زهير الخراز
سـيـدة الأبـراج
أطلال – ( المشهد الأول )
أ- شيء محزن وشاذ لم أعهده في هذه الفتاة من قبل !!!
منهارة وكأنها حطام قصر جميل .. شاحبة كبقايا نيلة وجير على جدار قديم .. مترنحة في خطواتها كحمامة جريحة على كف قناص لعين .. نظراتها متلاطمة تائهة كأمواج بلا شطان .. عيناها ذابلتان كزهرتين جرفتهما الأوحال من قمة جبل إلى الحضيض .
كانت هناك عينان يوما ما !!!
عينان مشرعتان على جزر عذراء، تقطنها الحور العين وأطفال كالملائكة.
كانت عيناها عيني غزالة برية، كوكبان من عسل يسبحان في سديم من لبن، تحوم حولهما أهذاب شمسية .
كانت هناك صبية يوما ما !!!
ب-كنت قد اكتشفتها في ذلك المساء، حينها كانت ترفرف حول قناديل الرواق، فراشة لا كباقي الفراشات، أقسم أنها قد خرجت لتوها من شرنقة، كانت تقفز بدهشة وحيرة من ركن لآخر، تسترق الدفء والنور من أضواء كاشفة تحوم حول نفسها وحول تماثيل برونزية وأخرى رخامية، وكذا أجساد نصف عارية، كان بصرها يلغي الحدود، يكسر الإطار، يكسر الزجاج، ويعانق سرمدية اللون عن كثب. شدها لون الشفق وخضرة طحلب البحر بادئ ذي بدء، لكنها حطت رحالها عند الأزرق الموشوم بالفحم والرماد ( أمواج بطول الجبال تتقاذف بقارب صغير يحمل فتيات صغيرات)، ومن ثم اكتشفت أول مرحلة من بدايات النهايات.
يومها خلت نفسي حبة رمل صغيرة تدور في فلك بدر مكتمل، بل في فلك كائنة سماوية أعلنت منذ البدء انتحارها على شعاع قناديل البحر اللاسعة، دعتني في صمت كي أشاركها نزوتها، ترددت قليلا أول الأمر وكدت أرفض لكنني قبلت، كنت ألوذ بالظل صامتا، وكانت جاذبيتها أقوى من جاذبية الشمس والقمر، وجدت نفسي مندفعا نحوها، قاومت، فباءت محاولاتي كلها بالفشل .صعقت بأناملي المتطفلة تتنصل مني وتلامس ظهرها العاجي،صدمني تيار لذيذ، وهمست لها بصوت بدا فيه بعض الإرتعاش :
- هل راقك المعرض؟
إستدارت نحوي في ذهول .. توقعت لحظتها كل ما يخطر على البال .. صفعة أو شتيمة أو عتابا .. ابتسامة مشجعة أو ضحكة ساخرة.
أزاحت أناملها الرقيقة خصلات من شعر خمري كان ينساب على وجهها كشلال ليس له قرار .. تفحصتني بنظرات ثاقبة من مفرق رأسي حتى أخمص قدمي، إنسابت من بين شفتيها الدقيقتين ضحكة مرحة، قاومت نظراتها المحيرة طويلا، وأخيرا تركت قدري ينجرف مع تيار من عسل لا يقهر أبدا،
قالت بافتتان :
- أنا مهووسة بشيء يقال له ( الفن ).
كان رد فعلها غريبا، لا متوقعا، وفاتنا كفتنة جمالها، فجمعت شتات نفسي وأردفت متحمسا :
- هل تمارسين الرسم؟.
- لدي بعض المحاولات الخجولة .. وأنت ؟.
- إنني مساهم في هذا المعرض بعمل يتيم .
- إذن ! فأنت فنان ؟!.
- لا، أنا رسام عادي جدا .
- أهو تواضع منك ؟
- لا إنها الحقيقة ..
- أحب أن أطلعك على محاولاتي ..
- يسعدني كثيرا ذلك ..
فأمسكت بيدي، إحتضنتها بين كفيها الدافئتين، أحسست أننا نعرف بعضنا البعض منذ الأزل، قالت ببساطة وبلا مقدمات :
- دعني أناديك ( رفيق ).
إعترتني الدهشة والحيرة أول الأمر، وتداعت أمام بصري المرتاب علامات تعجب وعلامات استفهام عملاقة، وساورتني ظنون بأن هذه الشقية الجميلة تخطط لمقلب أكون ضحيته آخر المطاف، فانطلق لساني للإدلاء بلقبي الرسمي، لكنها كانت أسرع وأدهى، وبحركة رشيقة تمكنت من سد ثغرة فمي بأصبعين ثم همست :
- دعنا من الرسميات .. دعنا من سلوكيات أكل الدهر عليها وشرب .. ألست فنانا؟، إذن لنبدع شيئا جديدا على مستوى ( التعارف )..
قلت :
- حسنا، أنا بدوري سأناديك ( جميلة ).
لكنها احتجت بعنف، فضربت الأرض بكعب حذائها ضربات سريعة ومنتظمة وصاحت في غنج الأطفال :
- لا.. لا.. بل ناديني أميرة .
- إذن هو اسمك الحقيقي ؟ !
- لا .. إنما أحب أن أنادى ب ( أميرة )
- ليست كل الأميرات جميلات، كما أنه ليست كل الجميلات أميرات.
قالت متجاهلة كلامي :
- مدينتكم جميلة .. لقد أحببتها لأول وهلة. إنها زيارتي الأولى، فمدت يدها وابتسمت:
- تشرفنا !.
فعلقت يدها بيدي والتحمتا، بل انصهرتا، وصرع آخر صقيع في عرض المحيط .. كانت هذه الفتاة ترتدي زيا غريبا، يختلف جملة وتفصيلا عن زي فتيات زماننا، حتى أنني خلتها فعلا أميرة جاءت من زمان غابر بل سافرت عبر الزمن بعد أن ولجت ذاك الثقب الذي اصطلح عليه علماء الفلك بالثقب الأسود، وتريد النجاة بجلدها من خليفة عباسي ناقم .. لقد تمادى خيالي كثيرا، فأبدع صورا وقصصا لذيذة وتصورتها جارية حسناء تدحرجت من حكايات ألف ليلة وليلة.لقد خمنت وأسررت، وأعلنت، وأخيرا أغلقت جميع أبواب الأسرار، وقبلتها كما هي جمالا غامضا ومبهما ومغامرة تغري بالنزال .
ضجرت ( الأميرة ) الجميلة كثيرا لصمتي الذي استغرق قرونا طويلة ثم صاحت في وجهي :
- هل طرشت ..؟، تعال .. فأنت منذ الآن دليلي الخاص في هذه المدينة .
وانطلقنا !!