فيلسوف الأصفاد الروحيّة
بيروت - رواد خيرالله
في الذكرى الـ2555 لولادة حكيم الصين الأكبر كونفوشيوس، شهدت الصين عام 2005 انعقاد ندوة عالمية كانت الأولى من نوعها في البلاد منذ فترة طويلة حول فكر كونفوشيوس وتعاليمه، وشارك فيها عدد ضخم من المتخصصين بأعمال الفيلسوف من مختلف أنحاء العالم.
وردت حكم كونفوشيوس بقوة في فاعليات أولمبياد بكين. وقبل أيام، قرأنا عنه في أكثر من صحيفة عربية، وطرحت أسئلة كثيرة حوله، أبرزها: ماذا تبقى من الكونفوشيوسية؟ لماذا كونفوشيوس مهمّ الآن؟ في وقت بدا أن الصين تعيد الاعتبار إلى هذا الفيلسوف، اذ افتتحت أكثر من معهد للغة باسمه في العالم العربي، في الأردن وبيروت تحديداً.
السؤال، هل كونفوشيوس مهم الى هذا الحد؟ ما الذي يجعل بلاد التنين تعود الى تعاليم الفيلسوف القديم بعد ثورة الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ وبعد الحديث عن شبح الصين في الاقتصاد العالمي؟ يقول الباحث دانييل بيل مؤلف «الكونفوشيوسية الجديدة في الصين»: «إذا كانت الكونفوشيوسية هي الفكر الأكثر تجذراً في الصين منذ القديم وحتى اليوم، فإنها تشهد أخيراً نوعاً من «النهوض» الذي تعبّر عنه صفة «الجديدة»». وللتدليل على عودة الكونفوشيوسية «المتجددة» إلى الصين، يشير بيل إلى لجوء السلطات الشيوعية نفسها إلى إعادة طبع «تعاليم كونفوشيوس وقانونه» بملايين النسخ وتوزيعها على نطاق واسع. كذلك يشير إلى بروز ظاهرة جديدة تمثلت في افتتاح عدد كبير من «الأكاديميات الكونفوشيوسية» في مختلف أنحاء البلاد مع تخصيص آلاف المنح الدراسية واستحداث مناصب تدريسية عدة في هذا المجال.
والنافل أن كونفوشيوش كان قد أصبح أحد الأهداف الأساسية لما سُمي بـ{الثورة الثقافية» في عهد ماو تسي تونغ، التي كان «محو تراث كونفوشيوس» إحدى أبرز مهماتها، على اعتبار أنه يمثّل فكر «الثورة المضادة». الأرجح أن اعتماد الشيوعيين على الفيلسوف القديم أشبه بعودة الفلكلور الثقافي الذي نجده في معظم بلدان العالم، حتى الشيوعية منها التي كانت تمزج بين الفكر الماركسي والتراث المحلي، سواء مصر أو السودان ولبنان وكوبا واليمن. ربما ابتعدت الصين عن تراث كونفوشيوس بسبب طغيان تعاليم ماو وصلابتها، فالزعيم الصيني لجأ بحسب ما نقرأ في بعض الروايات الصينية الى تمدير التقاليد الصينية القديمة كافة حتى مائدة الطعام. من يقرأ رواية «بجعات برية» ليونغ تشانغ يعرف الصورة كما هي تماماً.
على رغم القمع «الماوي» والثورة الثقافية التي حصدت الآف القتلى، بقي تراث كونفوشيوس موضع احترام وتبجيل، وربما «التقديس» في هونغ كونغ واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان (الصين الوطنية سابقاً)، أي في مختلف البلدان التي تحضر فيها الكونفوشيوسيّة بقوة منذ القدم.
ويؤكد بيل في تحليلاته حول الدور المهم الذي أدّاه كتاب صغير صدر في الصين قبل سنوات لأستاذة جامعية صينية. إذ «يبسّط» الكتاب أفكار «الحكيم» ويشرحها بغية إيصالها إلى أوسع الشرائح. وبيعت منه عشرات الملايين من النسخ.
هل يمثّل كونفوشيوس الحيقيقة، أم أنه طريقة للاستغلال السياسي والاجتماعي والثقافي؟ يبين بيل أنه منذ أكثر من ألفي عام ظلت الحكومات الصينية تستغل أبرز التفسيرات السياسية للكونفوشيوسية لصالح أغراضها الخاصة. فقد ارتبطت الكونفوشيوسية بالتقيّد بالقانون لتبرير ممارسات طاعة الحاكم العمياء، وإخضاع النساء، وفرض العقوبات القاسية.
الكونفوشيوسية «الرسمية» التي يتم إحياؤها اليوم قد تكون أقل خطورة، إذ أنها تؤكد على الانسجام الاجتماعي، وقصد الحلول السلمية للنزاعات، إلا أنها تظل تشكل توجهاً أخلاقياً محافظاً. لكن ثمة تفسير آخر لهذه الفلسفة يؤكد على التزام أهل الفكر بانتقاد السياسات الرديئة، ويُلزم الحكومات ببذل ما يلزم من جهد لتوفير الرخاء المادي للناس ودعم المهمشين، ودعوة الحكومات إلى تبني وجهة نظر أقرب إلى العقليّة الدوليّة والاعتماد على القوة الأخلاقية، بدلاً من القوة العسكرية في ملاحقة الأهداف السياسية.
كذلك تؤكد هذه الفلسفة على المساواة في فرص التعليم، والاعتماد على الجدارة والكفاءة في اختيار أعضاء الحكومة، فضلاً عن توزيع المناصب القيادية على أكثر أفراد المجتمع فضيلة... مثل هذه القيم ترجع أصولها إلى «الكونفوشيوسية الأصلية» لكونفوشيوس، ومينسوس، وزونزي، والتي وجدت قبل أن تتأسس الكونفوشيوسية باعتبارها عقيدة دولة.
من القلب
حول الكونفوشوسية أيضاً صدر «كونفوشيوس من القلب» من تأليف يون دان التي تعتبر «أن مجموعة تعاليم الحياة لسياسي من الأقاليم النائية، متواضع النسب، والتي تعود إلى العام 551 قبل الميلاد، قد تبدو دليلاً غير مرجح على نحو ما لدوّامات العصر والتطلّعات المتضادة. لكنها تعلّق في المقابل أن أفكار كونفوشيوس تقدّم عرضاً كـ «نافذة قديمة لعالم معاصر»: «إنه لمن المحتمل ترجمة أفكاره ومطالعتها من زوايا مختلفة في القرن الواحد والعشرين وبما يتلاءم مع العولمة. وأنا أدوّن ذلك لبشر معاصرين، وليس لقدماء أو أكاديميين».
تضيف دان: «فهم كثر كونفوشيوس بطريقة خاطئة لزمن طويل في موطنه الأصلي. وكان لا بدّ من إنْقاذه من محاولة الإلغاء التي شنتها ضده الثورة الثقافية الشيوعية في السبعينات. حاول بَعْض زعماء الصين حظر تعاليم هذا الفيلسوف تماماً. وكان هذا عملاً أخرقاً. أعتقد أن فلاسفتِنا الكبار نائمون. وما أقوم به الآن هو محاولة إيقاظهم قليلاً، ليس لأجل الشعب الصيني فحسب، بل لمصلحة الأوروبيين أيضاً. ولأن الصين اليوم بلد مادي تماماً، فنحن نجاهد لإيجاد توازن بين عالمي المادة والروح. فنحن كبشر بحاجة إلى الجانبين».
من جهة أخرى، يوضح الباحث الصيني شي سي تونغ: «كونفوشيوس كان زعيم حكماء الصين القداماء، وكان حكيماً وفيلسوفاً، سياسياً وأخلاقيّاً. كان نفوذ مدرسته سائداً في الصين منذ أكثر من 2500 سنة. فمذهبه يقوم على تقديس أرواح الطبيعة، والأجداد، والاهتمام باتّباع الطقوس والقيم القديمة واحترام السلف».
يتابع تونغ: «كان كونفوشيوس يرى أنّ السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والسلام يكمن في استعادة النظام الاجتماعي والسياسي القديم. وأدّى تأكيده الشامل على الاستقرار والسلام إلى تأكيد البنية الاجتماعية في ترتيب طبقي متسلسل، وبالتالي إلى اعتبار هذا الترتيب على أنّه مثال الكمال في البنية الاجتماعيّة، ما أعاق التقدّم والنمو في المجتمع الصيني».
كذلك نادى كونفوشيوس، بحسب تونغ، بوجوب أن يطيع الأبناء آباءهم، والزوجات أزواجهنّ، والرعيّة ملوكها، طاعة مطلقة. وأصبحت الطاعة بعد ذلك شريعة المجتمع الإقطاعي الظالم، والقاسي. ثمّ ما لبث العلماء الصينيون أن أكّدوا مبدأ الطاعة، وأيّده الأباطرة وفرضوه على أفراد الشعب. وأصبحت أفكار كونفوشيوس في ما بعد أصفاداً روحيّة لإعاقة الناس من التفكير السليم، علماً أنّ كونفوشيوس لم يكن يهدف إلى ذلك، وهذا ليس ذنبه، بل ذنب أتباعه الذين قدّسوه وألّهوه في ما بعد.
كان كونفوشيوس أيضاً يدعو إلى ضبط النفس وإحياء الطقوس القديمة، وإلى محبّة الجنس الإنساني، ورأى أن البرّ والمحبّة يتجسّدان في ضبط النفس وإحياء الطقوس. وقال في تعاليمه: «السيد الصالح يسعى إلى إقامة العدل، بينما يسعى الوضيع إلى المكاسب، وحكمة الطبقة العليا وبلادة الطبقة الدنيا ثابتتان ولا تتبدلان».
وحول السلطة والشعب قال: «على عامة الشعب القيام بالأعمال، وليس عليهم معرفة كنهها»، وفي ذلك دعوة واضحة إلى استعباد الحكّام للشعب. ويعتبر تونغ أنّ مثل هذه الأقوال سبب رئيس لتخلّف الصين في التربية والتعليم، وتؤدي إلى جهل الشعب، وتقسيم المجتمع إلى سادة ووضيعين، وأغنياء وفقراء، ولا تسهم أبداً في تطوّر المجتمع الصيني.