أقـفال المصالحة
الكاتب: عبد النور إدريس
كانت شخصيته قوية وهو يتحدث عن هدم السجون، ربّما أخذت قوتها وصلابتها من الموضوع ذاته، فكلما تحسس بادرة الاهتمام من محدثه يزداد طموحا وحرارة... كان حديثه يأتي ممزوجا بالصراخ والبكاء والغبن...
- السجن آه من هذه الكلمة التي تحيل الدم إلى حجر.. إلى جدار. والمشاعر الدافئة إلى عرائس من ورق...
وبكثير من النحيب الكلامي القريب إلى العويل...
أينما اتجهتَ تجد السجن في الانتظار..خذ مثلا.. وأنت تفتح التلفاز..عفوا ..استسمح، كلمة (تفتح) لا أحبها هنا..فقط أريد التعبير عن الدخول إلى التلفاز.. الدخول إلى سجن مفتوح..البرامج تافهة..و..
أشرت إليه بعيني ألا يتابع فأنا أشم رائحة غير عادية بالمقهى، لقد تولدت لدي حاسة الحذر والشك طيلة جلوسي معه في المدة الأخيرة تلك الحاسة التي كان يصفها مرارا بالحاسة السِّجنية المدنية.
فاجأني بإصراره على المتابعة متجاهلا كل اعتقاداتي الفطرية حول موضوع (الحذر) وتابع ..
- السجن رحلة صمت .. قاموس بدائي من الشتائم اللقيطة.. يحاول خلاله السجَّان كسر وسحق السجين معنويا وجسديا ..إنها لعبة الجسد الصامد...
ثم وهو يهمس في أذني..: إليك سرا خطيرا.. ماذا لو علم السجان أن مباشرته للحراسة والإطعام هي أكبر خدمة وعزاء للسجين.. فكل معاني الصمود لا تحركها إلا بشريته.. ها..ها..ها،...
لم أحسب سوى ثلاث قواطع وضرسين.. إنها زهرة شبابه قد ذابت هناك.. لاحَقَتْ كلماته ، بل رصاصاته شرودي...
- آه ستكون مصيبة السجين كبيرة لو حرسته آلة..لكن مستحيل هذا المنطق حاليا .. السجون مكلفة ..إنها ضريبة المجتمع الحر، ذاك الذي يعيش ديمقراطية القطب الواحد...
..صمت رهيب خيم على الحوار، قرأت في عينيه الكثير.. كان يعتصر أحلامه في عيني ..فهمت أن أحلامه (هنا) لم تختلف عن تلك التي (هناك) ثم ولْوَلَتْ أحاسيسه..
- كلُّنا سجين وسجّان..لكن السجَّان له أبعاد كثيرة وأشكال لا متناهية .. منه الظاهر ومنه الخفي وأكثره قسوة الذي يجعل الزنزانة هي كل ما يحيط بك ..هنا..
من صمت الانفعال وظلمة الإحساس لم أعد أذنا فقط بل انفجرت قرب مسامعه..كالجرح الغارق في لعنة التأمل..
- السجن حالة لا تخلو من مفارقة .. من طموح التناقض.. تلهث في المجتمع المتخلف.. تفرخ حالات من التدهور العام.. والنتيجة أن الأغلبية تفضل مهنة الجلاد.. لا شيء محايد بالمعنى الصوفي .. إن حواراتنا العمياء حول أهوال السجن هي التي صنعت السجّان...
لم يجب ، وقف.. غادر المكان وقد كان ينظر إليَّ بعينين قد احمرتا من كثرة النحيب الداخلي..
لم ألتقي به بعد ذلك ..إنه لم يألف السجن ..(هنا).. كان كل ما يراه ..هنا.. أضعف من أحلامه التي صاغها ..(هناك)
لمّا رحل..هرب..غريبا مفجوعا..عرفت لماذا كان يصر على أن تكون العصَّابة ربطة عنقه المفضلة...