أشتغلُ شِعرًا تحتَ ضوءِ القلبِ وبرْقِ المخيلةِ وشعاعِ الذّاكرةِ! - حوار: أيهم أبو غوش
محمّد حلمي الرّيشة شاعرٌ يشتغلُ على القصيدةِ منذُ أكثرَ مِن ثلاثةِ عقودٍ، يعملُ بهدوءٍ وعزلةٍ كي يُتقنَ قصيدتَهُ كلّما جاءتْهُ مرّةً،
حيثُ يُؤمنُ أنّ الإبداعَ عملٌ فرديٌّ، لهذا فهو يحتملُ العزلةَ كشاعرٍ، لكنّهُ لا يحتملُ عزلةَ الشِّعرِ. كانَ منذُ بداياتِهِ ولم يزلْ خارجَ السِّربِ مهما كانتِ الظّروفُ، لأنّهُ دائمَ القلقِ على قصيدتِهِ التّاليةِ، لا يُحبُّ الظّهورَ، لأنّهُ يُفضّلُ الشّعرَ على الشّاعرِ، لا يكتبُ زمنَ الألمِ، لأنّ هذا ضدُّ التّأمّلِ الإبداعيِّ. شخصيّةٌ متفرّدةٌ متمرّدةٌ بصمتٍ وحكمةٍ، فلا صخبَ لها ولا ضجيجَ، لا يحتملُ التّأطيرَ الثّقافيَّ مهما كانَ نوعُهُ، لأنّهُ يعتقدُ أنّهُ يُعطِّلُ الإبداع ويُضعفُهُ، ويُلهي المبدعَ عن إبداعِهِ. حياتُه شعرُهُ الّذي يكتبُهُ، منطلقًا مِن ذاتِهِ، حيثُ يؤمنُ أنّها مركزُ الإبداعِ. أفضلُ صفةٍ تناسبُهُ أنّهُ ناسكُ شعرٍ بامتيازٍ، رغمَ أنّهُ لم يزلْ يحلمُ أن يكونَ شاعرًا!
* تعملُ بهدوءٍ دائمًا وبعيدًا عن الأضواءِ لماذا؟ هل تكرهُ الأضواءَ والضّوضاءَ؟
- أنا أشتغلُ شِعرًا تحتَ ضوءِ القلبِ، وبرْقِ المخيلةِ، وشعاعِ الذّاكرةِ.. كلُّ هذهِ بحاجةٍ إلى الهدوءِ الّذي يحتضنُ التّأمّلَ مِن أجلِ الإبداعِ، لهذا أنا لا أكتبُ لتظهرَني كتاباتي، ولستُ أريدُ هذا الظّهورَ الشّكليَّ، بل أريدُ أن أُظهِرَ كتاباتي، لأنّها وسيلةُ الهدفِ مِن الكتابةِ. فعلا أنا أكرهُ الصّخبَ والأضواءَ، لأنّها تُعتمُ النّتاجَ وتُظهرُ المنتِجَ! كثيرٌ من الكتبةِ الكذبةِ يمسحونَ بأوراقِ كتاباتِهم عدساتِ المصوِّرينَ، وزجاجَ الأضواءِ، ويُديرونَها نحوَهم بشكلٍ مفتعَلٍ، فهُم معنيّونَ بشُخوصِهم أوّلاً وآخرًا، لهذا فهدفُ الكتابةِ وهي في غالبِها مكرّرةٌ أو ممجوجةٌ، هو في جعْلِها سُلّمًا نحوَ الظّهورِ؛ قد يسحرونَ الآذانَ والأعينَ في البدايةِ، لكنّهم لا يستطيعونَ أن يصِلوا القلبَ مُطلقًا، لهذا ما مِن إبداعٍ في نِتاجِهم، لأنّ الإبداعَ أعلى مِن أضوائِهم الشّخصيّةِ، وأقربُ إلى الحقيقةِ والجمالِ والإنسانِ الإنسان!
* هناكَ مَن وَصَفكَ أنّكَ نوستالجي مُتمرِّدٌ على العالمِ، لماذا أنتَ كذلكَ؟ وعلى ماذا ومَن تتمرّدُ في هذا العالمِ؟
- كلُّ إنسانٍ يجبُ أن يكونَ متمرِّدًا، ويجبُ عدمِ تعطيلِ هذهِ الصّفةِ في النّفسِ البشريّةِ، فالخنوعُ والرّضا والقناعةُ السّلبيّةُ، كلُّها وغيرُها، تجعلُ الإنسانَ كائنًا عرَضِيًّا، وهو ليسَ كذلكَ طبعًا؛ لأنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى كرّمَ آدم، وخلقَهُ على أحسنِ صورةٍ، وشكّلَهُ أجملَ تشكيلٍ، وقوّمَهُ أحسنَ تقويمٍ، كذلكَ كي لا يكونَ عُرضةً لانتهاكِ إنسانيّتِهِ مِن كائنٍ بشريٍّ فقَدَ إنسانيّتَهُ، لهذا، فالتّمرُّدُ الإيجابيُّ ضرورةٌ بشريّةٌ دائمًا، فما بالُكَ بالشّاعرِ، أو المبدعِ عمومًا؟ لا بدَّ مِن تفعيلِ هذهِ الحالةِ باستمرارٍ، لتقويمِ ما ينحرفُ مِن الحياةِ، وما يُبعِدُ الصّدقَ والجمالَ والحُبَّ عنها، لأغراضٍ شخصيّةٍ بحتةٍ. بالنّسبةِ لي، أنا دائمُ التّمرُّدِ على سلبيّاتِ الحياةِ، شِعرًا وشاعرًا، وأدعو للإبداعِ في كلِّ شيءٍ يكونُ لصالحِ الحياةِ، كي تبدو أصدقَ وأجملَ وأنقى، لهذا أتمرّدُ بِدءًا مِن الصّوتِ/ الكلامِ، وليسَ انتهاءً بالصّمتِ/التّأمُّلِ.
* قلتَ في حوارٍ سابقٍٍ: لستُ أُحدِّدُ لمَن أكتبُ ، أشعاري طيوري المريضةُ بالحُبِّ، أُطلِقُها مِن عزلةِ القلبِ إلى فضاءِ الفراغِ، لا أُريدُها أن تعودَ إليَّ، خشيةَ أن أُفسِدَها بوحشةِ الحنينِ"! أليسَ غريبًا أن لا يعرفَ الشّاعرُ لمن يكتبُ؟
- أن تُحدِّدَ لمن تكتبُ، يعني أن تكونَ المُرسِلُ والمُستقبِلُ في آن، أو أن تكونَ صدى الرّسالةِ! بمعنى؛ أن تعرفَ الجهةَ الّتي تكتبُ لها، لن يعدو هذا خطابًا شخصيًّا ولو كان إبداعًا. الشِّعرُ والكتابةُ عمومًا، هي طيورٌ (ليستْ حمامًا زاجلاً كما يريدُها الكثيرون)، تُطلَقُ في فضاءاتِ الرّوحِ والقلبِ والعقلِ، لهذا فهي لإنسانٍ في هذه الحياةِ، وليستْ تخصيصًا لإنسانٍ، أو جهةٍ معيّنةٍ، أو ما شابهَ ذلكَ، وخشيتي عليها نابعةٌ مِن أنّني لستُ أريدُها أن تعودَ إلى عزلتي الّتي انطلقتْ منها؛ أنا أحتملُ العزلةَ شاعرًا، لكن لا أحتملُ عزلةَ الشِّعرِ مُطلقًا.
* قلتَ إنّكَ لا تكتبُ الشِّعرَ مِن ألمٍ، ولا تُحبُّ أن تُقدّسَ الألمَ وتتغنّى بهِ، لكن، أليسَ الشِّعرُ النّابعُ مِنَ الألمِ والقلبِ يكونُ أصدقَ؟
- لا أكتبُ في وقتِ الألمِ، لأنّهُ مدى لحظاتٍ ساخنةٍ وكاويةٍ، فكيفَ يُمكنُ الشِّعرُ في وقتٍ كهذا، خصوصًا، وأنّ ذلكَ الوقتَ خارجَ نطاقِ التأمُّلِ الشِّعريِّ، وبالتّالي خارجَ نطاقِ الإبداعِ وديمومتِهِ؟! ما يُكتب فيه يكون تسجيلاً وتصويرًا فوتوغرافيًّا، أقربُ إلى التّأريخِ منهُ إلى الإبداعِ. أنا قلتُ وأقولُ: "السّيفُ للشّرِّ.. الطّيفُ للشِّعر"؛ أي يجبُ مقاومةُ الشّرِّ بالفِعلِ وليسَ بالقولِ، لأنَّ الكتابةَ وغيرَها مِن الفنونِ الإبداعيّةِ، ما عادتْ تُوقِفُ الأشرارَ في هذا العالمِ، أو حتّى تحُكّ ضمائرَهم، أو تُخجِلهم في أدنى هدفِها.
* هل تعتقدُ أنّ للشِّعرِ زمانًا ومكانًا؛ بمعنى هل يوجدُ وقتٌ ومكانٌ تكتبُ فيهِ الشِّعرَ؟
- ما مِن زمانٍ ولا مكانٍ لكتابةِ الشِّعرِ، هذا لأنّهُ شِعرٌ، ولأنّهُ يختلفُ عن كافّةِ الفنونِ الكتابيّةِ وغيرِ الكتابيّةِ الأخرى. الشِّعرُ يَحضرُ مِن تلقاءِ نفسِهِ، ولا يُخبرُ عن موعدٍ، لهذا على الشّاعرِ أن يكونَ عاليَ الانتباهِ لهُ، إذ لهُ إشراقةٌ أولى، على الشّاعرِ أن يكونَ مُستعِدًّا لها، وإلاّ انطفأتْ أمامَ عينيْهِ. بالنّسبةِ لي، فأنا ضمنَ هذه الفكرةِ، فلا مكانَ ولا زمانَ لكتابةِ الشِّعرِ، لكن لي اللّيلُ كي أُراجعَ ما كتبْتُهُ، أي حينَ يمنحُني اللّيلُ الوعيَ الّذي غابَ، حينَ كانَ الشِّعرُ يُهطِلُ صوَرَهُ على الورقِ الأصفرِ بمدادٍ أزرق.
* لماذا دائمًا تنحى إلى صياغةِ تشكيلاتٍ مختلفةٍ في إخراجِ نصِّكَ الشِّعريِّ؟ ولماذا تميلُ بالأكثر إلى الغموضِ؟
- أنا لا أكتبُ شِعرًا أُسمّيهِ الشِّعرَ التّشكيليِّ، لهذا فإنّ الشّكلَ البَصَريَّ في النّصِّ الشِّعريِّ له علاقةٌ مهمّةٌ جماليّةٌ، أي إبداعيّةٌ أيضًا، لأنّهُ مُتعلِّقٌ بالصّوَرِ، فهو كتابةٌ بالصّورِ، إذ ثمّةَ علاقةٌ وطيدةٌ بينَ الشِّعرِ والرّسمِ التّشكيليِّ، خصوصًا في الشِّعرِ الحداثيِّ، لهذا تأتي صياغةُ التّشكيلاتِ الفنّيّةِ مُتعلِّقةً بحركةٍ/حركاتِ المقطعِ، أو القصيدةِ كلّيّةً، لأنَّ النّصَّ الشِّعريَّ الحداثيَّ نصٌّ قرائيٌّ وليسَ نصًّا سماعيًّا، وبالتّالي مِن الصّعبِ متابعةُ حركةِ تشكيلاتِ الصُّورِ المُتخيّلةِ والمُتوالدةِ والمُتناميةِ، لهذا يَعتقدُ الكثيرونَ أنّ لغتي الشِّعريَةَ فيها الكثيرُ مِن الغموضِ، معَ العِلمِ أنّها لغةُ رسمٍ، أي لغةٌ بصَريّةٌ، بحاجةٍ إلى قارئٍ مبدعٍ أيضًا، كي يشتغلَ عليها مِن حيثُ التّأويلِ والتّفكيكِ، وإعادةِ تركيبِ النّصِّ مُجدّدًا، كأنّه يُعيدُ تمثيلَ دوْرِ الشّاعرِ، لكن بأسلوبِهِ الخاصّ.