تمثل رواية "فتاة الترومبون" الحلقة الثانية بعد رواية "عرس الشاعر" في قصة مهاجرين من كرواتيا أثناء الحرب العالمية الثانية يصلون إلى تشيلي، وتبدأ أحداث هذه الرواية مكملة الملحمة عندما يصل المهاجر الكرواتي إستيبان كوبيتا إلى تشيلي عام 1944، ثم يتلقى رسالة يحملها عازف ترومبون يحمل أيضا طفلة صغيرة عمرها سنتان، وتؤكد الرسالة أن الطفلة مجدلينا هي حفيدته.
- الكتاب: فتاة الترومبون
- المؤلف: أنطونيو سكارميتا
- المترجم: صالح علماني
- الصفحات: 286
- الناشر: دار المدى، دمشق
- الطبعة الأولى/2007
والمؤلف هو الروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا الذي يعد من أهم الروائيين في أميركا اللاتينية، والذي ترجمت رواياته إلى معظم لغات العالم، وقد هاجر عام 1975 من تشيلي إلى ألمانيا بعد انقلاب بينوتشيه على الرئيس اليساري المنتخب أليندي، ثم عاد إلى بلده عام 1989، وعين فيما بعد سفيرا لتشيلي في برلين.
ليست الرواية سردا متتابعا ومنطقيا للأحداث والتطورات، ولكنها تعرض على نحو جميل التطورات الاجتماعية والسياسية في تشيلي في الخمسينيات والستينيات، وربما يقتبس المؤلف من تجربته الفكرية إذ هو من مواليد عام 1940 كالفتاة مجدلينا التي تأتي الرواية على لسانها.
وكانت له تجربة سياسية دفعته إلى الهجرة من تشيلي بعد انقلاب بينوتشيه، ولم يعد إلا بعد انتهاء حكمه، ولكن الرواية في الصور والأفكار الجميلة والمدهشة، وبعنايتها بالحياة اليومية للناس العاديين تجرب أفقا جديدا للعمل الروائي بعيدا عن سير الأبطال والأحداث الكبرى.
تعرف الطفلة عندما تكبر أن جدتها آليا إيمار كوبيتا تعرضت للاغتصاب على يد النازيين، ولكن مجدلينا التي تنشأ في تشيلي لم تعد تهتم بجذورها وتبدأ بالتصالح مع واقعها وبخاصة بعدما أفشل الجد محاولتها للهرب على إحدى السفن التي تمخر المحيط باتجاه أوروبا.
تبدأ بالشعور أنها تشيلية تتعلم في مدارس تشيلي، وتنشئ صداقات واسعة، وتندمج في حياة مجتمعها المحيط بها، رغم الاختلاف في الشكل بينها وبين صديقاتها، إذ هي شقراء وهن سمر، "فقد كان أقصى ما أتطلع إليه هو أن أكون مثلهن. فكنت أريد في المقام الأول، أن تتحول بشرتي إلى السمرة" كبشرة أهالي تلك البلاد، وبعد ذلك "كانت رغبتي الثانية هي امتلاك أب وأم. أو أن أعرف اسميهما على الأقل".
ولكن الفتاة لن تعرف قطعا اسميهما، ولن يتسنى لها التأكد من أن هذا الشيخ الوقور الذي احتضن كآبتها، هو جدها في الواقع أم لا.
تشكل علاقة الفتاة مع جدها جزءا جميلا من الرواية ومشاهدها والغموض والتطور غير التقليدي في الأحداث وفي الحياة، ولكنه يتوفى تاركا الفتاة في رعاية صديقته جوفانا التي تتعرف على أستاذ الرياضيات في المدرسة التي تدرس فيها مجدلينا.
وتنشأ بينهما صداقة ويعيشان معا، ويقنعها بالانضمام إلى الجماعات اليسارية المؤيدة لأليندي المرشح في الانتخابات الرئاسية لتشيلي عام 1958 ولكنه يفشل، ثم يتقدم مرة أخرى عام 1964 ويفشل أيضا، ثم ينجح في المرة الثالثة عام 1970.
مجدلينا التي تقرر اتخاذ اسم آخر لها (آليا إيمار كوبيتا) وهو اسم جدتها تعيش أحلام الخمسينيات والستينيات في تشيلي وأميركا اللاتينية، أفلام السينما التي كانت تتابعها بشغف وهوس، المدرعة بوتمكين، وملكة أفريقيا، وكازابلانكا، ونزهة، وكينغ كونغ، فريتز لانغ، وتحتفظ في مخيلتها بصور الأبطال كاترين هيبورن، همفري بوغارت...
"
كنت أريد في المقام الأول أن تتحول بشرتي إلى السمرة كبشرة أهالي تلك البلاد، وبعد ذلك كانت رغبتي الثانية هي امتلاك أب وأم، أو أن أعرف اسميهما على الأقل
"وتتذكر زئير أسد مترو غولدن، في إشارة إلى شركة الإنتاج السينمائية المعروفة، وتعبر عن أمنيتها الغالية "لو كنت مليونيرة لاشتريت عتمة سينما القصر"، والأغاني والروايات والمسرحيات والسمفونيات والأعمال الشهيرة الكلاسيكية والحديثة لشكسبير وفاوست وبتهوفن وموزارت.
وتتعرف بعد وفاة جدها على بعض الأخبار والمعلومات من أصدقائه، كالصحفي روكي بافلوفيتش الذي يصف الجد إستيبان كوبيتا بأنه يحمل قدره مكتوبا في نظرته، منطويا في الظلمة، وكان تعلقه بأمل واهم وإدمانه على الشراب والتبغ سببا في شيخوخة مبكرة أدت به إلى الوفاة، "كان مخلوقا على بركة الله، عصفورا دوريا جريحا، يقدم إليه الموت شريحة يومية، مقطعة في رقائق نحيلة جدا".
ويروي بافلوفيتش للفتاة آليا إيمار كوبيتا قصة هروبها وهي صغيرة في سفينة عابرة إلى أوروبا، وكيف استيقظ إستيبان كوبيتا من شروده الدائم، فحاول تهدئته "فالأطفال مثل الكلاب، يعرفون دوما كيف يرجعون إلى بيوتهم"، ويتصلان بالشرطة للبحث عن الطفلة، لكن لم يعرف أحد أين ذهبت.
فيطلب الجد سيارة أجرة ويذهب إلى الميناء، وعندما يرى شبح عابرة المحيطات يخلع سترته وقميصه وحذاءه ويمضي في البحر صارخا: الطفلة هناك!
- وكيف عرفت؟
- وما أدراني، عرفت وكفى!
"ولم ينس المتحفظ الوقور في لحظة الطوارئ تلك إحساسه بالحياء، فبقي لابسا بنطاله، وألقى بنفسه في البحر، وبدأ السباحة بضربات جبارة من ذراعيه متغلبا على الأمواج الضخمة الهائجة"، وحاول الصحفي أن يوقف السفينة بإشارة من منديله، ولكن السياح ردوا عليه بمناديلهم معتقدين أنه يودعهم ويحييهم، فصرخ بأعلى صوته: هناك رجل في الماء، ولكن صوته ضاع في وسط قعقعة المرساة وزعيق النوارس وصخب فرقة الموسيقى.
كان ذلك يوم أحد اختفت فيه قوارب الصيادين وغيرهم بسبب الموج والبحر الهائج، ولكن إستيبان كأنما نمت له عضلات جبارة وتلاشت سنوات عمره غارقة في الطحالب، وضج في عروقه جنون شبابي من ملح وشمس، كأنه تحول إلى حربة من حراب صيادي الحيتان تندفع لتنغرس في السفينة العملاقة، وأما رئتاه اللتان أعلن الأطباء انتهاء صلاحيتهما فكانتا تنتفخان بقدرة ملاك هذياني".
ولسبب ما تظل قصة آليا وعائلتها غامضة لم تفهم منها في القصص المتداولة في تشيلي "بلغة هيروغليفية" سوى اسم الصحفي بافلوفيتش، ولكنها تستخلص منها أن أمها ولدت نتيجة اغتصاب جماعي وقع لجدتها على يد النازيين، وأن أمها أقامت علاقة مع أحد المناهضين للنازية، ويبدو أن أمها قتلت أو اختفت على أية حال في الحرب العالمية الثانية.
ويأتي صديق آخر لجدها يسأل عن بيتها ليعلن أن أخا جدها قد أنقذه من الموت على يد النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية، ويطلعها على قصاصة صحفية تروي واقعة جرت في جزيرة جيما في البحر الأدرياتيكي مقابل سواحل كرواتيا، جزيرة أجدادها، وأنه في ليلة زفاف جدتها آليا إيمار كوبيتا إلى جدها إستيبان كوبيتا جرت معركة وأن أخا جدها رينو كوبيتا قتل في تلك المعركة.
ولكن يبدو أنه لم يقتل بل هاجر في سفينة متجهة إلى القارة الأميركية، وقفز من السفينة مقابل نيويورك ومضى إلى الشاطئ سباحة، ولكن لم يعثر له على أثر.
وتذكر قصة صحفية أخرى أنه قتل قبل هربه جنديا نمساويا في السفينة، ولكن الصديق القادم وولف ميخائيل بريتسلك يؤكد أنه الجندي النمساوي المفترض أن يقتله رينو، ولكنه في الحقيقة لم يقتله.