متاهة - رشا فاضل
كانت السماء تمطر بغزارة ، وكأنها تشارك ليلى الحفل البهيج كان المطر يشتد كلما إزدادت أصوات الموسيقى صخبا ً وجنونا ً .
هاهي سيمفونية الطبيعة تشترك مع سيمفونية الأرض ، لعزف لحنين متضادين متحدين في آن واحد . كانت الموسيقى رغم صخبها تشبه لحنا ً جنائزيا ً يقطر حزنا ً ويفيض وداعا ً . كانت هي تجلس كالتماثيل الهندية العاجية ؛ في مقعد ليست فيه ؛ بثوبها الأبيض المخملي . عشرات الفتيات الصغيرات يحملن بقاياه . يلتففن حوله كالملائكة حين يحيطون بالمحتضر ، وهو يرقب كفنه بحسرة ٍ دامية ٍ .
الراقصة ترقص . ثمة من يطلق الزغاريد ، والأمير يتطلع إليها بنهم شرقي ، بينما يجلس التمثال العاجي ، وهو يردد بآلية وخازة ( شكرا ً ) لكل من يهنئ بالصيد الباهر .
يزداد صخب الموسيقى ، تصدح معه أصوات غنائهم ، تستمر عيناها على أميرها . يبدوا مبتهج الوجه وهو يمارس رغبته المجنونة بإنوثتها الباذخة متحفزا ً كالنسور للإنقضاض على الفريسة النتظرة . تشعر بإنها زهرة ٌ ، توشك على التعري من أوراقها ، وسرعان ما بدأت تعاني برد العراء تغتالها الرغبة في أن تنسل من بينهم لتغيب في الدمعة المشتهاة .
تعود لدائرة الوعي ، لحفلهم البهيج ، لضحكاتهم الصفيقة ، وهم يبصقونها في وجهها . تنصت
لأشياء كثيرة ٍ تتهاوى في جوفها . تنصت لصدى الرحيل وإنكسار المرايا ، تتساقط على بعضها كما يتساقط الورق اليابس تحت رحمة ِ رياح ٍ خريفية لاترحم موته .
ما زالت الغجرية تتمايل بغنج ٍ ودلال ٍ مصطنعين . هي ترقبها باشمئزاز ٍ دامي النظرات .. ترقبها والدموع تهمي في الأعماق شلال حزن ٍ لا ينضب .
يتمعن الأمير في الغجرية . يكاد أن يلتهمها بنظراته ، وهو يفكر بأي جزء سيبدأ الوليمة الليلة ، بينما يخفق القلب الأعزل وحده ، وهو يردد أنشودة الفرح العقيم .
( أفرح ، يكفي أن أحدنا سيكون سعيدا ً ، وغن كان الآخر يهيم في ساحات ذعر وغربة ، تستوطن الوجوه والزوايا . يدوس على قلبه ذلك الخاسر الوحيد ، مصرا ً على تكويره ليكون حجرا ً )
تغمض عينيها لترى جيدا ً . ترى طفلة ً تجوب الوجوه الموحشة بحثا ً عن ملامحها وصوتها وضفائرها .
تمعن النظر في الغجرية ( استمري بتمايلك وانت تنتشين بمنظر اللعاب وهو يسيل من الأفواه المفتوحة المتطلعة بنهم ٍ للقليل المختبئ تحت عري ثوبك . سأنتهي من دفن ملامحي ) .
تسير الغجرية من أمامها . ينهض الأمير من مكانه معلنا ً إنتهاء الحفل ، ليبدأ الحفل الحقيقي .
الكوابيس تتوالى . الأفكار تتسارع . تمتلأ ذعرا ً !
يسير الأمير وهو يضغط على يدها بقوة ترفع معنوياته بإبتسامة ٍ ميتة ٍ تشعر بدنو لحظة الغياب الذي لاعودة منه .
( خائفة ؟! خائفة ، وها هي الروح تتناثر قطعة ً قطعة ، لكني لا أملك الا أن أمضي . كل تلك الأناشيد الحالمة . ذلك الحلم العذب . تتساقط من ذهني أنفاضها ، كما تنفض الأشجار الورق اليابس . وتظل واقفة تواجه عرييها بإنتظار الشمس ).
شيء ما يدفعها لأن تلقي بباقة الزهور التي تحملها .تنحني الفتيات الصغيرات على الأرض ، كأنهن عصافير تلتقط حبات القمح بلطافة ٍ خرافية الجمال والأناقة .
تتطلع إليهن بحنين أم فقدت طفلها للتو . تقع عيناها على زهرة نرجس بيضاء لم يلتقطها أحد . يلتمع في عينيها بريق الرحيل يتعجب الأميرمن وقوفها المفاجئ . تعتذر عن غرابتها ودموعها ، التي فسرها هو والمحتفون بها على أنها ( دموع الفرح ) ، تمسح ما يدعونه بدموع الفرح وتمضي معه هي وقلبها طفلان يبحث كل منهما في وجه الآخر.
عن غابة ٍ
عن ذئب ٍ
عن مطر ٍ ناء ٍيشبه شمسها الحانية .