" رثاء الفجر " نص إشكالي ملتبس جسد على الخشبة بجمالية سينوغرافية متميزة - د. وطفاء حمادي هاشم
إن التجربة المسرحية بالمعنى المتعارف عليه،حديثة العهد في سلطنة عمان،لقد عرفت السلطنة المسرح في العام 1960، ولكنها لم تشأ التوقف عن حدود هذه المعرفة،بل رغبت في الاستمرار والتطوير ،
تلبية لطموحات الشباب و تحقيقا لحلمهم المسرحي،وتوقا للتشكل ألكياني ضمن الحركة المسرحية العربية.
يسعى الشباب العمانيون للغوص على التجربة المسرحية برؤية معاصرة وحداثية، ويحاولون الاحتكاك بالتجارب المسرحية العربية،وهم يشاركون في المهرجانات المسرحية،ويقدمون مهرجانهم المحلي الأول والثاني بالتنسيق مع وزارة التراث والثقافة ، يستضيفون خبرات مسرحية عربية عاشت تجربة مسرحية متراكمة،وذلك بهدف خلق علاقة تفاعلية مع تجارب الآخرين،والإفادة من هذه التجارب.
وفي مهرجان هذا العام تقدم عدة عروض مسرحية اخترت منها عرضا هو" رثاء الفجر "للمؤلف والمخرج العراقي قاسم مطرود،وللمخرج يوسف بن محمد البلوشي.
إنه نص إشكالي ، يدور حول ثيمة تنتمي إلى مسرح العبث والواقعية المعدلة ، التي تستقي موضوعها وثيمتها من الواقع وتصوغه برؤية عبثية.
من الاحتفالية وطقوسية الموت الذي يملأ جنبات الخشبة بنى قاسم مطرود نصه.
وهو لم يكن بمثابة فكرة مصحوبة بالخوف والفزع،إنما كان هو الشخصية الرئيسة في النص الدرامي وفي نص العرض،ومورس حضوره بطقوسية خاصة:الشموع،وأعواد البخور،والنواح الصامت والمفجوع،والثياب البيضاء ، للدلالة على الكفن الأبيض،لباس الموتى،الدفانون،القبر ، السرائر التي تحولت إلى شواهد قبور .
هذا فضلا عن الحوار الذي يكرس هذه الطقوسية ، فبعض عبارات الحوار تسير باتجاه هذه الطقوسية : توزيع الطعام عن روح الميت ، الطلب إلى الناس لا بل رجاؤهم بقراءة الفاتحة على روح الميت،غسل القبر ، وتنظيفه ولا سيما في فترة الأعياد ، ويتوج ذلك كله الأوراق التي تلقى وبكثافة على الخشبة المسرحية،لتدل على أسماء الموتى على شخصيات من التاريخ من القرن التاسع ، وكان لهذه الأوراق حضور معبر وأساسي في العرض يترافق مع ظهور شخصية لا ملامح إنسانية فيها ولا غير إنسانية،هي السلطة الخفية غير المعلنة،أرادها مطرود سلطة دينية تحرك الأمور بالحرب،وتودي بحياة الإنسان،وهي هلامية لا مرئية .
لكن المؤلف يؤثر أن يحيط فكرة الموت أو تيمته من كل جوانبه،مع ذكر أسباب الموت بالسيف أو بغيره،إذ تعددت الأسباب والموت واحد.
ساق مطرود نصه في سياق عبثي،من حيث البناء وحضور الشخصية ودائرية حركيتها،وحركية الحدث،هذا الأمر استدعى من المؤلف سوق الأحداث إلى النهاية،فنبدأ من النهاية عندما تدخل المرأة التي تعاند الحياة،وتقاوم الأطباء لتذهب إلى حتفها لملاقاة حبيبها :
"وأخيرا جئتك،لن أبكي هذه المرة تعذبت،تعبت كثيرا حتى وصلت إليك ....تدخالنص،باء والأصدقاء والأقارب للوقوف أمام مجيئي ..."( النص، ص. 1)
يسوق مطرود هذا الحدث في سياق التباسي،بين الدخول إلى المقبرة للممارسة الطقوس في احتفالية الموت،وبين الرغبة في الموت والموت الفعلي،ليزيل هذا الالتباس بقول المرأة لن أبكي هذه المرة.وينسحب الالتباس على مسارات النص الأخرى، على فكرة الموت التي أصابت الأب والابن، من منهما الذي مات في الحرب، وتنجلي الفكرة باحتضان ألام للبذلة العسكرية.
إن المعاني الملتبسة في النص استخدمت للدلالة على ثيمة الموت المرتبطة بسلطة خفية هلامية تحرك الحدث، وتطبع النص بسمات وشروط فنية تحدد مواصفات الحدث والزمان والمكان والشخصية ، وبالنسبة إلى الزمن ، فقد أطر مطرود النص بزمنين: الزمن الماضي والحاضر حيث يشكل الماضي حيزا كبير في مسار الحدث ، ولكن في سياق تداخلي التباسي مع الحاضر، وقد أوجد مطرود حلا دراميا لهذا المسار هو الاسترجاع ، وقد استخدم هذه التقنية بدقة مما استدعى استنفارا للمتخيل ليعيد ترتيب الحدث في سياقه الدرامي .
في الاسترجاع برز عدد من الشخصيات فكانت الحاضرة الغائبة الفاعلة والمؤثرة في خلق مناخ الاحتفالية بالموت:الجيران،والمارة،والابن الشخصية الحاضرة / الغائبة في هذا النص والتي خلقت حالة درامية امتلأت بالشجون والألم .
ولكن نرى أن هذه الشخصيات العبثية / الواقعية لا تنحو نحو التطور الدرامي ولا النمو لتطوير الحدث فهي شخصيات ثابتة متلقية ، مستسلمة لقدرها،مأسورة بين الماضي والحاضر الذي جسدته فكرة الموت.ويبقى الإطار الوحيد لحركتها هو تلك المسافة المحددة بين الماضي / الحياة والحاضر / الموت .
ولكن هذه الحركة تنتهي من حيث تبدأ إذ تبدأ بدخول المرأة إلى الخشبة المسرحية وتنتهي ببقائها في المقبرة،وبين الدخول والبقاء تعمل الذاكرة على استرجاع الأحداث، إلى جانب ذلك اعتمد مطرود عل الأغراض/الأدوات في نصه،فهو يعد نصه للخشبة المسرحية،ويدل على ذلك طبيعة الحوار المبسطة ، حيث لا مجال للفذلكة اللغوية، ولكن بما أن النص ينزاح نحو الواقعية،فنجد الحوار معبرا عن الحالة الواقعية / الموت، والمعاناة اليومية التي تعيشها الزوجة على فراق زوجها ، وجع الوحدة ، والاشتياق إلى هذا الرجل / الزوج / الحبيب . ثم الأمومة التي تمارسها المرأة بشفافية وصدق وواقعية ،فتفجر حنينها إلى حضن ولدها،والتوق إلى إرضاعه،جميلة الصورة التي رسمها قاسم :
" تصور أني أرضعته من صدري حين أنزلوه من النعش ، شعرت أنه جائع " النص ، ص. 13)
كما أن المؤلف لم يصور لنا الموت بقسوته، بل هي الحياة القاسية، هي الحرب، هي السلطة،الشاب الذي قطعت رجلاه،وهو ينظر إليهما، تخللت هذه القسوة النص ولكنها لم تسيطر على مناخه،بل اندمجت ضمن صورة اللقاء /لقاء الأحباء بعد الموت أليس هذا ما يتوق إليه الإنسان، وينجلي ذلك عندما يعبر كل منهما عن شوقه للآخر.
ببراعة صور لنا قاسم العلاقة مع القبر/السريران وهنا يتعمق الالتباس ليدمج القبر بالسرير، فهو نظيف ومبخر ومعطر .
ويختم قاسم نصه بصورة تجسد استمرارية الموت واستمرارية تساقط الأوراق عند أقدام السلطة الهلامية / الحرب.