سليم بركات في ترجمة البازلت...
ملحمة غامضة لأبطال غامضين
بيروت - قزحيا ساسين
صحيح أنّ الوضوح الذي يتّسع للمبتذل والسهولة الممكنة والمعاد برتابة هو إساءة إلى النصّ الشعريّ، غير أن الإسراف في الغموض والتلغيز إلى حدّ الإغلاق لا يقلان إساءة عن الوضوح الذي يجهد ليقول شيئًا فلا يقوله.
ربّما خير الأمور هندسة مساحات الضوء والظلّ على امتداد القصيدة، فما يطلبه صاحب النصّ من القارئ من حسن تلقٍّ يتطلّب تنازلاً من صاحب النصّ عن ضبابيّة حالته الشعريّة وجملته وفكرته، وإلا سوف تقع الغربة بين المرسِل والمتلقّي الذي يتعثّر عليه القبض على زبد المعنى بسبب الطلسمة التي تمنع المعنى من التدفّق في قنوات مفتوحة على بعضها ولو بنسب قليلة. ومن المؤسف القول إن الشعراء يكتبون لأنفسهم فحسب، فهم يكتبون استجابة لمخاض لذيذ يريحهم أولاً، لكنّهم يتوجّهون إلى جمهور مفترض وهو حقًّا واقع مادّي محسوس وإلا لما كلّفوا أنفسهم عناء النشر والانتساب إلى نادي حملة الأقلام.
«ترجمة البازلت» لسليم بركات إصدار شعريّ جديد، وهو ينتمي إلى الشّعر، على الأقلّ من حيث المعلومات التي تعطيها الطباعة في الصفحة الثالثة، ففي أسفل الصفحة وردت كلمة «شعر» بخطّ لافت. أقول هذا، لأنّ الإخراج الطباعي حمّال أوجه أيضًا، فمعظم صفحات الكتاب ذات سطور ممتلئة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومن الأعلى إلى الأسفل، ما يوحي نظرًا أنّ الكتاب كتاب نثر، لكن إيراد بعض الجمل كلمة تحت الأخرى، عامودياً، وترك مساحات بيض لافتة في بعض الصفحات، يوحيان بأنّ ما يُقرأ شعر حديث وذلك بحسب ما درج عليه أهل هذا النوع من الكتابة إخراجًا طباعيًّا. ذلك كلّه نتيجة لعين ترى ولا تقرأ، أمّا للقراءة فشأن آخر، ولا بدّ من خوضه وإن يكن باقتصاد لا يكفي لمعالجة الأمور من زواياها المختلفة.
كأنّ سليم بركات وهو يترجم البازلت يحاول تصوير ملحمة وجوديّة ذات ألم إنسانيّ عميق، والضمير «هم» عالق في رأس قلمه على امتداد نصّه الطويل الذي امتدّ على مئة وأربع صفحات مع غياب تامّ للعناوين التي يمكن أن تكون شبه مفاتيح نصّية للقارئ. وحضر الضميران «أنا» و «أنتم» أيضًا بعد سرد كثيف مثقل بالرموز البعيدة والمجاز المسرف في الغموض باستثناء جمل تُفهم مستقلّة ويصعب ربطها بشكل مفهوم في الما قبل والما بعد، كما في قول بركات: «مجازر أكثر اتساعًا من قلب النائم... المدائح التي تطحن البقاء في أجران الفردوس... بكوا طويلاً من عظة الورد... الحافظ أحكام البطولة مدوّنة على قشر البندق...».
وما يزيد الطين بلّة لغة اختارها بركات صعبة، لا تخلو من التقعير فهي سبب إضافي يواجه المتلقّي بمزيد من صعوبة الفهم، إذ يحتاج القارئ إلى قاموس عربي ـ عربي، وآخر للاستهداء إلى دلالات رمزيّة غير عربيّة، وعليه بعد ذلك معالجة الشبكة المجازيّة الطاعنة في الضبابيّة، محاولاً الوصول إلى فهم تقريبيّ. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل بعد هذه الدّورة الشّاقة ما يبقى لجعل المتلقّي ينفعل ويتذوّق ويرتاح ويرضى؟ وربّ جواب حاضر عند صاحب المنتج هو أن كتابته موجّهة إلى دائرة نخبويّة متواضعة تستطيع ما لا يستطيعه الآخرون الآتون إلى قراءة النصّ الفنيّ غير مسلّحين بلغة «لسان العرب» وإن عصفت في صدورهم ألف ريح وريح إلى القصيدة...
كتب بركات عن ناس اصطادتهم شبكة الحياة مذ ولدوا، و»هم المعتدلون كهتكٍ» فكيف بإمكناهم «أن يرمّموا الرّيح؟»، و»هم هناك في المسالخ الفَلَك يستطلعون حياة مؤجّلة إلى الغد»، وهذا الغد لا يأتي، لذلك يبقون أسرى أراجيح التسويف والرجاء المرّ. والقدر قاتلهم، وهم يرونه خبزًا: «أنهوا، قبل قليل حساءً من أعشاش الخطاف، غمّسوا فيه رقائق القَدَر محمّصة». إذًا، ناس سليم بركات ليسوا قلّة، وقد تتّسع ساحتهم لتصير ساحة الإنسان في الدنيا كلّها. الإنسان المقهور مرّتين: مرّة لأنّه إنسان وأخرى لأن إنسانًا أقلّ منه قهرًا وقَهَرَه. أصحاب الضمير «هم» في «ترجمة البازلت» غرباء أيضًا في تفكيرهم. الألم جعلهم هكذا، والمأساة زادتهم غرابة: «متساهلون في مقايضاتهم الفراديس بنسيج من حرير الرّعد، وواثقون، لا أعداء لهم بقدر ما لا يطيق الأصدقاء أن يظلّوا أصدقاء إلى ما لا يطاق». لكن مشكلة بركات هي مع الأصل، ومع الجوهر، كما ورد في مستهلّ الكتابة «هكذا، ذاته، الإرثُ ـ كلبُ الجوهر...»
مواجهة
يمعن الكاتب في مواجهة المقدّس والمحرّم فيرى كلاب الثلج مدلّلة كنبؤات ويد الله مرتعشة... وإلى البدايات يعود بين باقة كلام وأخرى: «نساءٌ سود- خلجانٌ من الظلال المعتصرة يواقيتَ سوداء كمسارَرَات الهيولى». نصّ بركات ترهقه مفردات البدايات وكأنّه يحتاج إلى مادّة غير الشّعر ليعبّر، ربّما تكون أقرب إلى لغة الفلسفة التي تقارب مواضيعها بشعريّة واسعة. تعِبٌ هو النصّ الشعريّ في «ترجمة البازلت». تعوزه فسحات الشعر الرّحبة التي تمنع العقل من مصادرة المساحة المخصّصة للقلب. كثيرًا ما يسيء العقل إلى النصّ الشعريّ. لا شكّ في أنّ بركات يتوقّف في أكثر من موضع بالصورة الشعريّة الجميلة: «لا موتى يقشّرون الهواء عن البندقة الماكرة... نارهم متبجّحة ورمادهم معشوه»... غير أنّه يضغط على صدر النصّ بيد العقل الثقيلة فتموت كلمات وتُحتضر كلمات، وتنجو كلمات... كيف يحتمل نصّ شعري مثل هذا الكلام: «رُماة عوالم في خنادق الهيولى... فلا تخذلوهم في الهزيع الثاني من قَدَر الإنسان، لأنّهم مكّنوا المعلوم الأوفى أن يصير قِدم القدم...؟ يستطيع قارئ «ترجمة البازلت» أن يبدأ القراءة من الصفحة التي يشاء، فالمعاني الأساسيّة تدور على نفسها بلا تسلسل واضح، وللكتاب مناخ واحد مشدود على بعضه بتماسك الغموض ليس إلا، فمن المتعذّر على القارئ تبويب الكتاب في ذهنه بعد قراءته مهما كانت متأنّية، وربّما لهذا السبب أبقى المؤلّف منتجه يتيم العناوين.
في بعض محطّات الـ»أنا»، تظهر أحيانًا ذات بركات منكشفة واضحة، فهو يخاطب هؤلاء، داعيًا إيّاهم آباء: «يا آبائي ـ آباء بطولة ترثها الكآبة... فلكم دعاء القوس، وثبات الظلّ السّفاح، وللخسارة بين أيديكم إسراف الفوز في أناقته»... إلى هذا الحدّ يتّحد الكاتب مع أهل ملحمته ويستمرّ متبنّياً قضيتهم إلى آخر الكتابة، مدافعًا عن آلامهم، مطوّبًا مآسيهم ولأجلهم يقول مختتمًا: «لقد تكبّدتُ عزل الأرض عن قلبي كي أُحضر الله مذعورًا إلى جرح الإنسان، وتكبّدت عزل قلبي عن السماء كي أعبر بالله مذعورًا إلى المشيئة».