لـماذا تـأخـرتِ دهـرا ً عـلـيّـا ؟ - يحيى السماوي
تقولُ التي صَيّرتْـني أنـيـسـا ً
وكـنتُ الـعَـنـيـدَ ..
الـغَـضـوبَ ..
الـعَـصِـيّـا :
أما مِـنْ إيـاب ٍ
إلى حيث ُ كان النخـيـل ُ
مـآذِنَـك َ الـبـاسِـقـات ..
وكان الـحَـمـامُ " بِـلالا ً " ..
وكان الـهَـديـل ُ الأذان َ الـشـجـيّـا ؟
وأنتَ عـلـى السّـطـح ِ : طـفـل ٌ
يُـغـازِلُ عـنـد َ المـسـاء ِ الـنجـوم َ
ويـغـفـو يُـغـطِّـيـه ِ ضوءُ الـثُـرَيّـا ؟
لـقـد عـدتُ لـو كان سَـعْـفُ النخيل ِ
كـمـا الأمس ِ ..
لـو أنَّ لـيْ سـطـحَ دار ٍ ..
وأنَّ الـحَـمـامَ يُـجـيـدُ الـهـديـل َ ..
ولـكـنَّـه ُ الـقـحْـط ُ :
لا الخـبْـزُ في الـصَّـحْـن ..
لا الـتَّـمْـرُ في الـعِـذقِ ..
والمـاءُ في الـنهـر ِ لمَـا يَـعُـدْ
يـمـلأ الكـأسَ رِيّـا
أبي عاشَ سـبـعـينَ عـامـا ً ونـيـفـا ً
عـلى الـخـبـز ِ والـتـمـرِ
مـا زارَ يـومـا ً طـبـيـبـا ً ..
وأمـي ـ إذا جـعْـتُ ـ تـشـوي لـيَ الـمـاءَ
أو تـنـسـجُ الـصـوفَ ثـوبـا ً
فيغدو حـريـرا ً بَهـيّـا !
لـمـاذا إذن ْ
أصبـحَ الـماءُ في عـصـرِنـا ظـامِـئـا ً
والـرَّغـيـفُ كـمـا الـتِّـبْـنِ
والـعِـشـقُ في يـومِـنـا تُـهْـمـة ً
والـمـواويـلُ غَـيّـا ؟
أتـدعـيـنـني بـعـدمـا شـاصَ تـمْـري ؟
لـمـاذا تـأخَّـرْت ِ دهـرا ً عَـلـيّـا ؟
وكـنـتُ الـمُـقِـيـمَ
عـلى بُـعـدِ نـهـديـكِ من ثـوبِـكِ الـمُـسْـتَفَـزِّ ..
عـلى بُـعـدِ كـفِّـك ِ
مِـنْ شـذرة ِ الـخـاتَـم ِ الـسـومَـريِّ ..
لمـاذا اخـتـبـأت ِ
لأهـرقَ في شـاطـئـيْـك ِ بـقـايـا وقـاري ؟
وأطـفـئ َ نـاري ؟
جميعُ الـغـزالاتِ مـرّتْ عـلى واحـتي ..
والـظِـبـاء ِ ..
الـفـراشـات ِ ..
إلآكِ أنت ِ !
تـأخَّـرْت ِ أكـثـرَ مِمـا يُـطـيـقُ اصْـطِـبـاري !
لـمـاذا أتَـيْـتِ
أوان َ احْـتِضـاري ؟
وبِدءَ احْـتِـفـاء ِ الـدُّجـى
بـانطِـفـاء نـهـاري ؟
وقـد كـنـتِ من مُـقـلـتـيْ
قـابَ جـفـنيْ ..
ومن مـوقـدي
قـابَ جـمـري
ونـاري !!
لـمـاذا أتـيْـتِ أوان َ الـخريـف ِ
وكنت ِ عـلى بُـعْـدِ ضِـلـعَـيـن ِ
مـنْ أصـغـرَيّـا ؟
لـماذا تـأخَّـرت ِ دهـرا ً عَـلَـيّـا ؟
فشـرّقْـتُ .. غَـرَّبْـتُ ..
غـرّبْـتُ .. شـرَّقـتُ :
طِفـلا ً عَـجـوزا ً
وكـهْـلا ً صَـبـيّـا !!
وكنتُ الشقيَّ السعيدَ
فصرتُ السعيدَ الشقيّا !
توهّمتُ أنَّ الـتـغـرُّبَ
يُـنـسي الفتى السـومريَّ هـمـوم َ المشـاحيفِ *
يُـدني نـزيـلَ الـمـفـازات ِ من
سـدرة ِ المُـنـتـهـى والـثـريّـا ..
وها مـرَّ جـيـلان ِ..
جـيـلان ِ مَـرّا عـلى نـخـلـة ٍ غـادرتْ طـيـنـهـا !
تـمـرُهـا شـاصَ ..
والـسَّـعْـفُ لـمّـا يَـعُـدْ يـنـسـجُ الفيءَ غـضّـا ً نـديّـا ..
جميعُ المـواعيـد ِ فـاتتْ
ومَـرَّ قـطـارُ الـقـرنـفـل ِ والـيـاسـمـيـن ..
الـعـصـافـيـرُ عـادتْ إلى دفءِ أعشـاشِـهـا
وأنـا واقـفٌ ..
غَصَّـة ٌ في فـمي
والـلـظى في يَـدَيّـا ..
توهّـمْـتُ أنَّ الـطريـق َ إلى الأقـحـوان ِ
الـمـنـافي ..
فـنـفَّـضْـتُ طـيـنَ الـفـراتـيـن ِ
مِـنْ راحَـتـيّـا !
ودَرَّبْـتُ عـصـيـان َ هـدبـي
عـلى مُـقـلـتـيّـا !
غـريـبـا ً ذلـيـلا ً..
فـحـيـنـا ً أفـتِّـشُ عـنْ دجـلـتيَّ
وحـيـنـا ً لأهـربَ مـنْ دجـلـتـيّـا !
فلا كـنـتُ مَـيْـتـا ً
ولا كـنتُ حَـيّـا !
ولا كـنـتُ في مـوكـبـي بـابـلـيّـا ً
ولا كـنـتُ في زورقـي سَـومَـريّـا !!
لـماذا تـأخَّـرت ِ دهـرا ً علـيّـا ؟
وكنت ِ على بُـعـدِ " حاءٍ " من " الباءِ "
نـامـا عـلى تـخـت ِ سـطـر ٍ سَـوِيّـا !!
لـمـاذا تـركـتُ الـسـمـاوة َ خـلـفـي
ويَـمَّـمْـتُ نـحـوَ المـقـاديـر ِ خـطـوي
فـكـنتُ الـغَـويّـا ؟
أمـا كان لـيْ
أنْ أُخـبِّـئـنـي لـيـلـة ً في " الـصـريـفـة ِ " .. **
أو لـيـلـتـيـن ِ بـسـرداب ِ قـبـر ٍ
وعـامـا ً بـبَـرِيَّـة ٍ
نصـفَ عِـقـد ٍ بـ " هـور الـجـبـايـش ِ " ***
عِـقـدا ً مـع الـلـوز ِ والـجـوز ِ في غـابـة ٍ في الشـمـال ِ
وعـامـا ً بـكـهـف ٍ أُلـمْـلِـمُ بـعـضـي إلـيّـا ؟
أبي عـاش سـبـعـيـنَ عـامـا ً ونـيـفـا ً
عـلى الـخـبـز والـتـمـر ِ
ما قـالَ أفّ ٍ ...
ولا صـاحَ بـالـخـوف ِ تـبّـا ً ..
ولم يـتَّـخـذْ غـيـرَ نـخـل ِ السـمـاوة ِ
خِـلّا ً وفِـيّـا !!
لـمـاذا هـرقـتُ شـبابـي
شـريـدا ً ..
غـريـبـا ً ..
ذلـيـلا ً ..
شـقـيّـا ؟
لمـاذا تـأخَّـرْت ِ دهـرا ً عَـلـيّـا ؟
وقـد كنـتُ مـنـك ِ
الـقـريـبَ الـقـصِـيّـا ؟
بـلى
كـان يُـمـكـنُ لـيْ
أن أعـيـشَ طـويـلا ..
وأن ْ أهـزم َ
الـمـارِدَ الـمـسْـتحيـلا
فـأعْـقِـد بـيـن الـثـرى
والـثـريّـا
قِـران َ الـتـراب ِ عـلـى الـنـجـم ِ
لـكـن ْ :
تـأخـرت ِ دهـرا ً
فـجـاز شِـراعُ الـمُـنـى شـاطِـئـيّـا
أقـيـمـي عَـزاءَ الـهـوى ..
إنـنـي :
مُـتُّ حَـيّـا !!
فلا يُـغـويَـنَّـك ِ ظِـلّـي ..
ولا يُـغـريَـنّـك ِ
نـبـضُ الـمُـحَـيّـا !!
لـمـاذا تـأخَّـرت ِ دهـرا ً
عَـلـيّـا ؟
***
* المشاحيف : جمع مشحوف : زورق من قصب البردي يستخدمه سكان الأهوار للتنقل والصيد ـ سومري الأصل .
** الصريفة : بيت من الطين وجذوع الاشجار يستخدمه أهالي الوسط والجنوب العراقي للماشية وما شابه ذلك.
** * هور الجبايش : أحد أكبر أهوار العراق ، وأكثرها كثافة بقصب البردي .. كان الهاربون من أنظمة الحكم يتخذونه ملاذا آمنا لاستحالة وصول قوات السلطة إليهم .