مسرحية اللامعقول برداء الواقعية الرمزية طقوس وحشية: بين شعرية الأداء وجماليات المعانم المسرحية - الدكتور تيسير الآلوسي
وحشية هي تلك العوالم التي نحياها بغير جماليات حتى لو كانت جماليات "القبح" التي ندرسها في بعض اتجاهات الشعر الاحتجاجية أو الصور المسرحية المتمردة الجديدتين ... وها نحن نبحر اليوم في سفائن الأدب والفن
يجتمعان في جمالية نص جديد يستولِد لنفسه خصوصية التعبير من اعتمادِ ِ لشعريةِ ِ في أداء خطابه اللغوي وتعميدِ ِ لجمالية في أداء خطابه المسرحي البصري.
المسرحية بين أيدينا هي "طقوس وحشية" وكاتبها هو العنيد في تمرده وروحه المسرحي المجدِّد المسرحي الأكاديمي قاسم مطرود وهو صاحب للروح نوافذ أخرى ورثاء الفجر والجرافات لا تعرف الحزن، هذه وغيرها نصوص مسرحية أخذت مكانتها وحملت تشخيصها المذهبي لا من انتماء قسري أو إلحاق وتبعية تلتزم شروط مدرسة أو اتجاه بقدر ما كان لها من هويتها المخصوصة عطاؤها ومحدداتها...
وللولوج إلى عوالم السيد مطرود و"طقوسه الوحشية" ينبغي أن نستعيد عددا من معطيات الخلفية الفلسفية لاتجاه التمرد والاحتجاج في المسرح الحديث حيث الغضب والاحتجاج والقسوة وحيث اللامعقول أو العبث [ABSURD]اصطلاحا معبّرا عن اتجاه مسرحي كان مطواعا تعبيريا لحالات الإحباط بمجابهة المصير البشري والشعور بعبثية الفعل الإنساني أمام مصيره المحتوم بأساه وتراجيدياه الأزلية الأبدية!
فمنذ حدود القرن العشرين بداية ومنتهى، كانت الحروب الكونية والانقسامات الداخلية ومن ثمَّ الحروب الأهلية وتلك الإقليمية المهولة تفتك بحقوق الإنسان وكامل وجوده وبتمام تفاصيله؛ ولقد كانت تلك المشاهد المأساوية تسطو على العلاقات البشرية وتهيمن على الذاكرة الجمعية والفردية ضاغطة عليها حدَّ السحق!
ولقد نجم عن هذه الأجواء في إطار المنتج الثقافي والجمالي عدد من أشكال التعبير الأدبي والفني ومدارسهما الجمالية المستندة إلى تيارات فكرية وفلسفية وعقائد أيديولوجية اجتاحت مجتمع القرن العشرين وهيَّأت لأجواء الألفية الثالثة التي نحياها اليوم..
وكان من ذلك سريالية صورة الحياة وعبثيتها أو لا معقولها؛ فإيقاع التخريب والتدمير والضغط المتناهي المهول بالتأكيد خلق ويخلق اللاتناغم في إيقاع الحياة وموسيقاها أو امتناع الانسجام مع المنطق العقلي ورفض التناسق والتناسب كونهما قيمتين جماليتين يجري سحقهما أو تجاوزهما على صعيدي البنية ومضامينها..
وهكذا وجدنا المسرح ينطق في استجابته التعبيرية عن مدرسة اللامعقول المعبرة عن "ورطة الإنسان في الكون" كما يقول جون رسل بتلر في معجم بنجوين للمسرح أو كما يشخصه ألبير كامو في أسطورة سيزيف بالقول: "إنَّ مصير الإنسانية يمثل [انعدام هدف في وجود غير منسجم مع محيطه أو لا معقول في بنائه حركته أو معطيات علاقاته بالآخر...]"
إنَّ مشكلة البحث في الهدف المنشود إنسانيا أو المصير المؤمل أو المنتظر أو المحتوم تكمن في وعي مبدعي الأدب والفن بأنَّه يظل هدفا أو مصيرا محكوما بالتأزم حدّ ضغط الانفجار وتلك هي الخصيصة التي ركز عليها مسرح الغضب والاحتجاج والقسوة الذي مثله النقد بأنبوبة غاز مضغوطة فيما يتسع مسرح اللامعقول لأمور أبعد من زاوية توصيفية محددة بالشد والتوتر.. فصموئيل بيكيت ويوجين أيونسكو وآداموف وهارلود بنتر يمنحوننا فرصا للتعاطي مع شفرات مضمونية تتحكم بالشكل الفني لأعمالهم ومن ثم يمنحوننا قيما جمالية تحمل تناقضات وجودنا فنحن نستمتع بقراءة درامية بصرية تتناول واقعنا كما هو من جهة انشطاره وتقاطعه معنا وعليه هناك منطق في لا منطق التناول الدرامي أو بالأحرى في لا معقول التجربة المسرحية المقدمة ومعالجتها لعميق مأساتنا البشرية المعاصرة..
ولدينا إذا ما عدنا للحالة العراقية أكثر من توصيف ضغط أنبوبة الغاز حيث المشهد العراقي المليئ بالحروب وأشكال السحق والاستباحة والاستهتار بكل وجود إنساني وهو ما عاشه المبدع العراقي المسرحي وجسده بوضوح في أعماله وإن بتنوعات بوهيمية أحيانا كجزء من الاستجابة للوضع كما هو عليه..
ولقد أوجد مثل ذاك الوضع فسحة متسعة لمفاجآت الشكل الدرامي ليس للجمهور المسرحي حسب بل للنقاد أنفسهم.. حتى أن نقاد المسرح الإنجليزي أشاروا إلى أنَّ كتاب المسرح جعلوا من أعمالهم مركز تجمع لصراع الخيال البشري الدائم ضد القناعة الدينية وعدم الاكتراث الخلقي والامعية الاجتماعية" [مقدمة الدراما التجريبية، لندن، 63، صفحة 9 عن موسوعة المصطلح النقدي مج2 الصفحة 18] ما يلتقي معه دراما "طقوس وحشية" من جهة تكسير الثوابت والمطلقات والبديهيات المتكلسة كما سنرى في قراءتنا العمل ذاته..
ولعل هذا التمرد المزدوج شكلا ومضمونا يشتمل على التوظيف اللغوي الذي يتميز به مسرح اللامعقول حيث عميق الصلة والارتباط من جهة اللغة وهو ما يشبه رؤية إبسن بالخصوص في الخلق الشعري في كلام الواقع البسيط غير المستلب كما يعبر كينيث ميور في كتابه المسرح المعاصر [الصفحة113 ].. ومن جهة البناء والتشكيل تأتي حالة تعدد الشخوص منصبة في جوهر العمل الدرامي وكأنه مونولوجا يتشظى في التعددية الظاهرة أو الطافية بصريا..
ونحن سنقرأ شعرية العبارة عند قاسم مطرود ووحدة الشخصية في تعدديتها وتشظيها, مثلما سنتلمس كون ما يصادف جِدّة في الشكل سيصادف تجديدا في التناول حيث نجابه بموضوعة الالتزام طبعا ليس الحديث هنا عن الالتزام السياسي الحزبي المحض بل الالتزام بمسألة بعينها أي إيفاؤها حقها إذ ليس معنى افتقار اللامعقول الدرامي إلى الموضوع أو وحدته التقليدية وإلى الخاص بدل العام وبدل التعويم والتعميم بمتعارض مع البحث عن الأثر في المتلقي ومن ثم الكشف عن موقف جوهري لا يقل في المغزى الاجتماعي عن المسرح الواقعي الملتزم.. بل إننا يمكن أن نقول: إن العموم في اهتمامات اللامعقول بموضوعه هو ترشيح لثبات أعمق وأطول من تلك الأعمال التي تعكس واقعيا وبشكل مباشر موضوعها ما يجعلها عرضة للتقلبات السياسية منها والاجتماعية...
وهنا نستذكر القيمة الإبداعية لأعمال تسوق معطياتها الجمالية بمثل هذي الصياغة التي نجدها في طقوس وحشية وعدد من أعمال مطرود الأخرى.. حتى عندما نجابه بتلك الصعوبة في خلق التفاعل مع (التعاطف) مع شخصيات مسرح اللامعقول، لأنها دوما تحمل دوافع خفية وتصنع أفعالا بهالة من الضباب والعتمة وهو الأمر الذي يحتاج منا إلى نباهة التلقي والارتقاء للفعل إيجابيا في التفاعل مع تلك الشخصيات ومن ثم الانتقال إلى موضوعاتها ومقاصدها التي قد نُفاجأ في لحظة وصولنا إلى المنتهى الزمني للمسرحية حيث تبقى تلك الشخصيات تقدم وتفتح لنا آفاقا جديدة للتناول والمعالجة وحوارا جديدا يُخلق في دواخلنا لاتخاذ قرار بشأن لاحق مصيرنا أو تفاصيل غدنا ووقائعه المؤملة أو المنتظرة...