ق ق ج.
فصام.
على كرسي خشبي قديم ،جلس يتأمل يده اليمنى ،يخاطبها في صمت كبير…
هي نفس اليد التي صفقت كثيرا هناك على موائد الغدر…
هي التي خنقت أرواح الأبرياء…
بها،كان يوشح وجنة الربيع المزهرليحيله الى رماد…
رفعها للقسم حين تأبط حقيبة الوطن.
أعادها الى غمدها الصدئ ورمى القسم في بئر بلا ماء…
اليد اليمنى التي يتأملها الان ، تحاكمه ،تتنكر له ،تعامله بقسوة كبيرة كما كان يعاملها في زمن الكفر .
قبل سبع سنوات بالضبط ،ظهر عقوقها ،طفا خبثها على سطح الحقيقة ،لم تعد تميز بين الضحايا ،فسرقت في ليلة لا نجوم فيها ،روح ابنه اليافع في لحظة غضب …
هاهو الان ينظر إليها ،يعاتبها ،تتساقط قطرات ساخنة عليها فتلفظها بسرعة ،عيناه الان في لحظة وداع أخير…
وضعها برفق على الدرج الإسمنتي البارد ،ثم فصلها عنه إلى الأبد.
اعتقال…
خلف تلك الجبال العارية،تئن امرأة وحيدة.الفجر بداخلها معتقل.
المساجد مغلقة…
الليل ما زال يمتد داخل النهار.
وقبل أن تعد أمي فطور الصباح ، بزغ الفجر يحمل كفنا موشحا بالسواد.
ساحة.
كان كلما يلفظه الزقاق الضيق ،تتلقفه الكلمات المنتشرة على إسفلت الساحة الكبيرة
،تعرض مفاتنها أمامه ،تريده أن يكتبها…
عشرون سنة وهو يكتب ،وما زال.
بائع الأثاث المستعمل يفرغ عربة تحمل أثاثا كان يوما هدية لامرأة انتحرت قبل أسابيع.
رجال ينتظرون رزق أطفالهم تحت سقف بيت قديم.
شاب يغرس وجهه في سيجارة محشوة بالحشيش يمتصها بلهفة.
طفلة تنظر بحزن بريئ إلى الحلوى التي احتجزها زجاج البقال .
سيارات مركونة بلا نظام ،وحارس يتحسس بعض النقود في جيبه المتسخ.
فتاة تحمل كتبها وتنصت الى الصوت الآتي من خلف هاتفها النقال ،تطلق ضحكات صاخبة فيها كثير من اللذة المصطنعة.
الساحة تحلم بالخلود،تنظر إليه وهو يشعل سيجارته ،تستعطفه أن يكتبها >ات يوم .
رفع عينيه فجأة على صوت صراخ أنثوي كبير…كانت شفرة الحلاقة قد رسمت أخدودا عميقا في وجهها الشاحب ،زوجها الذي تحول إلى وحش هارب من الجحيم ،يصرخ في وجهها الممزق :
-لقد قتلت رجولتي أيتها الفاسدة…
الساحة الآن تنظر إليه وهويتحسس القلم النائم في معطفه القديم.ها هو يقرر أخيرا بعد عشرين سنة من الإنتظار …أن يكتبها.
في غرفته الصغيرة ،كان يمزق كتبه في صمت.
حلم يكرر نفسه.
من عادته أن لا يحلم كثيرا ،لذلك أدمن على السهر هروبا من الكوابيس.
حجة النوم كانت أقوى،فاستسلم لها مرغما…
رأى في المنام حبيبته تصارع موج البحر المتلاطم من كل الجهات…خندق سحيق يمنعه من احتضان الماء لإنقاذها .صوتها يصطدم بصوت النوارس ،ليغدو نشيدا للموت القريب.
يتحول الخندق إلى صحراء قاحلة ثم إلى أدغال متشابكة ،تغيب صورتها فجأة عن عينيه ،يصرخ عاليا يناديها…
تمتد يد حنون لتتلقف صراخه ،يفتح عينيه على وجه أمه ،وتلتقط أذناه أصوات العمال الآتية من الخارج تردد شعارات عيد الشغل …
ابراهيم ابويه
2009