أطلال ( المشهد الثاني )
شيء محزن لم أعهده فيها من قبل !!! … منهارة كانت وكأنها حطام قصر جميل .. شاحبة كبقايا ( نيلة ) و ( جير) على جدار عتيق، متثاقلة في خطواتها، كيمامة جريحة على كف قناص لئيم .. نظراتنا تائهة متلاطمة مثل بحر فاجأه إعصار شديد .. شفتاها ذابلتان كوردة داستها أرجل فيل كبير .
- آه من ضحكتها !!!
كانت ضحكتها سمفونية رائعة تؤديها جوقة أطفال .. وأسراب العندليب والكنار و ( حمرة ) من طائر السنونو .
كانت هذه الفتاة أجمل من الجمال وأغرب من الخيال، إسأل الحي، إسأل الجماد، الكل يشهد لها على ذلك .
أ*- شهادة طفل صغير : كانت هناك صبية .. كانت بسيطة وجميلة، فلقبناها بالأميرة، نحتناها بشمع العسل، ورسمناها على الجدران السميكة وفي الحدائق، والقصور القديمة، زفتها إلينا النوارس وأسراب السنونو، وأهديناها بدورنا لشمس هذه المدينة .
ب*- شهادة نورس عجوز : أذكر وتذكر معي المدينة، كنا ثلاثة، أنا، وطائر سنونو، وتلك الفتاة المليحة، جئنا نبحث عن الدفء والنور وأشياء صغيرة، اكتشفنا أشعارا تقرأ على ( مسرح) المدينة، فرسونا وصفقنا بحرارة للكلمة الجميلة، رجعنا ولم تعد معنا الصبية ( الأميرة ) !!!.
ج *- شهادة الباب الرئيسي للمدينة : كنا قد افتقدناها منذ أمد طويل جدا، أعترف أنها كانت تزور المدينة من حقبة لأخرى، فقد ولجتني مرات عديدة، لكن بأجساد مستعارة، كانت هذه الصبية مهووسة بسرد أساطير هذه المدينة، فمنذ مائة عام، جاءت فقصت على الأطفال حكاية الغولة حارسة البرج والقصور القديمة، وحكت أيضا عن أميرة هزمت بأفكارها النيرة، أساطيل ( التتار)، حينما هموا بإشعال النار بالمدينة، في كل مرة تأتي إلا وتشرع في سرد حكاية جديدة وكأنها مستوحاة من أعماق هذا المحيط .. وعند نهاية كل حكاية كانت تحذر الأطفال قائلة : ( أن أنتم فرطتم في أسوار المدينة ابتلعكم المحيط، وأصبحت مدينتكم في خبر كان .. ) .
أقسم لكم أني حينما ضممتها إلى اليوم تناهت إلى سمعي زغاريد جميلة، وتشممت رائحة الحناء ممزوجة بروح الزهر، أتعلمون لماذا؟!، لأن هذه الصبية ولجتني بسحنتها الحقيقية والجميلة كما رأيتها أول مرة .
د*- شهادة عاشق : أذكر تلك اللحظات جيدا، كانت قد جرفتني صبية هيفاء إلى أحضان المدينة، كنت دليلها الخاص عند الأبراج وكل معلمة قديمة، كان الكل مفتونا بضيوف المدينة، وحدي كنت مفتونا ب ( الأميرة) الجميلة .
يومها ضمنا إليه برج عتيق .. وكان البرج على شاكلة مقدمة سفينة تمخر عباب المحيط، أذكر أننا كنا نبلل بصرنا تارة بزرقة البحر وتارة أخرى نجففه بوهج الشفق .
كنا في منتصف شهر ( آب)، والشمس توشك على المغيب، وقد طال الحديث على سطح برج أبى إلا أن يكون شاهد عيان، وإليكم الحوار الأخير الذي دار بيننا :
- أميرة ( منتشية ) : يتملكني شعور غامض بأنني أعرف هذه المدينة منذ أمد طويل وطويل جدا !
- رفيق : أظنك زرت المدينة من قبل، إلا أنك لم تعودي تذكرين ذلك .
- أميرة: إنها زيارتي الأولى .. سبق وأن أخبرتك !
- رفيق ( ضاحكا ) : ربما زارتها أمك وأنت جنين في بطنها ؟!.
- أميرة : !؟ !؟
- رفيق : كنت أمزح معك .. أما إحساسك هذا فهو إحساس عادي جدا ينتاب معظم الناس .
- أميرة : لا .. إلا إحساسي، فهو ليس عاديا .
- رفيق : أرى أنك قد انتشيت كثيرا أمام منظر الغروب !
- أميرة : أتؤمن بتناسخ الأرواح ؟!!
- رفيق : لقد استهواني هذا الموضوع قديما، قرأت عنه بعض الشيء .. إلا أنني لا أؤمن به، لأنني ببساطة لست بوذيا .
- أميرة: لأنك تنظر إلى هذه الظاهرة من جانبها العقائدي .. لا من جانبها العلمي .
- رفيق : لا توجد نظرية علمية ثابتة تؤكد ما تزعمين حتى الأديان السماوية الثلاثة تنفي ذلك .
- أميرة ( غاضبة ) : يبدو أنك لا تقرأ كثيرا، فأفقك ضيق جدا !
- رفيق ( مداريا) : قد تكونين على حق .. فأنا لم أطلع على كتب البرابسيكولوجيا منذ زمن بعيد .
- أميرة ( في حالة انتشاء كبيرة ) : أنا سيدة هذه الأبراج في يوم ما كنت أميرة على هذه المدينة .. صدقني .
- رفيق ( يصفق بيديه ) : خيال جميل جدا، أنصحك بالكتابة، فقد تنجحين في الرواية.
- أميرة: كفاك سخرية ..سوف أبرهن لك على ذلك .
- رفيق : لا تحاولي فلن أقتنع بسهولة .
- أميرة ( تبدأ في سرد معلومات ووقائع تاريخية تخص هذه المدينة بتفصيل دقيق جدا ) .
- رفيق ( ذاهلا ) : جيد … ممتاز …أنت ضليعة في تاريخ هذه المدينة ! ! ! !
- أميرة : هذا يدل على أن ما أخبرتك به كان صحيحا ! ! !
- رفيق : وكأني أمام مؤرخة عاشت كل الحقب التي مرت بها هذه المدينة ؟ !
- أميرة: ومع ذلك فأنا لم أطلع يوما ولو على كتيب صغير يخص مدينتكم .
- رفيق : لا أصدق .. أكاد لا أصدق ! ! !
- أميرة : لا أعرف كيف أشرح لك .. إنما هي أحاسيس غامضة تملكتني عندما وقع بصري لأول مرة على أسوار هذه المدينة .
- لا ..لا .. أنت تمزحين .
- أميرة : صدق أو لا تصدق، فهذا لم يعد يهمني .
- رفيق ( ضاحكا ) : لو كنت تحملين ملامح أهل ( التيبت)، لقلت أنك روح ( الدليلاما ) .
- أميرة ( مستفزة ) : نسيت أن أخبرك أنني ضربت موعدا مع أكبر فنان صادفته في هذه المدينة .. لقد أكد أنه في شوق كبير للإطلاع على محاولاتي الفنية .. ( تبدأ في وصف هيأة وشكل هذا الفنان ) .
- رفيق : هل تقصدين شهريار ؟ ! .