أيّ مكان.
ـ حسنٌ. إذاً نبقى هنا.
ـ عفواً. أريد أن أكون وحدي.
ـ هاأنت وحدك.
ـ بدونك فؤاد.
ـ كنت أنتظر أن تقولي شيئاً آخر.
ـ من بعد إذنك.
ـ هل تطردينني؟
ـ من بعد إذنك. أشعر أنني متعبة جداً.
ـ لا بأس. لكِ ذلك.
ـ وداعاً.
ـ على الأقل قولي إلى اللقاء. سأمضي رولى سأمضي.
ـ مع السلامة.
ـ سأمضي. لآخر مرة أقولها.
ـ سمعت وأنا أقول مع السلامة.
ـ أخاف عليك من الندم.. حسنٌ سأمضي.
ابتسمتُ من تكرار الكلمة. وما إن شاهد ابتسامتي حتى انقض عليّ مثل طفل يتعلّق بذيلِ أمّه المسافرة وقال: رولى أرجوك. أمنية ملحة. رجاءً طلب، أي تسمية، اختاري أنت. أرجوك رولى عانقيني.
نظرتُ إلى نداء الرجاء في عينيه. كان فعلاً ملحاً. فارتفع ضغط الدم في عروقي. فجأة. بحرارة، بمرارة، بحزن، بشوق، بمنتهى الفجيعة ضممته، ولأول مرة أشعر أن رائحة الأرض تعبق وتعبأ بصدري، ورائحة الخبز المخبأة في قمح صدره تشوى على تنور صدري، ورائحة فلة حمراء تشتعل في ذاكرتي، وأصابع لقصائد تكتب سراً تعبأ في شراييني، وتخبأ لموسم القحط. للسنين العجاف. جن في عروقي إيقاع الحياة. راودتني رغبة بالطيران، ورغبة أخرى بالنسيان ويخذلني الزمن. هي لحظات تعبرنا من سعادة غامرة. لكنّ الحسرة التي تبقى مرارتها (أنها تعبرنا) ونبقى مثل إشارات المرور نشعل ألوان العبور والوقوف والتّهيؤ لكلا الحالتين.
آه يا فلة لها لون دمائي ودماء ميس، كيف أفرّق بين دم يغلي ودم مهدور وهما دم واحد في عروق مختلفة؟!
آه يا حبيباً سكن بقلب تفجّر لتبقى على قيد خيانته ومع من. مع من تدّعي حباً لأختها وفداءً لها.
كيف يحمل الإنسان كل هذه التناقضات؟! كيف يبرر لنفسه ما يحرّمه على غيره؟!
ميس يا نعْمَ ما فعلتِ. أحسدك على نهاية أنت اخترتها ليتني بدلاً عنك وليتك بدلاً مني.
ميس هل التقيتِ بوالدينا؟! هل أنتم الآن عائلة واحدة؟! سآتي ميس. سآتي وهذا هو الحل الأفضل. سألتحق بكم كلما زاد عمري يوماً. أو لعله كلما نقص من عمري يومٌ أشعر أنني أقترب منكم أكثر. قرأ بعيني كلّ الحسرة وكلّ الألم وكل الرغبة هدأ، ضمّني وعيناه تقولان أكثر مما يقول الكلام. وغادر مسرعاً.
وبقيت أتحسس دفئاً أخذ يبرد دمعة دمعة، وشهقة شهقة على إيقاع الوحدة. هاأنا من جديد على قيد الحزن والوحدة هاأنا على قيد الخوف. وها كل ما حولي مجهول. مجهول. مجهول. مرعب حدّ الجنون. الجدران تمشي. الصور تتحرك. إيقاع الماء في بركة المغسلة يثير أعصابي. صرير الريح المندفعة من ثقب الباب والنوافذ يثير هلعي. أقدام الجيران ليلاً. صرصار عابر يبحث عن قطعة خبز يشل حركتي. ساعات وساعات وفجأة انتبهت. كيف سأكون مثل ميس وأنا بهذا الجبن؟! لابد من الحركة ـ لابد من اقتحام الخوف. فماذا سيفعل صرصار أمام ضربة حذاء، والظلام يتبدَّدُ بكبسة زر؟!
ملّت صورتي على الجدار من سكوني. أخالها تحرّكت الآن لتلبسني إطارها فلابد أن تؤدى فريضة الحياة
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:02 pm | |
| الفصل الخامس
مدّ الصَّباحُ أنامله. أزاح ستائر الليلة الماضية بصمت. ابتسمتْ الشمس في غرفة ما كنت أظنها ستستجيب يوماً لأيّ ابتسامة. أشرقتْ بنور مبهر وسرى في شرايينها دفء الربيع. كلُّ ما حولي يستفزني للنهوض. فتحتُ الباب المطلّ على الشرفة. كانت هناك قطة نائمة على الأرجوحة تستظلّ من أشعة الشمس وتتمطى وكأنها في استعراض للفراء، ثم أخذت تلعق أطرافها الأربعة، وتغمز لي بعينين مازال النعاس أو الاستعطاف يداعب جفنيها، كانت الشرفة مغبّرة جداً، وحتى أوراق النَّباتات تسألني عن سبب قدوم الخريف في وقت الربيع. لا شيء سوى الإهمال يقدّمك إلى الموت كوجبة سريعة. نعم أنا مهملة جداً. تذكّرتُ أنني لم أفطن إلى تنظيف وترتيب المنزل منذ رحيل ميس. حتى أكوام الثياب المتسخة كانت تصدر روائح صارخة.
لكن أعضائي مترامية مثل ثياب عُلّقت على الحبل يلعب بها الهواء كيفما شاء اتجاه الهبوب. ذهبتُ أغسل وجهي بعد أن وضعت القهوة على النار. كان الحمّام يستغيث من حالته المزريّة، وغرف النوم يأكلها الغبار فلا لمعة جمال على ذاك الأثاث الفاخر.
شعرتُ للحظة بالإشمئزاز، وقررتُ تطهير المكان بكل المنظّفات العالمية وتمنيت لو أنّ هناك منظّفات مادّية تغسل الدماغ والقلوب والأرواح من شوائب الآلام والأوهام والأدران العالقة على جدرانها
قفزتْ إلى ذهني فيروز لعلّها البداية الصباحيّة الجيّدة لغسل النفوس. أدرت إبرة المذياع على المحطة التي تصدح فيها فيروز على حنجرة الوقت. أخذ صوتها يتسلل إلى أذني كفعل مخدر عام قبل عملية صعبة. جلستُ على كرسي من القش. ووضعتُ الفنجان على حافّة الشرفة. مددت رجليّ على كرسي آخر وأسندت رأسي، وسبحت مع صوت سماويّ إلى أقاصي الشعور. عندما تحتسي فيروز صباحاً مع لسعة الربيع المعبأة برائحة الأرض تشعر أن قطرات الندى تنضحُ من مسام روحك، حتى تسيل دموعاً تغسل بها أدران الماضي العالقة على جدار الذكريات. وكنت أسمع الفنجان وهو يحاور الصحن عن لمسة يدٍ متعبة لا تحترم لحظة السكون.
بعد أن تمادت الشمس في تحرشها، أجبرتني على الاعتدال وفتح جفني نظرت إلى المدى إلى السماء. حاولتُ أن أنظر إلى الكون بطريقة فؤاد. راقبتُ زوجين من العصافير وهما يطيران ويزقزقان ثم يحطان على شجرة يتعالى فيها نداء الجوع لفراخ صغيرة. ثم تبعت فراشة بيضاء تهمس لوردة جوريّة بما لا يعنيني على الإطلاق.
رشفتُ قهوتي، ثم حرّكت ثفلها وقلبت الفنجان وتركته حتى ينهي بكاءه فلا يمكن أن أفهم حديثه وهو يبكي. مسحت آخر دمعة له على طرف الصحن، ثم نظرت إلى داخله. وجدت وجه أمي الضاحك يقفز من أسفله، ووجه ميس ووجه أبي وبينهما طريق مسدود، وطائر ينقل بشرى، وخاتماً، وأوراقاً متعددة، والكثير الكثير من الخرافات. ضحكت هازئة من ذاتي. ها إنني أفعل في لحظة يأس ما كان يفعله الجهّال أمثالي. ثم مددت أصبعي لأمسح داخل الفنجان وأقول أيمكن لمثلي أن تعود إلى أبجديّة البدائية لتفسير المجهول مع أنه مهما حاولنا فلن يتكشف لنا أمرٌ ما لم ينتهِ القدر من رسم مخططه؟! أراحتني هذه الفكرة وبدأت بالعمل. لابدّ أن أنظّم وقتي لأنهي واجباتي بسرعة. كان النشاط قد بدأ يعقد اتفاقيّة مؤقّتة مع أعضائي بعد جرعة رائعة من فيروز التي تسيل الآن على جدران أعصابي.
انتهيت ودخلت الحمّام لأستحم بماء بارد يشدُّ جلدي وعضلاتي ويشدُّ من صدري ألف شهقة كنت أدّخرها لزمن الخوف القادم لكن لا بأس خرجت.
ارتديت ملابسي وبعض الهدوء وتمددت على السرير الذي سحب مني تنهيدة طويلة وأخذت أسترجع الماضي وأحادث نفسي. دائماً تباغتنا الأقدار بما لا نتوقع، وننسفُ بلحظة واحدة ما بنيناه سنينَ. وما عشنا طوال دهر نخطط لمداراته أو معايشته أو الهروب منه.
لكنّ الموت هو الحقيقة الثابتة المذهلة المرعبة في آن. يفتح عليك نافذة الذهول على المجهول. تحدق في العدم وكأنك أمام وحش سيأخذك على حين غفلة ـ تحاول أن تتخيّل شكله. تحاول أن تحتمي منه. تحاول أن تخلّد نفسك. فلا تجد وسيلة للهروب منه سوى النسيان لو كنت دائم التفكير فيه لَما استطعتَ الحياة دقيقة واحدة. لأن الرعب سيشلّ حركة الأيام. ولكنّ المشكلة ليست فينا. فهل تراه سينسانا إنه ببساطة يمهلنا ضاحكاً وكأنه يقول: يشغلني عنك مَنْ هو أهم منك وسأعود لاحقاً.. فأنا حتفك!!
لم تكن فاجعتي بموت أبي قدْرَ فاجعتي بموت أمي. تعوّدت على موته سابقاً بالبُعد. لم تجمعني به ذكريات كثيرة. كان مثل الطيف الذي يزورني كلما ذكرته أمي. لكن أن تموت أمي فتلك هي الكارثة لأنها وضعتني بكل عُريي أمام أعاصير الخوف. كان ذراعاها شالاً من الدفء حريريّ الملمس وكانت عيناها نافذة المدى. وعاد الموت أخيراً ليخطف ما لم أتوقعه، ليخطف عكازي على الحياة. إنه يتبعني بكل خطوة. إنه حولي، داخلي لكن لماذا أظن أنه مخيف؟! هل لأنه المجهول الذي يترك لك كامل الجسد، ولكن لا حياة فيك. لستُ أدري. أرجو أن يكون الموت صديق أحبابي وراحتهم الأبدية. ولكن ما أدريه أنني مذهولة وأن ملايين الأسئلة تتزاحم في عقلي تريد الإجابة عليها دفعة واحدة. لعل الهروب من التفكير أسلم طريقة للهروب من الخوف. بسرعة أمسكت سماعة الهاتف لأحادث المكتب الذي أعمل فيه. ردّ لؤي بتثاقل: ألو نعم!
ـ مرحباً لؤي.
ـ رولى؟!! وأخيراً خرجت من ذاتك.
ـ كيف حالك لؤي؟!
ـ تمام.. بأحسن حال وأنتِ؟!
ـ في غاية الملل.
ـ أما آن موعد العودة للعمل يا رولى؟!
ـ ليس بعد.
ـ فات أكثر من شهر الآن.
ـ نعم أدري لكنني بحاجة إلى تمديد إجازتي فأرجو أن تقدم لي شهراً آخر بلا أجر.
ـ رولى ألست صديقك؟!
ـ نعم ـ لؤي!!
ـ ألا تسمعين نصيحة صديق؟!
ـ طبعاً.
ـ إذاً لا جدوى من تمديد الإجازة. العمل حالة ديناميكية تخرجك من جو الروتين لتجدي نفسك على طريق النسيان.
ـ لؤي. مللت الخروج من الروتين إلى الروتين ولكن مع هذا كلامك على ما يبدو صحيح.
ـ إذاً ستأتين غداً.
ـ لست أدري.
ـ رولى لن أمدد لك الإجازة حتى الغد.
ـ حسنٌ لؤي.. أشكرك.
ـ رولى لحظة.
ـ ماذا لؤي؟!
ـ تقوم الدائرة برحلة إلى الجبال. فما رأيك بالذهاب معنا؟
ـ الجبال؟! لا.. أبداً.. أبداً.
ـ كما تشائين أنا آسف على ما يبدو أنت حقاً تحتاجين إلى تمديد الإجازة مع السلامة رولى.
ـ مع السلامة.
أعدت السماعة بعصبيّة.. ترى كيف أهرب؟! هل أغيّر كل هذا البلد لأرتاح؟! وأين أذهب؟! هل أعود للبحث عن عائلة لي في تلك القرية التي أقفلنا عليها حتى الذاكرة؟! ومن سيتعرّف عليّ؟! وهل سأقبل تلك البيئة التي سيغمى عليها لو شمّت رائحة العطر المنبعثة من شال على كتفي؟!! أم سيغمى عليّ لو شممت رائحة الأرض التي اختلط بها روث الحيوانات فأخصبتْ رغماً عنها وإلا فعقابها روثٌ أكثر؟! ولماذا لم أكوّن لي صداقات يا ترى؟! لماذا أتسألين؟! كيف كانت أمك تضعك في صندوق من العاج وتضعك على الرف الزجاجي كي لا تعبر أسماعك كلمة نابية أو خبر فاضح، ثم أكمل والدك المهمّة فلا يسمح للتلفاز حتى بالعمل إلا بعد رقابة قانونيّة عليه وكأنه الشرطي الذي لا يسمح للغريب بالعبور إلا بجواز سفر. ثم انتبهت كيف أحادث نفسي بصيغة المفرد. وقبل ذلك كنت أتحدث مع ميس بصيغة المثنى. أفكار عصفت بدماغي فقررت أن أرتدي ثيابي وأذهب إلى شاطئ البحر.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:03 pm | |
| اشتريت طعاماً جاهزاً وشراباً مثلجاً كان الوقت بعد العصر والشمس رائعة في طريق ذهابها إلى الغروب. فوجئتُ أن الشاطئ مكتظ بأناس يمرحون ويلعبون ويعرّضون أجسادهم لجرأة الأبصار، ولجرأة أشعة تترك مكان قبلتها احمراراً رائعاً. كانت النسمات تداعبني بلطف. جلستُ على طاولة نائية أنظر إلى أمواج تسرّح الشاطئ بكل نعومة، فيبدو مثل صدر عاشق مفتوح لكل الاحتمالات. كانت الأقدام العابرة تترك أثرها على صدر رحب فتغوص داخله حتى يغطيّها الرمل، وتنسحب للخطوة التالية وكانت الأمواج تهزأ دائماً من كل عابر. سيتعب الكون ولن تتعب تلك الأمواج ولن تترك أثراً لعابر على شطها!!
على بعد عائلتين. جلس شاب جلستي ذاتها وعلى وجهه تجاعيد هَمٍّ. كان ينفث دخان سجائره كمن يرمي بكتلة أيام ثقيلة عن صدره. نعم شعرت به. لا يشعر بالأسى إلا من ذاقه. أتراه مثلي فقد أسرته أمْ ماله أم؟!! أجابني على أسئلتي حضور فتاة شقراء ترتدي ثوباً أزرق يكشف عن مفاتنها. فما كان منه إلا أن قفز والفرح يتوّج حركاته.. تخاصراً ومضياً إلى الغياب. كلُّ ما حولي يعرف وجهته ويملك وسيلة الوصول إليها إلا أنا ما أقسى الضياع!!. ما أصعب الشلل!!
كنت أظن أن مبادرة الخروج من المنزل ستخرجني من ذاتي، لكنني مثل الثور المربوط إلى الطاحون، أدور، أدور مغمضة العينين. أدور لأفتت أعصابي إلى طحين ذكرى. فلا هو يصبح خبزاً يسدُّ جوع معرفتي ولا الريح تتركني ألّمّ ما تبقى لأبقى.
حملتني قدماي إلى طريق العودة. العشاق في زواياهم الواهمة، الباعة على أرصفة الاستهلاك، والسّيارات في عرس الضوضاء، وخيوط الأرواح في كف الله. كان يجرُّ بخيطي إلى الطريق، التي لا يعرف نهايتها إلاّ هو.
عدتُ إلى المنزل لأرى رقم فهد على الكاشف. أعدتُ الاتصال به.
ـ مساء الخير يا فهد.
ـ أهلاً رولى مساء النور.
ـ اتصلتَ بي. كنتًُ خارج المنزل.
ـ نعم رولى لأطمئنّ عليكِ.
ـ أنا بخير. هل من أخبار لديك؟!
ـ لا. لا أخبار حتى الآن.
ضحكتُ هازئة. شعرَ بالسخرية في ضحكتي فقال: ما بالك؟!
ـ فهد سأحكي لك عن قصة قديمة حدثت معي في أيام الطفولة.
ـ حسنٌ.. احكي.
ـ عندما كنت صغيرة.. صغيرة جداً. كنت أرى والدي عندما يقطع عهداً لأحد يضع يده على شاربه.. وكنت أضحك من حركته لدرجة جعلتني أدخل غرفتي وأرسم شارباً كي أقلّده. وعرفت أنني لا أستطيع إمساكه لأنه شارب وهمي. فأتساءل: لو كنت أريد قطع عهدٍ فماذا أفعل. فجاءت حركة أمي الضاحكة أيضاً بأنها ستقصّ سالفها لو لم يحدث كذا وكذا. لكنني نسيت يا فهد نعم نسيت أنه لا شارب لك. ولست فقط وحدك. فهذا زمان لا يعترف بالشوارب. صارت موضةً قديمة.
ـ شكراً لك يا رولى على هذه الإهانة بمعنى أن زمن الشوارب هو زمن الالتزام.
ـ على ما يبدو.
ـ ومعنى ذلك أنني لست مسؤولاً عن كلامي.
ـ على ما يبدو. أيضاً.
ـ المشكلة أنني أقدّر حزنكِ وألمكِ ولن أغضب منك.
ـ لتغضب ما عاد يهمني أي شيء.
ـ اهدئي رولى، وحاولي أن تتفهمي.
ـ ماذا أفهم وأنت أتيت لتوهمني حباً وصدقاً ثم تسرقني وتهرب مدّعياً مساعدتي؟!
ـ أنا سرقتكِ؟!
ـ لا بل سرقت ذاتك، سرقت زوجك الراحلة، سرقت ميراثي يا فهد.
ـ أنا؟!
ـ طبعاً أنت!!
ـ ألم تنم في غرفتها؟! ألم تفتح حقائبها؟! أريد القلم والشريط.
ـ أي قلم وأي شريط؟
ـ القلم الذي يضيء وشريط الأمل لأم كلثوم!!
ـ أنا لا أعرف شيئاً مما تتحدثين. ولكن إذا كانت المشكلة قلماً وشريطاً فغداً أحضر لك ألف قلم والمجموعة الكاملة لأم كلثوم.
ـ فهد لا تتغابَ، ولا تشكّك بذكائي.
ـ رولى. أنت غير طبيعية. اعرضي نفسك على طبيب عصبي أرجوك.
ـ نعم تفعلون ما يطيبُ لكم، ثم تتهموننا بالجنون. سأعترف لكَ أنا وصلت حافة الجنون. ولكن كل جنوني سأصبّه عليك ما لم تُعِدْ ما طلبته منك.
ـ رولى أنا ما أخذت شيئاً من منزلكم ويكفي إهانات لي.
أغلقتُ السماعة بعصبية، ثم ارتميتُ على السرير، وضعت الوسادة على فمي وبدأت بالصراخ. ثم حالفني سيل من الدموع أخمد الحرائق المشتعلة داخلي. إلى أن تراميت بكل ما فيّ مستسلمة لموتٍ مؤقت.
في تمام الساعة الثامنة شاهدت أنني أطير بثوب أزرق. أحلّق على مهدٍ رائع مثل بساط الريح. نزلت على كومة قطن ناصعة البياض. أقفز وأقفز. تذكرت أرجوحتي القديمة على غصن شجرة ضخمة تتحدى الريح. كان والدي قد صنعها من حبالٍ ثخينة. أتأرجح قليلاً وأطير لأقفز قليلاً. فجأة سمعت صدى عالياً في السماء. كان صوت أختي ميس، وهي في مهدها تلتف بلّفة بيضاء وتبكي. نزلت إليها. وضعت زجاجة الحليب في فمها. ضحكتْ وأكلتْ ثم نامتْ. حاولتُ العودة إلى تلك الغيمة البيضاء. فوجدتُ وجهها مكفهراً، وأخذتْ تذبل وتذوب مثل قطعة ثلج تعرضت للحرارة، وكان مصدرها قلبي. نزلتْ أمطار عنيفة غزيرة. فركضتُ إلى أرجوحتي تحت شجرة صارت جرداء إلا مني، وصوت الرعد يزلزل أركان السماء، ونور البرق مخيف يصعق عيني ـ صرخت وفتحت عينيّ فإذا برقاص الساعة ما يزال يتأرجح بي على سخط الزمن، وصوت الجرس المتتابع يدفعني إلى النهوض، فنظرت إلى معصمي كانت الساعة الثامنة تماماً. من يا ترى؟ وقمت مسرعة أفتح الباب. نظرتُ من العدسة المكّبرة لم أشاهد شيئاً فقلت:
ـ من الطارق؟!
ـ من الطارق؟! عيني ما تزال على العدسة وإذا بوردة تسدُّ مدى نظري. فتحتُ الباب فإذا بفؤاد يتقدّم منّي وكأنّه يهمُّ بتقبيلي. في تلك اللحظة. قُرع جرس الهاتف. كان بمثابة المنقذ. ذهبت لأردّ عليه وأنا أقول:
ـ تفضل فؤاد. أدخل. سآتي حالاً.
ـ نعم.. نعم.
ـ مرحباً صباح الخير رولى.
ـ صباح النور لؤي.
ـ تقدمتُ بطلب إجازتك للمدير فرفضها ماذا أفعل الآن؟!
ـ لا بأس لؤي غداً سآتي لأحسمَ الأمر إما أن أستقيل أو نتفاهم.
ـ ماذا؟!! أوصلتْ حدّ الاستقالة دعيني إذاً لأحاول معه مرة أخرى.
ـ أشكرك لؤي كلّفتك فوق طاقتك.
ـ عفواً رولى.. اعتني بنفسك.
ـ لا بأس إلى اللقاء.
ـ التفتُ خلفي لأرى فؤاداً متكئاً على الباب وهو يتأمّلني بثوب النوم الذي يشف بعض الشيء، والذي يظهر تمرد صدري ويتأمّل شعري الغجري ـ قال: ما أروعك ببساطة هذه الثياب.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:03 pm | |
| لماذا تتعمد إحراجي؟!
ـ والله أنا صادق.
ـ عن إذنك لأغيرّ ملابسي.
ـ بالنسبة لي أنا أفضّلك هكذا.
ـ لم أردّ عليه فأنا عندما لا أشرب القهوة تكون جاهزيتي للعراك ناقصة. دخلت غرفة نومي فجاء صوته من المطبخ. سأعدّ القهوة.
ـ حسنٌ!!
حزمت شعري بربطة قاسية لأقهر جموحه إلى الحرية، وارتديت بنطالاً من الجينز وقميصاً قطنياً، ثم قليلاً من العطر وخرجت مسرعة. كان قد أخذ القهوة إلى الشرفة. فاجأني أنه يحمل تلك القطة المغرورة بين يديه، ويملّس ظهرها بكل حنان. خرجتْ مني شهقة. أرجوك، دعها لشأنها.
ـ هي من تتمسحُ بي.
ـ لكنها بين أحضانك. ألا تنجو منك حتى القطط.
ـ ماذا أفعل إذا كانت قطتي الغجرية لا تقبل حتى بقبلة كتحية فكان لابد من التعويض.
ـ وقطتك المنزلية ألا تتمسح بك.
ـ لا يا حبيبتي فأنا أحب القطط الشرسة.
ـ فؤاد اشرب قهوتك قبل أن تبرد.
ـ نعم أحبها لاهبة مثل النار.
ـ إذاً اشربها بسرعة.
لا تكون كذلك إلا إذا كانت ممزوجة بنكهة الشهد من شفتيكِ.
ـ ألا تشعر أنك أكثر من جريء.
ـ قوليها.. قولي أنني وقح.
ـ ها إنك فهمتها وحدك.
ـ هل حقاً أزعجك؟!
ـ ألم تشعر بذلك حتى الآن؟!
ـ كنت أظن العكس.
ـ لكل وقت آذان.
ـ آوه.. تعنين أنك الآن منزعجة. حسنٌ نؤجّل القبل حتى نشرب القهوة. ضحكتُ بصوت عالٍ وأنا أقول: ما أبعد مدة التأجيل.
ـ نعم هكذا. دعيني أرَ جمالك وأسمع ضحكتك ـ يا الله يا رولى لها رنةٌ يرقصُ القلب عليها وكم يزداد جمالك. تختلفين جذرياً.
ـ هل كنت قبيحة طوال حزني؟!
ـ لا طبعاً ـ هو الفرق بين الربيع والشتاء ولكلّ فصلٍ جماله.
ـ ها إنني أكتشف فيك ميزة جديدة.
ـ ما هي؟
ـ الرومانسيّة ـ الشاعريّة.
ـ نعم رولى.. الألم يصنع الشاعريّة على قدر ألمي على قدر حسي.
ـ لكنه لا يفعل معي ذلك إنه يثير غضبي ومقتي حتى لأنه ينسيني ذاتي.
ـ لأنك جديدة العهد به. أما أنا فقد تربيت على ثديه. رضعته بدل ثدي أمي. شربت القهر وعصرت الخذلان وأكلت وجبات ساخنة من ظلم يزداد مراراً يوماً بعد يوم.
ـ ألا تحادثني قليلاً عن أمك وأخوتك ولديّ فضول أن أعرف الكثير عن زوجتك.
ـ رولى.. ألا نؤجل هذا الحديث لوقت آخر؟
ـ لا.. أنت دائم الهروب.
ـ لأنني أريد أن أنسى. لا أن أتذكّر.
ـ تنسى ماذا.
ـ تنهّد بعمق. شعرتُ بأنه سيضربني لو سألتُ سؤالاً آخر.
ـ حسنٌ فؤاد. لنغيّر الحديث، واقلب الصفحة.. ثم سألته فجأة
ـ فؤاد
ـ نعم
ـ أتراني أظلم فهداً؟!!
ـ بماذا تظلمينه؟!
ـ هناك شريط (كاسيت) وقلم سُرقا من حقيبة أختي وعندما واجهته بذلك أنكر وسخر منّي. كانت لهجته تقول أنه صادق ولكنْ.. من سرق القلم والشريط من حقيبة أختي؟
ـ كلُّ هذا الهمّ من أجل شريط وقلم؟! هل فقدتِ شيئاَ آخر؟!
ـ لا
ـ إذاً لا تكبّري المشكلة.
ـ فؤاد. لولا أهمية الشريط والقلم لما سرقا.
ـ رولى. ما بالك تحققين مثل رجال الشرطة.
ـ طبعاً يجب أن أكون كذلك، خاصة وأنا أبحث عن مجهول عن حقيقة.
ـ الحقيقة دفنت تحت التراب فلا تبحثي عنها وتأملي. هناك أشياء رائعة فوقه.
ـ دائماً. تسخّف ما أفكر به.
ـ رولى أنا أحاول أن أحميك من أفكارك.
ـ ساعدني يا فؤاد لأصل إلى الحقيقة. أرجوك.
ـ لو كانت الحقيقة رجلاً. وحشاً. لقتلته وحملته لك كهدّية. لكنها مثل عطر. نشمّه ولا نراه.
ـ حسنٌ إذاً. فهذا اعتراف منك أنه موجود مثل الهواء تماماً. لا نراه لكننا لا نستطيع أن نحيا إلا به.
ـ حسناً رولى، سأسألك سؤالاً واحداً فأجيبي بكل صراحة هل أنت خائفة من الموت؟!
ـ لا بل أتمنّاه في كثير من الأحيان. أنا خائفة من الخوف ذاته، من الألم ذاته. من الوحدة من المجهول. من الشك في كلّ ما حولي. أريد فقط أن أعرف الحقيقة مهما كانت قاسية. اكتشاف الخطر أسهل من الشك في وجوده.
في تلك اللحظة. سمعت رنة خفيفة بالكاد أن تسمع. كانت تلك الرنة قادمة من جيب فؤاد سألت: ما هذا الصوت؟!
ـ أي صوت؟!
ـ صوت رنة خفيفة.
ـ لعلها قادمة من بيوت أحد الجيران دعينا منها.
عاود الرنين الضعيف صوته. نظرت في عينيه مباشرة ولم أنطق بحرف فما كان منه إلا أن وقف وركض نحو الباب وغادر مسرعاً.
هرب دون أي إجابة، وأنا أكاد أن أجن. ليس صوت هاتف خليوي. ليس صوت آلة حاسبة ولا مفاتيح. ما هذا الصوت الصادر؟! ولماذا ركض كالمجنون؟!.. لست أدري.. ولكن بحقّ كلّ هذا الضياع الذي أحياه سأعرف وعمّا قريب. سأعرف كل شيء. أعدك يا فؤاد.. أعدك يا فهد. سأصل إلى الحقيقة حتّى لو كانت روحي هي الثمن.
آه من الحزن.. ما هو الحزن؟! هو أن تفقد كلّ الأشياء حولك ألوانها وأن تنفذ أنت من خلال الأقنعة والستائر إلى كوامن الأشياء. ليتكشّف لك سوء ظنك وبدائيّة قرون الاستشعار التي يملكها حسّك، فترتمي بكل خذلان أمام نفسك وتبدأ بالبكاء. إذاً البكاء هو وسيلة الحزن على التعبير وأداته البدائية. أو هو تلك اللحظة الحاسمة التي تدرك فيها حجمك تماماً. فإما أن تفقد كلّ أبعادك دفعة واحدة وتستسلم لليأس. وإما أن تتضخمّ ذاتك أمام ضآلة الكون وتهرع بكل حنكة إلى نسيان ما اكتشفت.
هذا ما كنت أفكر وأشعر به وأنا أزيح غطاء الحزن عن قلق الليلة الفائتة. وقررت أن أستجمع كل قواي وأهذّب قرون استشعاري وأمضي. فلدي أعمال سأقوم بها.
دخلتُ مكتبي لأرى عشرات الموظفين والموظّفات يهرعون إلى استقبالي ومواساتي.. حادثتهم.. شكرت لهفتهم.. دخلت غرفة المدير.
وقف ذاك المربع يحمل كرشه كامرأة متعبة في شهرها التاسع.
ـ أهلاً.. أهلاً بعودتك يا ابنتي.
ـ أهلاً بك أستاذ.. لكني ما جئتُ إلا لأذهب.. فأرجو توقيعك على إجازة سنوية. لو سمحت.
ـ سنة يا رولى.. لماذا؟! البارحة كانت شهراً.
ـ لأنني أريد أن أسافر.
ـ إلى أين؟!!
ـ أستاذ.. هذا شأني.
ـ رولى لماذا تحادثينني بهذا النفور؟! أنا قلق عليك يا ابنتي. الوحدة قاتلة والعمل يحتاج مهندّسة نشيطة مثلك. صَمَتُّ فجأة. نسيتُ أنني مهندسة تماماً، لكنّ فكرة السفر أخذت تزيد التماعاً في ذهني. كانت حجة للإجازة. لكنني الآن حقاً سأسافر وسأفاجئ فهداً بقدومي المباغت. وإذا بصوت المدير يعلو تدريجياً.
ـ آنسة رولى.. آنسة رولى.. أين كنتِ؟!
ـ عفواً أستاذ.. أرجوك أن توقع هنا!!
ـ لا بأس.. إذا كانت هذه رغبتك.
شكرته وانصرفت وأنا لا أرى أمامي سوى حقائب وتذاكر وطائرة تطير بي نحو غيمة تبكي، وطفلة تبكي، وأرجوحة مبللة تحت وطأة مطر لا يرحم، تذكّرت المنام الذي استيقظتُ عليه وهاهو الآن يلمع فكرة في ذهني أو قدراً في ذهن الله.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:04 pm | |
| الفصل السادس
اليوم موعد السفر. لم أخبر فؤاداً بذلك، ولن أخبره فتصرّفه وضع حوله ألف إشارة استفهام وتعجّب. وما علاقته بي..؟! أيكون زوجي أو حبيبي أو..؟! إنه لا يعنيني على الإطلاق. نعم سأخرس نداء لهفتي وأشواقي. وأسمع فقط نداء الخوف الكامن خلف واجبي.
سيفاجأ فهد عندما يراني أمامه والحمد لله أنني مازلت محتفظة برسائل أختي لآخذ العنوان منها.
وجوه كثيرة وجنسيّات غريبة تذهلني في المطار.. نداء المضيفة على الرحلة رقم (751) الذاهبة من بيروت إلى دبي جعلني أكثر تحفزاً ومراقبة. حملت حقيبة اليد بعد أن وزنت حقائبي. ممرات لا تنتهي وتفتيش يدهشني. أكلُّ هذا ونحن في رحلة من بلد عربي إلى آخر شقيق؟! كيف سيكون التفتيش لو أننا دخلنا بلاد (؟!) ومع ذلك أشعر بالراحة فذلك يدعو للشعور بالأمن بعد كل الخوف الذي أقلقني.
استقبلتني مضيفة غاية في اللطف. لتوصلني إلى مقعدٍ محجوز لبطاقتي. هدأتُ واسترخيتُ حتى شبع بطن الطائرة بوجبة مختلفة الأصناف فاستعدت للتحليق. ليس أروع من مشهد صعود الطائرة سوى مشهد هبوطها. في تلك اللحظة ينتابك شعور بالرهبة ممزوج مع لذّة المغامرة، وأنت تبتعد عن كرة كنت منذ قليل ذرّة على أرضها. وينتابك أيضاً شعور بالزّهوِ وأنت ترتقي كل عالٍ على سطح الأرض. تحاول ضبط أعصابك، وإيهام نفسك أنك لست خائفاً، فأنت تستحق هذه المكانة. وعند أي مطب هوائي تهبط إلى حد الالتصاق بنفسك لتعمل حواسك بآليّة أجهزتها. وأنا في تلك اللحظة اهتزّتْ الطائرة قليلاً بفعل ذاك المطب الهوائي فارتجفت كلّ أوصالي، وشددت مسند الكرسي بكلتا يدي ثم ضحكت من تقاطع الحقائق مع هذيان الأفكار. شعرتُ أنني جزء من جسد واحد مع ركّاب الطائرة. ذات النظرة في العيون وذات البسمة البلهاء المرسومة على الوجوه.
أغمضتُ عينيّ واسترخيت.. لو أنّ فؤاداًَ لم يهرب، لكنتُ طلبت منه السفر معي. أظن أن السفر ممتعٌ، فهو يحبّ تأمّل هذه المشاهد، يحب المغامرة أيضاً، ويبدو أن النوم غلبني بعد تلك الوجبة الرائعة والاسترخاء المترف. لم أصحُ إلا ويدُ المضيفة تربّت بلطف.. تدعوني لوضع حزام الأمان فنحن في حالة هبوط. شعرت بصداع خفيف وبشدٍ عصبي لكن البرّ أمان. نعم. اشتقت أن أدوس الأرض وأستمتع بنعمة الوقوف عليها. على أرض ثابتة. حقاً يا فؤاد. هناك نَعمٌ لا ندرك معناها إلا بفقدها، ويا هول عددها.
استلمت حقائبي. ركبتُ سيّارة أجرة وأسلمتُ العنوان لسائق التكسي ففوجئت أنه لا يعرف القراءة بلغتنا وأن له لغة خاصة مدموجة بين العربيّة المكسّرة والإنكليزيّة المبعثرة والهنديّة الممثلة بإيماءات وحركات ضحكت في سري، وتحادثنا طويلاً بالحركات ولكنه أوصلني إلى غايتي أخيراً وهذا هو المهم.
وقفت ألتقط أنفاسي قبل أن أقرع الجرس. لكنها تلاحقت فجأة. فُتح الباب بسرعة جنونية، وخرج رجل لم أشاهد ملامح وجهه إلا بعد أن صدمني وكاد أن يوقعني أرضاً. في ذات اللحظة نطقنا من هول المفاجأة صرخ رولى؟!.. صرخت فؤاد؟!
كان الشاهد الوحيد على هذا الموقف التاجر صاحب أبي وزوج أختي السابق. نظرت إلى الاثنين لم أنطقْ بكلمة واحدة ولم ينطقا. تركت للأرض متعة احتضاني أو حتى تكسير أضلاعي لست أدري. شعرت فجأة أن السماء تدور والأرض تدور وعصافير كثيرة تزقزق هازئة وتدور حول وجبة دسمة لأفكار يائسة تتبخر الآن من رأسي دفعة واحدة.
لست أدري كم من الوقت مضى وأنا على هذه الحالة. مغميٌّ عليّ. كنت ممدّدة على سرير في أحد الغرف. وكان سمعي أول حاسة صحتْ في جسدي، ثم جلدي وبصري. لم أحرّك ساكناً أصوات تمرّ بالقرب من الغرفة، وأصوات تأتي من الغرفة المقابلة لغرفتي أميزّ بوضوح الآن صوت فؤاد وفهد فيها تحرّكت ببطء واقتربت حدّ الالتصاق بالحقائق، بدأ فؤاد حديثه.
ـ يجب أن نخترع أي قصة تبدو معقولة.
ـ لا يمكن يا فؤاد. كانت تشك بي وتستثنيك من الشكوك. الآن نحن في دائرة الشك معاً وليس هذا ما تريده ميس.
ـ وليس هذا هدفنا أيضاً. نحن نوّد أن نحميها. بمجرد معرفتها الحقيقة ستزج أنفها بيننا ولن تتركنا.
ـ إنها بعناد ميس.
ـ بل أكثر يا فهد، بل أكثر. وأنا خائف عليها.
ـ سنوهمها بمصادفة التقائنا.
ـ لا تكن غبياً. أظنها جاءت لتعرف حقيقة الشريط والقلم، فكيف ستصدّق نكتة كهذه؟!
ـ إذا لابد من مصارحتها بالحقيقة.
ـ هل جننت؟!
ـ بل هي من سيجُن ما لم تعرفها.
ـ هل أتلفتَ الشريط وكسرت القلم كما أوصيتك؟!
ـ بالطبع. وهل أستطيع مخالفة الأوامر.
ـ إذاً خذ حمّالات المفاتيح أيضاً وارمها في أي مكان في البحر إنها جنيّة ولن تستسلم حتى تورّطنا وتورّط نفسها.
ـ سيدي لسنا بمجرمين، وستفهم ذلك حتى لو أن الضحايا أهلها.
ـ ليس فقط أهلها. كلنا ضحايا ـ وأنا لم أفرض على أيّ منهم اختيار ما اختار. لكن المشاعر أحياناً هي التي تحدد مصيرنا.
كنت أسمع بكثير من الدقة وأحلل الكلام علّني أصل إلى الحقيقة إلى أن قال فؤاد: حاولت يا فهد. حاولت كثيراً تعويضها عن حنان فقدته. حاولت إشعال حرائق داخلها ولم أفلح. إنها ببساطة مسيّرة وفق خطة تفكير آسرة. توقعتُ كل شيء إلا أن أرى تهورها يقودها إلى هنا!! إذاً كل تصرف معي كان مدروساً.. أكمل فهد:
ـ لكن تهورها فيه ذكاء فطري فالوارثة عامل خطير. كان والدها غاية في الدهاء. لكن الرجل غير الأنثى إنه قادر على كبح جماح مشاعره واحتمال البعاد عمن يحب. ردّ فؤاد.
لأن غايته كانت أسمى. أنت تدري يا فهد مقدار حبي لميس. آسف على صراحتي. ولكن من الاستحالة بمكان أن أكشف نفسي أمام أي مخلوق. لولا أنها غافلتني مرة وفتشتْ في ثيابي. طبعاً من باب الحب. وكم تفاجأتْ عندما وجدتْ تلك الميدالية وقارنتها بميدالية والدها. حفظتْ ذلك في ذاكرتها وكانت الفاجعة أنها رأت مثيلتها في بيتك.
ـ آه يا سيدي كم لاحقتني بالسؤال عن الميداليّة ـ حتى اضطررتُ أن أشرح لها أنها رمز منظّمتنا. تخيّل، تركت كل المجوهرات والأموال مقابل أن تواجهكَ بها. وعذرها بأخذها أنني أشترك معكَ بأول حرف.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:04 pm | |
| لو تدري يا سيدي كم أصرّتْ حتى رضختُ لرغبتها إنها حقاً رمز للبطولة.
لو كان والدها على قيد الحياة لما سمح لها القيام بتلك العملية ولا سمح لكَ بالموافقة عليها.
ـ القدر يلعب بورق مكشوف أحياناً.
ـ وماذا سنفعل الآن مع رولى؟! أخاف أن تكون نسخة طبق الأصل عن أختها.
ـ احتمال كبير ومع هذا لا يمكن أن نتركها للانهيار يا فهد..
ـ ولا يمكن أن نقول لها الحقيقة أيضاً.
ـ لست أدري إذا كانت تحتمل سماعها. إنها أرق من نسمة.
ـ لكن داخلها قلعة. فلو لم تكن كذلك لما احتملت أعاصير المحن التي مرت عليها.
ـ نعم يا فهد. فعلت معها فعل النار في الزجاج صهرتها وبعد أن أتت عليها رياح الموت جعلت الزجاج شفافاً إلى درجة عدم رؤيته.
ـ ألا تظن أن نقراً عليه سيجعله شظايا ناعمة.
ـ فما كان مني إلاّ أن خرجت من خلف الجدار وحضرت حضور الصاعقة عليهما لأقول أعيدا صهري وضعاني في القالب الذي تريدان. انتفضا بخوف وتقدّما منّي بلهفة قال فهد: رولى كيف حالك الآن. متى نهضتِ؟! الطبيب قال لن تستيقظي قبل الصباح.
إنني أقوى من أي وقتٍ مضى يا فهد، وليس أمامكما سوى تفصيل الحقيقة حدثاً حدثاً.
تقدم فهد ليقول: رولى هذا فؤاد، العقل المفكّر والمسؤول عن إصدار الأوامر في المنظّمة وما علينا إلا التنفيذ.
تدورت عيناي وتقدّمتُ منه لأقول: أشهد أنه لعقل حقاً. فلو لم يكن كذلك لما استطاع التخطيط بكل هذه الدقة. يدفع الناس لموت ويبقى هو سليماً معافى. يتّمني. وضيّع أختي ليعود هو إلى حضن زوجه وأطفاله.
رولى أرجوك، احسبي حساب كل حرفٍ تلفظينه.
كانت عينيّ تحدقان بفؤاد كمن لا يصدّقُ ما يسمع. ارتدى فؤاد كلّ اتزانه وكل صرامته. جلس بهدوء قاتل كعادته وطلب مني الجلوس وبعد أن أخذ نفساً عميقاً قال:
ـ هل أنت مستعدّة لسماع الحقيقة؟!
جلست متحفزّة أسمع بكل مساماتي طبعاً هات ما عندك.
ـ سأبدأ من النهاية.
ـ ابدأ من حيث شئت المهم هو الحقيقة.
ـ أولاً يا رولى: أنا لستُ متزوجاً وليس لدي أولاد، ولا يسمح لمثلي أن يتزوج، لأن حياتنا على كف عفريت. وإن سمحوا لنا فكيف أقبل أن أنجب طفلاً وأتركه لكل هذا الرعب الذي كنت أحيا فيه؟!
أنا الوحيد الذي نجا من عائلتي يا رولى. ماتت أمي في تلك الغارة على جنوب لبنان. ماتت مع أربعة أخوة لي. كلهم أعضاء مفصولة عن أجسادهم، لن أنسى جدران البيت والدماء تغسلها. لن أنسى أبداً.
ـ ثانياً: والدك كان مبعوثنا السريّ إلى مختلف دول العالم وبأسماء مختلفة وجوازات مختلفة أيضاً.
ـ ثالثاً: أنا أعرف ميس منذ كنت أتدرب معها على رياضة الكراتيه في ذاك المعهد. يومها عشقتها بصمت لكنّها كانت من درّبت قلبي على فنون الحياة والتعلّق بها حدّ الجنون.
رابعاً: من يخسر كل ما يملك يا رولى دفعة واحدة، أهله ـ بيته ـ عرضه ـ ماله. ويُرمى به على قارعة التشرد يمكن أن يفعل أي شيء لأنه في تلك اللحظة يملك حقداً وعقلاً يعادل قوى الشر جميعها. لأنه صاحب حق.
بدأت الحكاية بانضمامي إلى تلك المنظّمة التي تدافع عن حقوقنا في الحياة، وتدافع عن أرضنا ضد الغزاة. تسلّمت بعد وفاة قائدها مهمة المراسلات اللاسلكية مع عملائنا في الخارج. وعندما استقرت أحوال البلاد سمحنا لوالدك بالمجيء إلى بيروت تحت اسم (تاجر بنّ) وهو في الأصل لا يعرف من البن سوى مذاقه. وكذلك فهد سُمح له بالعودة إلى بلاده لكنّه فضّل العمل هنا في الإمارات لأنها أقرب إلى مزاجه. وعندما تزوج فهد من ميس كانت كارثة عليّ. وكانت أيضاً حالة استثنائية وكأنها مكافأة من والدك على عمله الدؤوب لحمايته هناك، خاصة بعد استقرار الأوضاع قليلاً، ولأنني لا أريد حرمان ميس من ممارسة حياتها الطبيعية. لكنّنا بوفاة والدك عرفنا أننا مراقبون وأن الثأر طال أحد عملائنا.
عرفتْ ميس عن طريق المصادفة البحتة علاقة فهد بنا. وعندما وجدتْ ذاك القلم وهو جهاز إرسال. ولأنها تعرف صوتي كانت مفاجأتها عظيمة. فهي من ردّت عليّ أثناء الإشارة. ووضعتْ فهداً في وضع لا يحسد عليه. ووضعتني في زاوية ضيقة جداً. لكنها أخذت قرارها بالانفصال عن فهد وقالت له: إن من تحبّه ومن تركته لأجله هو رئيسه فؤاد. وإنها الآن ارتاحت وليست مضطرة للحياة مع فهد بعد ذلك اليوم.
عادت إلى بيروت وطلبت مني الزواج. رفضتُ. وككل أنثى ظنّتْ أنني أتهرّب منّها لأمور ساذجة، مثل علاقتي بامرأة أخرى، أو ما شابه ذلك!! يوم دخلت ميس إلى مكتبي الوهمي، لم تسمع والحمد له حديثي مع منى. كنا نخطط لعملية هجومية على إحدى السفارات، وسرقة بعض الملفات الهامة منها. طبعاً أرسلت لها رسالة أعتذر عن علاقة غير صحيحة مع منى. لكن منى شعرتْ بظلمها لي وأحبتْ أن تطلعها على كل شيء. بعد أن أحسّت بمدى ألمي. ذهبتْ منى إليها، وأدلت بكامل دلوها، فما كان منها إلا أن أخذت جهاز إرسال منى، وقالت بكل حزم لست أفضل مني سأقوم بدلاً عنك بالمهمة. حان وقت انتقامي لوالديّ. رفضتُ. لكنها أتت مندفعة بعاطفتها أولاً، وبإحساسها بظلمي ثانياً، أتت لتعيد قولها وإصرارها، وتذكرني بأنها قد تدرّبت عند فهد بما يكفي. رجوتها بالعدول عما تودّ فعله. ولكن لا جدوى لأنها كانت ممتلئة حتّى الثمالة حقداً على قتلة والديها. وممتلئة حدَّ الثمالة عشقاً بي، ويائسة من حياتي معها. ولكن بعد أن هدأت قالت: لن تجد هذه المنظّمة عقلاً كعقلك يا فؤاد. لكن أمثالي قد يتكررون. كنت أنتظر عودتها بفارغ الصبر سليمة لأطمئن عليها. كان الأوان قد فات وأصيبت في ذلك الحادث، وتركت لي مهمة الحفاظ عليك، ومع هذا كان ضميري يؤنبني كلما رأيتك بهذا الحزن. فكتبت لك تلك الرسالة لتعرفي أن أختك بطلة ولتأخذي كامل حقوقك من البنوك طبعاً بعد اتفاقي مع فروعها في الدول الأخرى بصرف هذا المبلغ لكِ وأنا من وضع ذاك المحامي للعائلة أو بالأصح من نصح ميس به على فكرة اسمه ياسر الغريب.
كنت مذهولة لا أصدق. سألته وكم هو رصيدك الآن يا فؤاد؟! مؤكد أنه أضعاف رصيدي.
رصيدي في الحياة هو أنت يا رولى. صدقيني أنت كل رصيدي أحبّك رولى كما كنت أحبّ ميس ووالدك أحبّك حقاً.
كان فهد يبكي بصمت على فؤاد وعلى نفسه، وعليّ. أما أنا فقد نشفت دموعي تماماً. تحوّل قلبي إلى ورقة نشاف امتصت كل دموع إحساسي.
| |
|
| |
Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: رد: رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات الأربعاء يونيو 10, 2009 9:05 pm | |
| لماذا البكاء الآن طالما أن الوضع بهذا الرقي وبهذه الرفعة؟!
أنا فخورة بأبي وأمي وأختي ميس. وفخورة بكما أيضاً ومنذ الآن أنا معكم. جُنَ فؤاد فجأة وقال: لا يا رولى أنت في قلبنا، ولا يمكن أن تكوني معنا كمنظّمة أبداً. ميس كانت أقدرُ منك جسداً، ومع هذا خسرناها. أنت ناعمة جداً وهذا العمل يتطلب جهداً مضاعفاً وسرعة في الحركة وتدريباً طويلاً.
ـ أنا مستعدة لأي شيء فأنا في إجازة سنويّة.
ـ لا يمكنني قبول طلبك مهما كان، فلن أخسر كلّ من أحبّ يكفي ميس لن أضيّعك مثلما ضاعت. لو أنها نفّذت كل إرشاداتي لعادت سليمة لكنّ نقص التدريب واللياقة جعل منها ضحية ولذلك فأنا أرفض وبكل إصرار انتسابك إلينا كمنظّمة. لكننا المسؤولون عنك شئت أم أبيت كأشخاص وكمنظّمة. هذا صهركم السّابق وكم كنت أتمنى أن أكون صهر عائلة مثلكم ومع هذا يكفيني فخراً أنني عرفتكم!!
ـ واعذريني. سأغادر اليوم إلى بيروت هناك أعمال كثيرة في انتظاري.
ـ خذني معك. سأسافر اليوم أنا أيضاً.
ـ لا يمكن رولى ابقي لمدة أطول كي تستريحي وسأنتظرك هناك.
انحنى، قبّل يدي بكل احترام ثم مضى مسرعاً. ودّعته وودّعه فهد وعاد، وقبل أن يجلس فاجأته بسؤالي.
ـ هيْ.. فهد، أرجو أن تجيبني بكل أمانة.
ـ عن أي شيء؟!!
ـ ماذا كان يوجد في الشريط؟!
ـ هل ستصدِّقينني لو قلت أنني حقاً لا أعرف.
ـ معقول؟!
نعم رولى. فالشريط كان مختوماً وطلب مني أن أحضره، ولو سمعته سيعرف فؤاد بذلك ويحرمني من متابعة العمل معه لأنني لست أهلاً للأمانة. قد يكون معلومات أخذتها ميس عن أحدهم، قد تكون رسالة لك أو لفؤاد، قد يكون أي شيء آخر. ولكن من المؤكد طبعاً أنه مهم. ومع هذا لنقل أنه شريط الأمل حقاً. فلماذا لا يبقى كذلك. دعينا الآن من كل هذه الأمور واستريحي يكفيك توتراً وأهلاً بك في منزل أخيكِ.
استرخيت في السري. تحوّل تفكيري فجأة نحو اتجاه آخر. إذاً لست وحدي قيد الخوف. كلنا نحيا قيد الخوف. لولا وجود الوحوش حولنا لما تحوّلنا إلى أجساد مفخخة في وجههم. لماذا لم أفطن إلى ضرورة العمل والوقوف معهم في خط المواجهة؟! لماذا أخذت تلك الإجازة الطويلة سنة وأنا هكذا مثل أي جدار أنتظر المطر ليغسل غباري؟!.
فجأة قررتُ الرحيل. وقفت واتجهت إلى الخزانة، ملأتُ ثيابي، لقمة لقمة في جوف حقيبة أتخمتْ حتى الثمالة. نزلتُ السّلّم واتجهتُ إلى فهد مباشرة كان ينظر إليّ بكل استغراب ويقول:
رولى إلى أين؟!
ـ إلى حيث يجب أن أكون.
ـ لن أدعك تذهبين اليوم.
ـ فهد.. أشكرك من كل قلبي. أشعر أن فؤادي سينفطر لو لم أعد اليوم إلى بيروت.
حسنٌ. تمهّلي قليلاً سأوصلك إلى المطار. وطبعاً لولا فهد لما كنت سأستطيع العودة كما قررت. سهّل لي الكثير من الأعمال من حجز وحمولة وأشياء أخرى. قبّلته على وجنتيه. ففي هذه اللحظة فقط شعرت أنه أخي وزوج أختي السابق.
وكم أستغرب هذه المرة بأنني لم أشعر بالخوف عند صعود الطائرة أو عند الهبوط، بل كنت أشعر بالخوف لو لم أصل.
ركبت سيارة أجرة وطلبتُ من السائق التّوجّه إلى منزلي وبعد أن وصل نصف الطريق طلبت منه التوجّه إلى عنوان فؤاد في المكتب الذي كانت تزوره فيه ميس. دفعت الحساب ونزلت مع حقيبتي وما إن وضعت قدمي على الرصيف حتى ترامى إلى سمعي أغنية عذبة بعذوبة الصوت المخملي الذي يغنيها وهي تنطق (الأمل) نظرتُ حولي فوجدت الشوارع والأطفال والمحلات والنساء وكل شيء في هذا البلد بعذوبة ذات الأغنية.
تابعت السير حتى وصلت المكتب. كان يجلس خلف طاولته وكانت الساعة حوالي العاشرة صباحاً شعر بقدوم أحدهم فرفع رأسه الثقيل ككرتنا الأرضية، ثم وقف مذهولاً. وتقدم نحوي. أمسك كلتا يديّ. لم ينطق بحرف واحد. وأخذ يدور بي ببطء. أجلسني على كرسي وجلس أمامي على آخر ـ تلاقت النظرات واختلط بها العتاب مع العشق. دعيني أوصلك إلى المنزل. طاوعته. حمل حقيبتي وزجّها في مؤخرة سيارته، ولم ينطق بحرف. ما كان في تلك اللحظة محتاجاً للكلام. كلّ ما فيه كان يحكي، وكلّ ما في كان يستمع، ومع هذا كنا في منتهى الصراع. ثم صعدنا المنزل فتحت باب الشقّة وقلت تفضّل ـ استدار لينزل. ناديته: فؤاد. ادخل ـ أريد أن نتكلّم.
لم ينطق أيضاً. نظر إليّ بعين تترقرق فيها أصدق دمعة في العالم، ونزل السلّم ثم التفت نحوي ليقول: رولى
ـ نعم.
ـ أحبّك!!
ـ وأنا أحبّك فؤاد.
ثم ركض نازلاً الدرج بأسرع من الخيال.
مضى وقلبي خلفه ـ دخلت المنزل وأوّل ما صنعته هو أنني استمعت إلى الرسائل الصوتية على الهاتف.
رسالة من لؤي ليطمئنّ عليّ.
رسالة من عابث يبحث عن فريسة وحيدة.
رسالة من ذاك الشرطي الظريف تقول رسالته: آنسة رولى نحن حقاً في غاية الأسف، ونعتذر عن عدم إمكانية الوصول إلى تلك الفاتنة، اتصلتُ بك عدة مرات والحقيقة لا توجد لدينا سوى احتمالات لا نستطيع إثباتها، ولقد أقفلنا المحضر على أن غيابها مجهول، فنرجو مرة أخرى المعذرة.
ضحكت كثيراً وأنا أخلع ملابسي. حقاً إنه لشيء مؤسف أن تكون بلادنا بهذه الفوضى. كم نحتاج إلى عقول وأجهزة للوصول إلى الحقائق. متى يتصلب قالبنا الهلامي هذا أيكون إنشاء تلك المنظمّة سبُبه كل هذا الاستهتار؟! وكم نحتاج أيضاً إلى مثيلتها داخلياً. فكم من امرأة فقدت أولادها، وكم من المآسي خلف غياب أبنائنا؟!! ولكن لم أعرف حتى الآن ما اسم هذه المنظّمة الحقيقي وما عدد أفرادها وأين يقع باقي فروعها.. لابدّ سأعرف لأنني لا أهدأ عن البحث ومع هذا سأشكر صديقي، على كل جهد بذله من أجل هذه النتيجة القيّمة، ولن أخبره بما توصّلت إليه. حقاً لا يستحق أن يعرف ما عرفت. لأنني دفعت ثمن معرفتي كل هذا الألم والخوف والضياع.
في صباح اليوم التالي شكرت طبعاً الشرطي وذهبت إلى عملي لأقطع تلك الإجازة، وبعد عدة أيام سحبت رصيدي كاملاً من البنوك لأقوم بمشاريع تعود على كل متشرد بالفائدة والراحة، فهذه الأموال من حق الأرض التي فدتها ميس.
أخذت طريقاً جديداً في مسيرة حياتي وكان العمل يأخذني لدرجة أنني أنسى فيها ذاتي. لكن أشياء ثلاثة لا أنساها فؤاد ذلك الحب المستحيل والرمز الأكبر في حياتي، والذي هو عنوان الصمود في صحوتي وعنوان الورود فوق وسادتي.
وجرعة الأخبار اليوميّة التي تشحنُ عزيمتي على الحركة الدائمة والعمل المستمر في سبيل أطفال مازالوا يحيون قيد الخوف.
وأغنية صارتْ تمشي في عروقي كلما تابعتُ السير في عروق البلاد، وكلما زرعتُ ابتسامة على خدِّ طفل وطبعتُ قبلة على وجه الأرض.
فؤاد. دع نبضك فيّ حتى لو رحلت كي أستمر في طريق الأمل وأتابع لأقطع حاجز الخوف الذي مازلت أحاول أن أتخطاه.
فهل تراني نجحت أيها القلم عندما التجأت إليك؟!!
وهل تراها وصلت إليك مخاوفي؟!!
ومع هذا فكل ما أرجوه سيدي هو أن تصلك رسالتي هذه وأنت على قيد ال ح ي ا ة!!
ـ تمت ـ
ميسون جنيات في 29/10/2003
| |
|
| |
| رواية للكاتبة / ميسون جنّيّات | |
|