حمودي الكناني
في سوق الذهب : فصل من رواية
(*) لما عاد من بيت الحاج منصور ودخل غرفته خلع معطفه على عجل وألقى بجسمه بقوة على السرير .ظل محدقا في سقف الغرفة ونوبات الذهول ترسم له مشاهد غاية في الجمال والروعة وكأنه في حالة حلم لا يريد الإستيقاظ منه . وكل تساؤل يرد على خاطره يعطي له جوابا مقنعا مدعما بالأدلة والقرائن .
لا شيء يفوق من حيث الجمال لحظةَ تمرد على روح استسلمت لحالة ضعفٍ في حضرة من لا يستجيب وإن استجاب فلا تتعدى استجابته صرخةً مشفوعةً بزجر أو توبيخ وكأنه غير معنيٍّ بقراءة أحرف القلب . آه كم أتعبني توانيك حتى ما عدتُ أطمئِن إلى مالا تفصح عنه , لكنّ العجلة تسير لا شيء يمنعها من الدوران , الأشياء تتوارى حينما يلتهمها التسارع بنهم … الناس , الشوارع , وحتى الشجر , وتبقى كل الكائنات تشتكي لبعضها لكن لا تجد أمامها سوى التمرد . لاشي يغني عنه البتّه . لا أدري لربما أراني تحت تأثير إغماءة جنوني المفضل , لكن لا بأس ,كل شيء يستحق قُبلة أحياناً حتى وإن كان وهماً قاتلاً . هكذا أطلق سامي العنان لخياله الذي راح يصور له حالةً من المضي إلى ما لانهاية في كل الإحتمالات.. ولما تيقن أن عليه المضي قدماً ركنَ إلى إيمانه القوي بالله وقال سبحان الذي أودع الصبر في هذه النفس المليئة بالطموح والتحدي.
وما هي إلاّ دقائق حتى أخلد للنوم وراح يغط غطيطا !
إستيقظ مندهشا لما وجد نفسه نائما بملابسه و لم يرتدِ ملابس النوم وحتى لم يخلع حذاءه مما جعله يبتسم في داخله المنتشي جراء ما تلمسه من مروءة الحاج منصور . حمد اللهَ وشكره وراح يتوضأ للصلاة.
ولما فرغ من صلاته بدأ كعادته في ترتيب كلِّ شيء بإتقان , فكل شيءٍ كان يعني له رمزاً مقدسا في الحياة تحتم عليه الإهتمام به والتعامل معه كمكونٍ من مكونات الجمال والرقة
, هكذا هي نظرته للأشياء كل الأشياء . عندما ينظر الى أي منها يتعامل معه وفق منظور خاص يحتم عليه الوقوف عنده والتأمل في كيفية إضفاء لمسات شعرٍ عليه لأَسْرِ العيون و إبهاج القلوب ,
فلا يمر عليه يومٌ بدون أن يترك آثار أنامله على الأشياء التي تقع عليها عينُه… هكذا كان سامي منهمكاً في عمله عندما داعبت خيالَه ذكرياتٌ ليست بعيدة وإنما جاءت على حين غرة ففاجأته باقتحامها عرينه الذي ابتناه من خلجات نفسه السابحة بين الحقيقة والخيال فراح يتأمل ماذا سيكون انطباعُه حينما يخرج ليمسح ناظريه بجمال هذه المدينة الكبيرة إذا سنحت له الفرصة . وبينما كان واقفا في الفناء يتأمل بعض اللوحات التي كانت تزين الجدران التي أسَرَت انتباهَه وإذا بصوت رخيم قد افسد عليه استمتاعه بإطالة النظر إلى صورة عاشقين يتبادلان الزهور !
كفان أغمضا عينيه برفق :
{حزر فزر} مَن يا ترى جاءك الآن ؟
لم يصدق عينيه عندما التفت ورأى صديقه يأخذه بالأحضان :
أتراها لهفة كانت في خزين ذاكرته التي كنتُ سبباً في إيقاظها …لعل الأمر كذلك لكنه تصرفٌ نادر الوجود في أيامنا هذه , وعلى العموم كأنما هو النموذج الذي أبحث عنه في كل ما يتعلق بتفاصيل ما أريد إيصاله له ولغيره عن مدى التأثير العميق الذي يتركه التعامل المقرون بالصدق والندية.
الله …. الله …. الله لقد هبطتَ عليّ من السماء يا صاحبي . والله لقد طغى شوقي اليك على كل تفكيري لكن انشغالي بالعمل هنا كان سلوتي الوحيدة . كيف أنت ومتى جئت , وكم ستبقى هنا ؟
كانت ترتسم على ثغر محمد منصور ابتسامةٌ عريضة . وجهُه يتهللُ فرحاً عندما كان يشدُّ على يد سامي بحرارة :
إسمعْ سامي اليوم أنا متعبٌ جداً وأعلمُ أن الحاجّة الوالدة قلقة جراء غيابي الطويل فدعني الآن أسرع لها كي تقر عينا وأستمريء بما ستعده لي من وجبة دسمة وغدا صباحا سنخرج في جولة مفتوحة في عرض المدينة وطولها .
ما أثقل الساعات وما أطولها عليه… متى يطل الصباح وتخرج شمسُه من عرينها لتملأ نفسه المتشوقة للخروج وإشباع فضوله المشروع , الإستمتاع بكل شيء ممكن يبعث في الروح بهجة وفرحا فريدين .
في صباح اليوم التالي خرج بصحبة محمد لا يدري إلى أين لكنَّ فكرَهُ ظل مشدوداً لما سيرى .
قل لي سامي أي الأماكن تستهويك ؟ لدينا كثير من الأماكن التاريخية والمتنزهات والحدائق العامة والأسواق … هذه هي طهران تضم كل أعراق وأطياف الشعب الإيراني ولك أن تميّز ذلك من خلال الأزياء المختلفة التي يرتدونها ومن تقاسيم وجوههم وحتى من طريقة الكلام والتعامل مع الآخرين بل ومن طريقة أكلهم أحياناً ! .. لكني أرغب في أن أأخذك إلى أهم الأماكن في العاصمة وأعرقها … سأذهب بك إلى البازار , السوق الكبير , وهنا انتبه سامي وقال يعني مثل سوق الشورجة عندنا في بغداد الذي يعتبر الممول الرئيسي لكل المحافظات بكل أنواع السلع التي يحتاجها الناس , المحلي والمستورد وغير ذلك , سوقٍ تخصصي , أي أنك لا تحتار أين تذهب لشراء حاجة ما . فللمواد الغذائية سوقٌ وكذلك للجلود واللدائن وغيرها من السلع. لقد أعجبته فكرة الذهاب إلى هذا المَعْلَم الذي سمع به من قبل لكن لم يعر له أيَّ اهتمامٍ لأنه بعيد عنه ولأنه ليست له حاجة يبغيها من التدقيق في مواصفاته وما يحتوي من أشياء . الآن فقط قد تحتم عليه النظر والتدقيق بإمعان لما يشاهده في هذه البلاد . لم يجلب معه دفتراً أو ورقة ليدون بعض ما يشاهده لأنه فضل أن تكون ذاكرتُه هي السجل الذي يودع فيه كل كنوزه التي سيجنيها مما يشاهده في هذه البلاد التي بدأت تشده إلى الغور في ما تخبيء من أسرار الماضي البعيد والقريب .
إذنْ هيّا الى الشورجة !
توقفَ عند البوابة الكبيرة للسوق ورفع عينيه إلى أعلى فرأى لوحة كبيرة موشاة بزخرفة إسلامية بديعة ومؤطرة بإطار جميل خُطّ عليها بالخط الفارسي{ ادخلوها بسلام آمنين } تأملها مليا وأرسلها إلى خزين ذاكرته ليستخدمها في عرض ما ساوره من رؤى وخيالات حتمت عليه أن ينقل خطاه ليس كباحث عن تمضية وقت وإنما لاستقراء ما توحي إليه كل لقطة يصورها في ذهنه وكل مشهد يراه وكمتعةٍ روحية في هذا المكان المذهل في كل شيء .
التفت إليه محمد ومسكه من ذراعه :
أين سرحت أيها العراقي ؟ هل استفرد بك الصمتُ أم إنك تهت في زحمة ما ترى ؟ لا شيء يختلف هنا في التعامل بين الناس . هنا يباع كل شيء وهنا يُقرر كل شيء .. فأي هزة هنا تعني الكثير الكثير لبنية وهيبة الدولة برمتها ..
هذا السوق هو عصب هذه البلاد فإنْ أصاب هذا عصبَ بعضُ التلف عند ذاك تعرف أنها الأزمة التي تقض المضاجع .
لكن سامي لم ينتبه إلى كلامه , كان كل اهتمامه منصبا في مراقبة الحركة , حركة الناس, وكيف ترتسم في وقت واحد ملامح الدهشة والإستغراب والفرح والرضى على وجوه المتعاملين وكأنه يشاهد عرضا تشابكت فيه المواضيع وعليه أن يقر أي موضوع أو مشهد يشده أكثر .
تباينُ الألوان وبهرجتها جعله يدرك تماما أن هؤلاء القوم يحبون الحياة ولكنهم يساقون مكرهين إلى مالا تشتهي أنفسهم ….. بدأ كلُّ شيء يشده إلى الغور في خصوصيات هؤلاء الناس … ماذا يرى ؟ هل هو التناقض بعينه ؟ لا , حتما هناك انسجام , تناسق في الطبع , وحتى في المعروض من السلع , أما الآخرون فهذا يدفع عربة كبيرة ويصرخ بأعلى صوته أن يفسحوا له , وذاك يحمل على ظهره كيسا وآخر يحتضن صندوقا وأخرى ترتدي عباءة موردةً تقود طفلاً وحينما يضايقها المارة لشدة الإزدحام تفلت عباءتها من قبضة يدها فتكشف عن آخر صرعاة الموضة !
وبينما كانا يسيران على مهل مر اثنان يمشيان على عجل يتكلمان باللهجة العراقية غير آبهين بزحمة المكان. كان أحدهم يقول لصاحبه : نعم سنجده في كوجه مروي . كان لمرور هذين الرجلين وحديثهما باللهجة العراقية وقعٌ كبير في نفسه التي أرهقها الإشتياقُ لسماع لهجة قومه حيث انفتح له بابُ أملٍ بأنه سيلتقي بالمزيد المزيد من العراقيين الذين أودت بهم الظروف إلى ركوب نفس المركب.
كوجه مروي ………!؟ وهنا التفت إلى محمد وقال بلهفة :
هل سمعت الرجلين الذين كان يتحدثان باللهجة العراقية ؟
نعم سمعتهما وهناك الكثير من العراقيين في هذه البلاد وفي مختلف المدن , لكن لماذا تسأل , هل اشتقت إلى أهلك !؟
لا , ولكني سمعتهما يذكران عبارة كوجه مروي , فماذا يعني ذلك ؟
لا تتعجل الأمر صديقي العزيز , ستعرف كل شيء لكن لما يحين الوقت .
والآن ما بقي لنا إلاّ القليل وندخل سوق الذهب وكل ما عليك فعله هو أن تقوى جيدا لأنك ستفاجأ بما تراه من جمال الطهرانيات اللواتي يجذبهن هذا السوق وستكون محتاراً بين لون الذهب وبريقه وبين لونهن الذي لا يقلُّ بريقاً !
لا تظنني أبالغ في الوصف لكنها هي الحقيقة لا غير وعندما تجد نفسك لا قابلية لك على ضبط النفس سأكون مضطراً لشد عينيك كي لا ترى . صديقي العزيز سترى ما لم تره عيناك وستسمع همسهن مع الذهب بلغةٍ تكاد تكون أنغاما موسيقية لم تسمها أُذناك من قبل.
وهنا أطلق سامي ضحكة عالية أثارت انتباه بعض من كُنَّ محتشدات أمام محل كبير لبيع المصوغات الذهبية فلما نظر إليهن تكلمت إحداهن وهي تنظر إليه وتبتسم مما جعلت صديقه يبادلها الإبتسامة ويترجم له :
تقول كم أعجبتني هذه الضحكة التي أزاحت الهمَّ عن صدر هذا الشاب الشاحب الوجه , هكذا هي الضحكة العفوية , ليته يخبرني عما أضحكه حتى أضحك مثله .
وجد صعوبة في تصديق ما سمع وظل يفكر بهذا الكلام يستنتج بان في داخل هذا الشعب أموراً تختلف عما يبديه ويظهره في العلن , وكأنما الضحكة هي الأخرى قد فارقت شفاه الكثيرين .
إنّ ما رأته عيناه في هذا السوق غير العادي جعله يعيد النظر في كل شيء , إذ أن كثرة المعروض من الحلي والمصوغات الذهبية جعله يعتقد أن كل ذلك عبارة عن تقليد لا قيمة له ولما تبين أنه ذهب حقيقي , اتضحت فعلاً أهمية هذا السوق ودوره في إنعاش الحركة التجارية , والغريب أنه سوق يتفرع إلى شبكة أسواق كأنها فروع شجرةٍ عاشت لقرون فامتدت إلى مسافات طويلة كأفاعٍ خرافية ولكن مسالمة ! وبينما كان منغمسا في تأمّل السوق وما يحتويه وغارقاً في تخيِّلهِ تذكر فاطمة نديميان طالبة الطب وحديثه معها فمسك محمد من ذراعه وسأله :
أين تقع جامعة طهران ؟
سؤال غريب ! هل تريد أن تلتحق بأحدى الكليات , لتعلم الفارسية ؟
الجامعة ليست في مكانٍ واحد فالكليات موزعة في عرض العاصمة وطولها ولكن قل لي بالله عليك لماذا تسأل بلهفة ؟
لا شيء وإنما فقط تذكرت الفتاة التي تعرفت عليها في الحافلة أثناء المجيء إلى العاصمة وهي طالبة تدرس الطب هنا وقد أعطتني رقم الهاتف وقالت يمكنك الإتصال بي متى ما شئت .
أها …….. يبدو أنك وقعت في شِراكِ فارسية !
إحذر يا فتى .
نظر إليه سامي بودٍّ وقال : آفة الحُبّ الحذر !!!!!!!!
———————————–
(*) فصلٌ من رواية بعنوان : النوم على سرير العدو .