د. جلال أمين يكتب : محنة المصريين والأمريكيين في رواية «شيكاجو»
في رواية علاء الأسواني الجديدة «شيكاجو» كل مزايا روايته السابقة «عمارة يعقوبيان»: التشويق الذي يبدأ من أول صفحة، ويستمر إلي آخر صفحة، أسلوب الكتابة السلس والسريع الذي يصيب الهدف باستمرار بلا تثاقل أو تسكع، الرسم الواضح والمتسق للشخصيات، اللغة العربية الراقية، دون تكلف أو تعمد الإغراب، وقبل كل شيء وفوق كل شيء، نبل المعني، إذ لا جدوي في رأيي من رواية، مهما كانت درجة تشويقها وإتقانها، إذا لم تكن نبيلة المقصد، وإذا كان المقصد تافهاً أو حقيراً، قضي علي ما قد يكون للمهارة والشطارة من أثر في نفس القارئ.
الهدف في رواية «شيكاجو» هدف نبيل مثلما كان في «عمارة يعقوبيان»، ولكنه يتميز في شيكاجو بأنه يتجاوز الحالة المصرية إلي الحالة الإنسانية الأوسع.. نعم إن المحنة المصرية موجودة في الرواية الجديدة أيضاً، ولكنها لا تسيطر علي الرواية بدرجة سيطرتها علي الرواية الأولي، المشكلة «أو المشاكل» في رواية «شيكاجو» أقل وضوحاً منها في «عمارة يعقوبيان»، بسبب أنها تتعلق بمشاكل إنسانية أكثر عمومية، فإذا بالمصري والأمريكي في رواية «شيكاجو»، يكادان أن يكونا وجهين لنفس العملة، والسبب في محنة كل منهما يكاد أن يكون واحداً.. ما هذا السبب بالضبط؟ وما هذه المحنة؟
سؤالان تستدرجك الرواية إلي التفكير فيهما، وتعطيك مفاتيح كافية للوصول إلي إجابات مرضية «وليس بالضرورة إجابة واحدة»، مما يشهد في حد ذاته بنجاح الرواية نجاحاً باهراً.
ورواية شيكاجو «مثل رواية عمارة يعقوبيان»، لا تغلق في وجهك باب الأمل، بل تترك الباب موارباً كما تركته الرواية السابقة، بقدر يسمح بدخول الفرح والسرور، ولكنه لا يقطع بحتمية الفرح والسرور، بالضبط كما تفعل الحياة بنا جميعاً.
***
في رواية «شيكاجو» خمس قصص أساسية، تسير متوازية خلال الرواية، وتدور كل منها حول العلاقة بين رجل وامرأة: شيماء وطارق، الاثنين من مصر، لدراسة الطب في جامعة ألينوي بشيكاجو، وأحمد دنانة رئيس اتحاد الدارسين المصريين في أمريكا، والمسجل أيضاً في كلية الطب، وزوجته مروة، وقصة ناجي وصديقته اليهودية ويندي، والدكتور صلاح وزوجته الأمريكية كريس، والدكتور رأفت ثابت وزوجته الأمريكية ميتشيل وابنتهما سارة، وهناك إلي جانب هذه العلاقات الخمس، رجلان غير متزوجين، الدكتور كرم دوس الطبيب المصري الذي هاجر إلي أمريكا، فحقق نجاحاً وشهرة باهرين كجراح للقلب، وصفوت شاكر مسؤول المخابرات في السفارة الأمريكية بواشنطن، الذي أتي لشيكاجو للإعداد لزيارة رئيس الجمهورية المصري.
إن كل علاقة من العلاقات الخمس تنتهي بما يشبه «المأساة الإغريقية»، أي بمأساة لا حيلة لأصحابها معها، ولا مفر لهم منها، إذ إن نهايتها متضمنة في بدايتها، فمتي كانت هذه هي بداية الشخص، أو ظروف نشأته، أو تكوينه الجسماني أو النفسي، أو متي كان هذا هو نوع العلاقة التي نشأت بين الشخصين ابتداءً، فلابد أن ينتهي الشخص أو تنتهي هذه العلاقة، هذه النهاية بالذات، ولا يمكن تصور غير ذلك.
رأفت ثابت، الطبيب المصري الذي أجبرته ظروف مصر السياسية علي تركها، وهاجر إلي أمريكا فنجح في مجال عمله كطبيب وأستاذ جامعي، يبدو في بداية الرواية وكأنه قد ترك مصر وراءه إلي الأبد، وهو نفسه يظن أنه أصبح أمريكياً، ولا يكف في حديثه عن ذم مصر والمصريين، وكأنه كف عن أن يكون واحداً منهم، ويعامل المصريين الآتين للدراسة في نفس كليته بتعالٍ وتكبر، هذا الرجل تكتشف شيئاً فشيئا، مع تطور أحداث الرواية، واتضاح نوع العلاقة بينه وبين زوجته الأمريكية وابنته، كم هو بائس في الحقيقة، وأن كل مظاهر النجاح التي حققها في الولايات المتحدة لم تحل مشكلته التي أتي بها من مصر، وكأن كل ما يقوله ويعتقده عن علاقته بمصر أو بالولايات المتحدة، ليس أكثر من خداع للنفس لم ينقذه، لا هو ولا أسرته، من نهاية مأساوية.
الدكتور صلاح، زميل الدكتور رأفت، جاء أيضاً من مصر واستقر في الولايات المتحدة، وتزوج أيضاً من أمريكية، وإن لم ينجب منها.. علي السطح يبدو كل شيء علي ما يرام، فهو أيضاً طبيب وأكاديمي ناجح، وعلاقته بزوجته تبدو طيبة ومستقرة، وليس لديه أي نية في العودة إلي مصر، ولكن الأمر لا يحتاج إلي أكثر من حادث جديد صغير، يتعلق بخبر اعتزام رئيس الجمهورية المصري المجيء إلي شيكاجو، واعتزام بعض الشباب المصري الذين يدرسون في أمريكا أن يرتبوا مظاهرة عند وصول الرئيس، يحتجون فيها علي ما يجري في مصر، لكي تتفجر في نفس الدكتور صلاح مشاعر قديمة مكبوتة، يبدو وكأنه نسيها، ولكنه في الحقيقة لم ينسها قط منذ افتراقه عن صديقته ومحبوبته المصرية القديمة «زينب».
إنه لم يفترق عنها بإرادته، ولكن بقرار منها هي، إذ كانت فتاة ذكية ونشطة سياسياً، ومستعدة للمغامرة بل وللتعرض للضرب والسجن مع زملائها في سبيل إنجاح الحركة السياسية الطلابية التي تنتمي إليها، لم يكن لدي صلاح الشجاعة للاشتراك معها في نشاطها السياسي الخطر، فاتهمته بالجبن وانصرفت عنه إلي الأبد، هاجر صلاح بعد ذلك، بل وربما بسبب ذلك، إلي الولايات المتحدة، ومرت سنوات كثيرة، بل عشرات السنين، دون أن ينسي صلاح تلك العبارة التي صدرت من زينب قبيل فراقهما واتهمته فيها بالجبن، وظل محور حياته الذي يلازمه كظله، مع كل نجاحه كأكاديمي وطبيب، ورغم زواجه من امرأة يحبها وتحبه، هذه الفكرة الرهيبة، وهي أن زينب كانت علي الأرجح علي صواب عندما وصفته بالجبن. الدكتور صلاح ينتهي أيضاً نهاية مأساوية، ربما لا لسبب إلا تلك العبارة القاسية التي وجهتها إليه حبيبته القديمة زينب منذ عشرات السنين.
من الممكن أيضاً أن أصف بالمأساة الإغريقية ما انتهت إليه العلاقة بين شيماء محمدي «الآتية من طنطا رأساً إلي شيكاجو»، وبين طارق حسيب «الشاب الطيب ولكن المليء بالعقد التي ولدها كبت جنسي طويل في مصر»، وإن كان المؤلف فضل أن يترك لهما وللقارئ، بعض الأمل في أن تنتهي علاقتهما نهاية سعيدة، ومن الممكن أيضاً أن نطلق وصف المأساة الإغريقية علي ما تطورت إليه العلاقة بين جراهام وكارول، حيث كانت النهاية متضمنة في بداية علاقتهما، بسبب أن جراهام أمريكي أبيض وكارول أمريكية سوداء.
***
خطر لي، بعد أن انتهيت من قراءة الرواية، أن بعض الشخصيات الأساسية فيها ليس لها أي علاقة ببقية الشخصيات، بل إن تطور الأحداث في بعض العلاقات الأساسية فيها يكاد لا يتقاطع بالمرة، إلا علي نحو عرضي تماماً، مع تطور العلاقات الأخري، الأساسية أيضاً، في الرواية. انظر مثلاً إلي علاقة شيماء بطارق، إن نشوء العلاقة بينهما وتطورها حتي نهاية الرواية لا يتقاطعان، أي لا يلتقيان بالمرة، مع بقية العلاقات الأساسية في القصة، إذ لا يجمع بين شيماء وطارق من ناحية، وبين بقية الشخصيات الأساسية، إلا أنهم جميعاً يعملون أو يدرسون في نفس القسم في كلية الطب.
وقُل مثل هذا عن تطور العلاقة بين أحمد دنانة وزوجته مروة، وعن قصة رأفت ثابت مع زوجته وابنته، قد يعتبر بعض النقاد هذا الانفصام «أو هذا التوازي بين معظم القصص المكونة للرواية بدلاً من تقاطعها» من أوجه الضعف في الرواية، كما قد يلاحظ البعض، كما لاحظت أن القول نفسه ينطبق علي رواية علاء الأسواني الأولي «عمارة يعقوبيان»، حيث لا يجمع بين العلاقات الأساسية في الرواية، إلا أن لها كلها صلة بعمارة معينة في وسط القاهرة هي «عمارة يعقوبيان»، فالجميع يسكنون فيها، سكناً مؤقتاً أو دائماً، في شقة من شققها أو فوق السطوح، ومن ثم قد يقال إن رواية «عمارة يعقوبيان» وكذلك رواية «شيكاجو»، كل منهما تتكون من مجموعة قصص ولا تشكل رواية بمعني الكلمة،
ولكني عندما سألت نفسي: هل شعرت عندما كنت تقرأ «عمارة يعقوبيان»، أو عندما انتهيت منها أن الرواية مفككة أو أنها مجرد مجموعة من القصص التي لا تجمعها إلا رابطة واهية، هي أنها كلها تدور في مبني واحد؟ وهل شعرت بأن رواية شيكاجو لا يجمع قصصها إلا صلة أصحابها جميعاً بكلية جامعية واحدة في مدينة شيكاجو؟ في الحالين كانت إجابتي قاطعة بالنفي، فالقول بأن العلاقات والقصص في هذه الرواية أو تلك لا يجمعها إلا رابطة واهية ليس صحيحاً إلا في الظاهر فقط، فهناك في الحقيقة فكرة أو أفكار تجري تحت السطح، وتشكل رابطاً قوياً للغاية بين جميع القصص المكونة للرواية.. فما هذا الرابط القوي؟