"الإنسانية العظيمة ترتحل على أسطحة البواخر –وفي عربات الدرجة الثالثة- وهي تتزوج في سن العشرين- وتموت في الأربعين- الإنسانية العظيمة".
ومن أجل هذه الإنسانية العظيمة تحمل جميع صنوف الآلام، وأكثرها إبهاظاً للجسم والروح، وخرج من تجربة الألم منتصراً عليه، صارخاً أبداً:
"إن ما أفعله هو من أجل الناس-من أجل الجهال والحكماء- من أجل الذين ما زالوا أطفالاً- من أجل هؤلاء القاهرين المبدعين- الذين وجدت الأغاني لتمجيد أعمالهم".
وكي يمجد أعمالهم بالقول وبالفعل، نظم القصائد، وتحمل عضات القيود، راضياً أن يكون "استغاثة هذه الملايين، استغاثتها الملأى الطافحة، حسب تعبيره، فإذا اشتد عليه الألم، وأرهقته الأيام في الزنزانات، صاح في ذاته وكأنه يخاطب إنساناً آخر، مستقلاً عنه: "ضمد جراحك بيديك الرهيبتين، وعض على شتفيك مقاوماً الأوجاع"، ضمد جراحك بانتظار الفجر الذي يلوح، الفجر الذي كان يرى فيه آلافاً من العبيد ينهضون من القبور المنسية "ومن جراحاتهم تسيل ألسنة اللهب- إلى أرض العبودية- وسلاسلهم تهتز- في قصف شبيه بالرعود". كما يقول الشاعر هايدن.
وكانت المرأة تنهض أيضاً، نافضة عنها غبار الأيام وظلمات القرون، وناظم يمجدها كما يمجد معركته، ويحبها كما يحب معركته، لأنها إنسان في قلب معركته، وعنها سيكتب أروع قصائده، وستقرأ المرأة هذه القصائد، وتحبها كما نحبها، وتتحمل في سبيلها ولنصرة قضيتها، كثيراً من الألم والحرمان والسجن أيضاً.
وما من شك في أن الأدب العربي والعالمي قد احتفي كثيراً بالمرأة. بل إن المرأة تشكل الركن الأساسي في كل بناء أدبي، نثراً كان أم شعراً، لكنها في أغلب الأحيان تكون مادة حب أو جنس، ينتهي الأول بها إلى الزواج، والثاني إلى حياة السقوط في المهاوي، وقد تنتج تلك التراجيديا العاطفية التي نراها في قيس وليلى وروميو وجوليت، بسبب التقاليد والأعراف المتخلفة السائدة، وهي تصور معاناة المرأة وخضوعها وضغط البيئة عليها، واستكانتها هي إلى هذه البيئة واستسلامها إلى درجة الموت لقسوة الرجل ذي العقلية المنساقة بالغيرة الهوجاء كما في مسرحية عطيل، أو انحدارها إلى جحيم البؤس الاجتماعي بسبب خروجها على المؤسسة الزوجية كما في "مدام بوفاري" و"أنا كارنيا"، ليكن الأدب، باستثناء القليل منه، وخاصة قبل نشوء المجتمعات الاشتراكية وتحرر المرأة بتحرر مجتمعها، ما كان، ولعله في ذلك كان يستلهم الواقع، يصور المرأة على هذا البهاء الذي صورها به شعر ناظم حكمت، صديقة ورفيقة ومناضلة مساوية للرجل، تعرف أن تصمد مثله، وتموت في سبيل وطنه وقضية شعبها مثله أيضاً.
إن النظر إلى الحاضر في انفصاله عن المستقبل يشكل نظرة قاصرة إلى الأشياء، والأدب الذي تناول المرأة في سكونية الحاضر دون حركيته قد أغفل جانباً مهماً من مسيرة التطور الثوري. والأدب البورجوازي الذي كثيراً ما اتخذ المرأة كائناً جسدياً أشبه بسلعة فنية كما هي سلعة تجارية، كما يخدم الرأسمالية التي لا ترى في المرأة إلا مادة متعة ومادة استغلال، ولهذا ظلت صورتها ممسوخة في أكثر الأعمال الأدبية، مشوهة في جانبيها المثالي والوضيع على السواء.
وإذا كان ناظم حكمت قد مجد زوجه، ومن خلالها المرأة، وهو بعيد لا يدري ماذا تعمل ولا بماذا تفكر كما يقول، فلأنه كان يثق بها، ويعتبرها إنساناً كاملاً ومستقلاً ومساوياً للرجل.
وإذا كان قد اعتبرها صديقة ورفيقة، واعترف بنضالها وقدره هذا التقدير، فلأنه كان ينطوي على مفهوم صحيح للعالم، ويؤمن أن المرأة نصف المجتمع، نصف الشعب، وأن تحرر شعب ما لا يكون بنضال نصفه فقط، وأن تقدم شعب لا يكون بأن يحكم نصف ويبعد عن الحكم نصف آخر.
من أجل ذلك حرص، وهو يرسف في القيود دفعاً عن قضيته، أن يرى المرأة في قلب هذه القضية، فيناجيها تارة، ويبثها شوقه وعزمه طوراً، ويضع يده بيدها أبداً في مسيرة نضاله الطويلة.
وهذه الشهادة للمرأة المناضلة، من شاعر ومناضل مثل ناظم حكمت، لها وزنها الكبير بالنسبة للذين يعجبون بشعره وصموده ومواقفه البطولية، وتفانيه العجيب في الدفاع عن مبادئه.
وقد صور هذه المرأة في أكثر جوانبها تألقاً. زوجة مع زوجها على الدهر لا مع الدهر على زوجها، مع الحرمان واحتمال الأذى في طريق الكفاح، وليس مع الرخاء والنعيم في معارضة هذا الكفاح، وعندما جاءه أن فتاة جامعية أوقفت بسبب أشعاره كتب يقول:
"أفكر بك أيتها الفتاة، فأنت في السجن منذ عام، وأقل حكم ينتظرك ثلاثة أعوام، لأنك قرأت بعض أشعاري".
"وأفكر بك، يقول لزوجته، وصوتك ما زال يرن في مسمعي. أفكر بك يا زوجتي الصغيرة، فهل جف لبنك نهائياً؟ وعجلي، محمدي، ألا يرضع ثدييك؟ وهل دفعت أجر البيت عن هذا الشهر؟ وهل أعيش أنا في خاطرك؟".
وهو يتألم لوضع المرأة الشرقية، هذه التي تلتف جدائلها على أصابع الرجل، وفي قصيدته "قصة فراق" يقول عنها "إن وجه الأرض كوجه الأم المشرق –وهي ترضع آخر أطفالها، وأجمل أطفالها". ويصور العلاقة الزوجية التي يلعب فيها "رجل محتقر" دور السيد ما دام بيده أن يبقى مع المرأة أو ينفصل، وهي قصيدة لا يمكن تلخيصها لأنها توحي بهذا الجو كله إيحاء، وتنشر إحساساً عند السامع أو القارئ بمأساة المرأة في ظل وضع يشبه وضع العبودية.
على أن ناظم حكمت كان ينشد في المرأة رفيقة درب وزميلة نضال، تعلو من المفاهيم البورجوازية لحياة الدعة والخمول. إنه يريدها مناضلة لا تستسلم للمغريات الخادعة، ولا يقعد بها حب الترف عن أن تكون شريكة لرجلها المناضل، ويعاتبها في قصيدته "المارد ذو العيون الزرق والمرأة الصغيرة والسوسنة" لأنها فضلت على مارد يحب كمارد، ثرياً قزماً، في حديقته يتموج السوسن، بعد أن اشتاقت المرأة للراحة، وتعبت في دروب المارد الشائكة.
كان، بكلمة أخرى، يريد المرأة ألا تخاف الحياة فتواجهها بشجاعة، وألا ترهب الموت إذا كان مصير الوطن يتطلب التضحية. وهو لا يزعم أن المرأة لا تخاف أو يجب ألا تخاف، ولكنه يرى أنها قادرة، كالرجل تماماً، أن تتغلب على خوفها أداء لواجبها، حين يفهم الرجل الدور الخطير الذي يمكن أن تنهض به، ويكف عن النظر إليها كتحفة يخشى أن تنكسر، وقاصرة تتوجب حراستها وحمايتها، وحين يشركها في أداء الواجب المقدس، ويضع مسؤولية الوطن أمانة في يديها كما هي أمانة في يديه.
لقد عرف تاريخ الحروب نساء بطلات كما عرف رجالاً أبطالاً. ولعل قصة الفتاة زوايا، الفلاحة السوفييتية التي أعدمها النازيون، واحدة من القصص التي نحتت للمرأة المقاومة تمثالاً من أندر المعادن وأنبلها.
نحتت؟ قل سجلت واقعاً ولم تبتكر خيالاً. فزويا فتاة حقيقية، اشتركت في المقاومة، وقامت بنسف مستودعات الذخيرة للألمان، ثم قبض عليها وعذبت طوال أيام لتعترف بأسماء رفاقها فرفضت، وحكمت بالموت وأعدمت شنقاً، ولم تبح باسم من أسمائهم.
كان النازيون يسألونها فتجيب "لا أعرف، لن أقول" ويهوي السوط على جسمها الغض، وتتبعه سياط كالأفاعي تحت أشعة شمس ثلجية مشرقة، ويحصي الضابط المشرف على التعذيب العدد: مئة، مئتان، ويأمر بإعادة الكرة، ويسألونها فتجيبهم "لا"، لن أقول" وفي صوتها ترن الكبرياء رنين الغضة على الرخام.
لكن صوتها راح يختنق، وعندئذ توقفت عن الكلام. لاذت بالصمت فكان صمتها مدوياً مثل كلماتها. "لا، لن أقول" ولم تقل.. عجزوا عن انتزاع اعتراف منها، فأخرجوها من غرفة التعذيب حاسرة الرأس، عارية الجسد، شفتاها متورمتان، والدماء تسيل منهما لشدة ما عضت عليهما، ويداها مقيدتان وراء ظهرها، وحارس يضع حربته في جنبها. ثم تحلق جنود غلاظ حولها، وأشعلوا الكبريت تحت ذقنها، وخدش واحد منهم صدرها بسكين فسال الدم غزيراً منه، ثم جروها على الثلج إلى المشنقة، جروها على الثلج، وسارت معهم على الثلج حافية لأنهم لم يسمحوا لها أن ترتدي جزمتها، وشنقوها، وكتبوا على صدرها كلمة واحدة: نصيرة!
لقد كانت تضحية هذه الفتاة البطلة مصدر إلهام لكثير من القصائد والقصص، وهي مشهورة في أدب الحرب السوفييتي، وعندما بلغت حادثتها ناظم حكمت وهو في السجن، عثر على المادة التي كان ينتظرها للمرأة التي لا تناضل بزوجها وأبيها وأخيها وابنها فقط، بل تناضل بنفسها أيضاً، تناضل لتسد تلك الثغرة في جدار مجتمع يقاوم بكل فرد فيه، فإذا تخلفت المرأة تخلف نصف المجتمع، وعجزت المقاومة أن تحقق غرضها على الوجه الأكمل. ومن هذه المادة صاغ قصيدته الرائعة "زويا" التي نشرت وترجمت وذاعت كثيراً في حينها.
غير أن شعر ناظم في المرأة يتجلى رحيباً كالمحيط، سامياً كالمثل الأعلى، عندما يتناول زوجه منور، هذه التي كما يقول التقاها يوماً على ضفاف البوسفور، "فكانت قوية كالحديد، ناعمة كالحرير، وكانت جميلة، وستبقى جميلة حتى حين تصبح جدة، ستظل كضوء القمر، ضوء النهار، وسمرة الخوخة قبيل نضجها، بل أجمل ما تكون المرأة في دنيانا.
كان يكتب إليها الرسائل، وينظم قصائد على لسانها موجهة إليه، ويقوم بنظم قصائد جوابية إليها، متسائلاً أبداً: ماذا تعمل الآن؟ بماذا تفكر؟ ولماذا قدر هكذا لأناس عديدين أن يكونوا بؤساء إلى هذا الحد؟ أنا يا منور أفكر بك، ما أسعد أن أفكر بك يا حبيبتي، أن أفكر بك عبر ضوضاء الموت والظفر، أن أفكر بك وأنا في السجن، وبعدما تجاوزت الأربعين! أن أكتب إليك، وأن أتأملك جالسة، في غرفة سجني، وأن أفكر بالكلمة التي قلتها في اليوم الفلاني، والموضوع الفلاني، ليس بالكلمة ذاتها، وإنما بطريقتها في احتواء عالم بكامله.
ما أسعد أن أفكر بك. سأصنع لك علبة صغيرة وخاتماً، وأحيك ثلاثة أمتار من الحرير، وفجأة، أندفع واقفاً، لألقي بنفسي على قضبان نافذتي، وأصرخ في سماء الحرية الزرقاء، بكل ما كتبته لأجلك".
إن المرأة عند ناظم حكمت لم تكن متوازية مع خط القضية كما يقول الذين درسوه. كانت أساس القضية، لها ومعها كل الكلمات، وعلى طريق الكفاح الصعب، في الواقع والخيال، كانت رفيقته: "نحن الاثنين نعلم يا حبيبتي، فقد علمونا كيف نجوع ونبرد، ونقضي من التعب، وكيف نعيش منفصلين ومتصلين معاً. إننا لم نبلغ حد القتل. لم يتهيأ لنا أن نموت، ولكننا نعلم، كلانا يا حبيبتي يعلم، ونستطيع أن نعلم الآخرين، النضال في سبيل قومنا، ومحبة كل يوم أقوى، ومحبة كل يوم أفضل".
ويقول لها وهو وراء قضبان الزنزانة: الباب مغلق هناك، فيتحتم اقتحامه، إذ تتحتم رؤيتك يا حبيبتي. لتكن الحياة مثلك جميلة، ولتكن الحياة صديقة وحبيبة مثلك.
ويضيف: في أيام الخريف هذه –أنا مفعم بكلماتك- الكلمات الخالدة خلود الزمن والمادة –الكلمات المشعشعة كالنجوم- لقد بلغتني يا منور كلماتك- كلماتك المحملة بك- كلماتك يا أمي، كلماتك يا صديقتي- وقد كانت حزينة ومريرة- وشجاعة وبطلة- كانت كلماتك رجالاً".
وكانت منور تزوره في سجنه، وخاصة خلال التوقيف. كذلك كانت تزوره أمه، وكانتا تكتبان إليه الرسائل. ويقول أكمل الدين حسين: "كانت رسائل زوجه إليه تشف عن نفس عزيزة تدرك أنها زوج شاعر عظيم، وكانت تزوره في السجن، مرة بعد مرة في العام، فيكوي ملابسه من المساء، ويدهن حذاءه، ثم ينزل إلى الحلاق من الصباح الباكر.. فإذا جاءت في اليوم التالي، تقابلا في غرفة مدير السجن أو الفناء. وكان ناظم يحب منور حباً لا عهد لزوج بمثله، ويحترمها غاية الاحترام. وكان يراسلها من سجنه، وتعد رسائله إليها من أجمل وأرق الرسائل في الأدب التركي، وهي نثر تتخلله بعض المقاطع الشعرية، وقد كتبها ناظم بروح متفائلة مقبلة على الحياة، عاشقة لها.
كذلك كان يراسل أمه جليلة التي كانت تزوره أحياناً، وهي امرأة وقور فنانة، كانت تجلس ناظم أمامها ساعات طويلة في فناء السجن لترسمه، وبينما يتململ ناظم في جلسته معترضاً على مذهبها في الرسم قائلاً: "أماه! ليس التصوير مجرد محاكاة للجمال، ولكنه إضافة الفنان شيئاً إلى الطبيعة". وكان يثور جدل شديد حول مفهوم الفن بينهما، ينهض ناظم ليجيء بلوحة ويريها لأمه، ويستمر النقاش إلى أن ينشد ناظم أمه آخر أشعاره، فيسكن كل من حضر، وتنصت أمه إليه صامتة في كبرياء، والدمع يترقرق في مآقيها".
غير أن موقف ناظم هذا من زوجه، وما ينطوي عليه من حب واحترام, لم يكن موقف عاطفة مجردة، قوامها علاقة الرجل بالمرأة. كان موقف إنسان تجاه إنسانة، هذا الذي، في المعيار الحضاري، هو الحكم الصحيح على درجة الأنسنة لدى الرجل. وقد عرف كيف يوحد حبه لزوجه بحبه لوطنه، بحبه لرفاقه، بل إن هذا الحب الزوجي كان عنصراً في الحب الرفاقي، كالجزء الذي يكون عنصراً في الكل. وفي قصيدته "المرأة والبنفسج والرفاق"، يضع نفسه موضع رجل يريد أن يشتري لزوجه باقة من البنفسج، لكن رفاقه كانوا جياعاً، فآثر أن يطعمهم بثمنه.
يقول أراغون في إحدى قصائده إلى إلزا:
"ما من حب يخلو من الألم- سواء حبك أم حب الوطن- وذات يوم يا إلزا- ستكون أشعاري تاجك- وستبقى من بعدي كي تحمليها تاجاً".
وقد بقيت قصائد ناظم حكمت تاجاً على رأس منور الزوجة لكنها، قبل ذلك، ظلت تاجاً على رأس منور المرأة، لأن هذا التكريم كله ينصرف إليها أساساً.
وفي عام المرأة هذا، يصبح هذا التاج الذي وضع على رأس أيما امرأة في أيما بلد، هو تاج المرأة في كل البلدان، لأنه اعتراف بما قدمت من خدمات في الحمل والولادة وتنشئة الأطفال ورعاية الأسرة، وبما كانته هي نفسها من نبع إلهام في الفن، وطاقة كفاح في الواقع، ومشاركة في الحروب والثورات، وعمل متواصل على تغيير العالم ليكون عالماً أفضل، تنتفي منه عبوديتها، ويفسح لها في مجال البناء لخير الجميع.
1-محاضرة ألقيت في حلب ودمشق.