مواقف في الكتابة والحياة - "الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون " للدكتور عبد الرضا عليّ - عبـــد الرزاق الربيـــعيّ
" أرجو أن تعلم إنني كنت وفيا مع هذه الشخصيات التي عايشتها ثقافيا ,وعايشت بعضها حيويا ,
وقد أحببتها لأنها شكلت مناخا جميلا للفضاء الثقافي الذي تنفست فيه الحياة بعيدا عن جمهورية الخوف "
بهذه السطور ذيل الدكتور عبد الرضا عليّ إهداءه نسختي من كتابه " الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون" الصادر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، حيث اشتمل الكتاب على شخصيات ومواقف في الشعر والنقد والكتابة كان لها أثرها وحضورها الفاعل في الساحة الثقافية العراقية والعربية على حد سواء .
ولكي يجذب القاريء ويشده الى كتابه عمد الدكتور عبد الرضا الى ذكر أوصاف للشخصيات العشرين التي إنتقاها بكتابه في العناوين, ف"الشاعر الذي قهرت حافظته الشيخوخة وأكلت القوافي لسانه" هو الجواهري , أما "شيخ المشردين الذي لم ينصفه النقد" فهو الشاعر حسين مردان والمعترف إبداعيا بالإخفاق العاطفي فهو السياب أما التلميذة التي تبناها طه حسن فهي سهير القلماوي و"القائل لو لم أكن أنا لكنت أنا" فهو البياتي و"شيخ النقاد في العراق "فهو شيخ النقاد في العراق الدكتور علي جواد الطاهر أما "بائع السجائر" فهو الرصافي و"كاتب العرائض الذي أحرج خاله الوزير" فهو بلند الحيدري و"صاحب الكعكة الحجرية" أمل دنقل و"الشريد الذي يبيع الشعر لأنصاف الشعراء "عبدالأمير الحصيري و"المهاجر رغما عنه" الطبيب أحمد زكي أبو شادي و"الإسكافي الذي نال شهادة الدكتوراه" فهو خليل حاوي و"الخائف من مهنة التدريس" الناقد عبدالجبار عباس , أما" الناقد الذي بطش بشعراء المهرجان" فهو الدكتور محسن اطيمش و"سائق التاكسي" موسى كريدي ...الخ
عناوينه كما لاحظنا تشبه (مانشيتات الصحف ) بها جانب تشويق مليء بالإثارة , ربما لأنه أصلا كتبها لنشرها في الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة الثورة اليمنية ,كما يشير في مقدمة الكتاب ,و كل عنوان حكاية قائمة بذاتها تفضي إلى حكاية أخرى مما يمنح هذا الكتاب تصنيفا آخر ليصبح كتاب قصص وحكايات بإمتياز وهي صفة لاتلغي الصفات التي ذكرناها آنفا بل قراءة أخرى بطعم آخر مفتوحة على آفاق أكثر رحابة في الرؤى والتأويل .
تناول الكتاب كل شخصية من نواح عدة وكلها سكنت في عالم الخلود –بإستثناء الشاعر كمال عبدالحليم صاحب نشيد"دع سمائي " فالمؤلف لا يعلم إن كان مازال حيا ؟أم أن الله قد اختاره الى جواره كحال المنسيين في الأرض ,كما يقول- ويعود سبب عدم ذكر الأحياء ذلك لأن "إرضاء الأحياء غاية لا يمكن إدراكها " كما يقول المؤلف من حيث "أن بعضهم سيرى في تقديم غيره عليه إجحافا بحقه ,وتقليلا من شأنه " وأضيف على ما ذكر المؤلف وفاءه للراحلين حيث إعتبر الكتابة عنهم واجبا أخلاقيا بدليل ما ذكرت في السطور الأولى من هذه القراءة .
إستخدم المؤلف في كتابه تقنيات مختلفة من السرد جاءت مكملة لعناصر الفكرة التي سلطت الضوء على هذه الشخصيات الإبداعية مجيدا وصفها باستخدامه اللغة البسيطة العميقة في ذات الوقت وهو أمر تميزت به نصوص الكتاب عامة ، فنرى في أول نص الذي اشتق منه عنوان الكتاب وصفا لحياة ( الجواهري ) من خلال إستعراض بعض تفاصيل حياته وصولا لتحليل عدد من نصوصه الشعرية وهنا يتحول صوت الكاتب من السرد السيريوي إلى التحليل النقدي الموضوعي ليصبح الكتاب شاملا من خلال تنوع أشكال السرد الذي فتح النوافذ للقارئ " غير المختص " موازنا بينه وبين " المختص" الذي منحه مساحة معقولة من القراءة النقدية الدقيقة مستندا على أساليب النقد الحديثة التي يتقنها الدكتور عبد الرضا عليّ كونه ناقدا وأكاديميا معروفا بتأريخه الأكاديمي وبحوثه النقدية الغزيرة .
يبدأ المؤلف مقالاته من أماكن مختلفة من حياة الشخصية بإسلوب شيق يشد القارئ لمعرفة صاحب الشخصية المختارة ويجعله يسابق السطور بلهفة ليتعرف عليها أكثر لذا لم أجد الدكتور علي عباس علوان الا صادقا وهو يثبت على الغلاف الأخير من الكتاب" لقد قرأت الكتاب في جلسة واحدة " وهو يصف الكتاب بأنه"سفر متميز بقلم ناقد حاذق موهوب ,يقدم للقاريء الجاد عصارة تجارب ورؤى نقدية وفنية على مدى نصف قرن من الزمن تقريبا عايشها الأستاذ الدكتور عبدالرضا علي معايشة حقيقية فأنتجت فصولا ممتعة ومثيرة وكشوفا في حياة أولئك الشعراء المبدعين "
وبشيء من الحماس يقول علوان عن المؤلف "نعم ,هو الأكاديمي في التدقيق والرصد وغور الأحداث والنفوس ولكنه الأكاديمي الذي طرح الجفاف والتزمت والتكرار ليقدم تعليقاته الذكية ولقطاته الموفقة مع شيء من التحليل وكثير من الإثارة "
يعتني الدكتور عبدالرضا إضافة الى العنوان الذي يجعله كما رأينا دالا ومعبرا بمقدمات مقالاته , والمقدمة كما يعلم الجميع من أصعب ما يواجه الكاتب عندما ينوي الخوض في موضوع ما , فالمؤلف يكتفي ببث إشارات حول الشخصية التي إختارها , مستخدما ضمير الغائب , فمثلا يقول الكاتب في مقدمة أحد النصوص التي حملت عنوان ( القائل لو لم أكن أنا لكنت أنا ) : كان واحدا ممن ولدوا في عام العبقرية الإبداعية (1926 م ) لكن باب الشيخ في بغداد ظلت ملهمته طوال عمره الإبداعي الذي أمضاه في مدن العشق والمنافي حتى انطفائه في 1999 م في دمشق وهو في أعلى توهج فكري وأغزر تألق شعري ، وأضعف اقتدار جسدي إنه الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي ".
وقد يفصح عن إسم الشخصية بعد ثلاث صفحات من بث الرسائل والإشارات والأوصاف كما فعل مع الشاعر خليل حاوي في مقاله"الإسكافي الذي نال شهادة الدكتوراه" وبعد ثلاثة سطور يختتم المقال , فأطوال المقالات يختلف من شخص لآخر فالجواهري مثلا يمتد الحديث عنه على مساحة 15 صفحة وحسين مردان 21 صفحة بينما طول المقال الخاص بالرصافي ثلاث صفحات وبضعة سطور! أما البياتي فقد خصه بمقال يتكون من أقل من 4 صفحات وهذا لا يتناسب مع علاقة المؤلف بالشاعر , وهي علاقة فيها الكثير من الود , خصوصا بعد إستقرار البياتي في عمان مطلع التسعينيات , حيث كان المؤلف يلتقي به كلما قدم من صنعاء لعمان زائرا خلال عطلة الصيف ويسهران في "الفينيق" أو خارجه طوال فترة مكوث المؤلف في عمان وربما لم يشأ المؤلف بالتفريط بتفاصيل عديدة يريد أن يحتفظ بها لمشروع آخر .
وكثيرا ما يبتديء المؤلف النص بإستعراض شيق لبدايات الشخص الذي وقع إختياره للحديث عنه مرورا بما كتب عنه في تلك الفترة وصولا إلى قراءة نقدية دقيقة لنصوصه دون أن يشعر القارئ انه انتقل إلى مستوى غير متجانس من اللغة وهنا تتجلى قدرة الكاتب وبراعته في جعل السرد السيريوي مكملا للنقد الأدبي الأكاديمي انطلاقا من أهمية هذا السرد الذي يبتدئ به كل نص فهو بمثابة أرضية واسعة لاحتواء النص الشعري وفك رموزه فيما بعد فضلاً عن أنّ شكل النص في نهاية الأمر يبقى محتفظا بخصوصية وعدم إمكانية التجنيس الدقيق فهو كما أشرنا خليط من السيرة سيرة المبدع /المؤلف معا ودراسات نقدية ومن هنا تتشكل خصوصية هذا المطبوع الذي يغوص بالقارئ في تفاصيل بعيدة من حياة المبدعين الذين عرفهم وسمع عنهم ولم يعاصرهم فيشعر إنه جزء من هذه التفاصيل على نحوٍ وآخر، وهذا شعور يشبه شعور المشاركة الذي يشعر به المتلقي للحدث السينمائي وهو ما نريد الإشارة إليه فقد كان أسلوب الكاتب يقترب من الخطاب السينمائي بشكل أو بآخر فقد ابتدأ في أكثر من نص من نهاية حياة المبدع كما في النص المعنوّن ( الشاعر الذي قهرت حافظته الشيخوخة وأكلت القوافي لسانه) فيقول في بداية النص : في السابع والعشرين من تموز 1997 طوى الموت آخر صفحة من حياة عبقرية شعرية شامخة ، وقمة عالية من قمم الشعر العربي تركت بصماتها واضحة في حياة العراقيين بخاصة ، والعرب بعامة بداءة من عشرينات هذا القرن في مقارعة الاستعمار ، والصهيونية والدفاع عن المصير العربي ، ووجوده وقضيته الكبرى فلسطين وحرية الإنسان العربي اعتقادا وانتماءً وتعبيرا . إنه الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري نهر العراق الثالث وابن فراتيه .
وقد يذكر تفاصيل غير مطروقة توصل اليها من خلال لقاءاته الشخصية بالذين كتب عنهم يقول عن البياتي" في بعض لقاءاتنا به كان يحلو له أن يذكر بعض من أحب أو عشق أو هام بهن وجدا في بعض محطات عمره وكنا نصغي الى ارتجاعاته بشغف ومحبة لكنه في صيف عام 1998 ركز على واحدة بعينها وربما كانت عائشة دار المعلمين العالية إذ أخذ يذكرها بلوعة وتأسف نادرين لم نألفهما لديه ثم أصبح الحديث عنها خليطا من حزن داخلي وفرح ظاهري ليس من السهل استيعابه ,إنها "فروزنده" الفتاة الإيرانية التي انتظمت دارسة معه في الدار ذات الجمال الأخاذ المثير "
ويضيف الدكتور عبدالرضا" إن فروزنده شكلت كشفا لرمز ظل خافيا خمسين عاما فكان لابد من إضاءة تلك العلاقة "
وهي تظل تأويلات فلا يوجد في مثل هذه المسائل الشائكة أجوبة قطعية و أذكر أن حلقة دراسة أقيمت عام 1995 ضمن فعاليات مهرجان جرش حول تجربة البياتي وكان هو حاضرا تلك الجلسة وبعد أن شرق النقاد وغربوا محاولين كشف لغز عائشة طلب البياتي الإذن بالكلام وفي معرض مداخلته تساءل :من هي عائشة؟ أنا أيضا لا أعرف , فابتسم أحد النقاد من بين الحضور وغمز شامتا بزملائه الذين كانوا وراء المنصة !!
وقد يذكر المؤلف جانبا من سيرته فيتحدث عن ظروف صعبة مر بها اضطرته للعمل المؤقت ويأتي ذكر ذلك في حديثه عن الشاعر بلند الحيدري إذ يذكر إنه التقاه سنة 1961 حين كان يعمل نائبا لمدير عام مصلحة المعارض العراقية وكان عمري عشرين عاما , والكلام لعبدالرضا علي, فطلبت منه مساعدتي في تعييني بائع تذاكر في معرض 14 تموز التجاري (الذي أصبح بعد حين معرض بغداد الدولي) فقبله وزوده ببطاقة العمل التي عليها توقيعه فاحتفظ بها إعتزازا بإمضائه وتوقيعه وبذلك الموقف النبيل الذي جعل المؤلف يعيش مرفها لشهر كامل أما في نص ( شيخ المشردين الذي لم ينصفه النقد ) فنجد بداية مغايرة مستهلة بعنوان فرعي هو (الصورة ) فيقول:
لايعرف حسين مردان هو نفسه متى ولد ، حتى انه يشكك في تاريخ ولادته المدون في دفتر النفوس 1927 ، أما الأرض التي شاهدت وجهه لأول مرة فهي تقع في قضاء طويريج ، وتدعى اليوم الهندية .. وقد قضى السنين الأولى من طفولته متنقلا مع والده بين مدن الفرات الأوسط حتى انتقل إلى قضاء الخالص ، وهناك ترعرع ، ودخل المدرسة الابتدائية .
ويبقى السرد يشتغل على هذا الحس السيريوي ناحيا منحى توثيقيا قريبا من الفلم الوثائقي مفصحا عن ذاكرة قوية فيسجل الأحداث بالأماكن والتواريخ- قد تخذله الذاكرة أحيانا كما حصل في ص87 حين ذكر تاريخ وفاة الشاعر عبدالأمير الحصيري العام 1985 بينما توفي الحصيري أواخر السبعينيات وربما العام 1977 " - مستدرجا الصور الذهنية تباعا لتكون معادلا صوريا لايجتهد القارئ في ابتكاره ، مستكملا بهذا جوانب أخرى من النص ، خصوصا أن النص أعلاه كان مقسما إلى عناوين فرعية أخرى احتوت على سنوات وأحداث فعلية ومهمة في حياة الكاتب حسين مردان بطل النص المذكور .
لايقتصر سرد الكاتب على السيرة والتحليل النقدي فقط ، فنجده يستعين بالتحليل النفسي أيضا في نقده للقصائد ورصد رموزها عن كثب كما في النص أعلاه حيث تطرق في أحد أجزائه المعنون ب( المازوشية ) إلى التحليل النفسي العلمي فيقول : في بعض تشبيهات حسين مردان نزوع إلى تشبيه المرأة المازوشية، وهي تلك المرأة التي لاتشعر باللذة إلا حين يقع عليها الأذى سواء أكان ذلك الأذى قولا أم فعلا .
والمازوشية كما يعرفها علم النفس هي : انحراف جنسي يتميز بالسرور نتيجة للتعرض للألم الجسدي .
ويعود الكاتب ليربط هذا التحليل بحالة اجتماعية كانت سائدة في الأربعينيات فيقول : يبدو أنَّ كثرة وجود المواخير في الأربعينيات ، وتردد الشاعر ، وبعض أصدقائه عليها ، واتخاذ بعض بائعات الهوى من بعض الأشقياء عشاقا وما رافق تلك الأيام من قصص عن البغايا ، وأشقيائهن ونزوع بعض الشعراء والمغنين إلى ترديد أشعار البغاء قد سوغ لشاعرنا أن يصور بعضا ممن كن مازوشيات جنسيا .
وهو بهذا التحليل ردم الهوة بين القارئ والنص من خلال فتحه للعديد من قنوات الاتصال بينهما , فمن السيرة الذاتية إلى التحليل النفسي كان النقد الأدبي قد تحول بخواصه التي لايستسيغها إلا القارئ المختص أو الأكاديمي إلى نص قابل للقراءة بأدوات مختلفة جعلها الدكتور عبد الرضا عليّ متاحة للقارئ كيفما كان وهو بهذا ارتقى بالنص ومنحه قيمة أخرى مبتعدا عن النخبوية والتسطيح في آن واحد .
وكامتداد منطقي للتنويع الحاصل في أساليب الكتابة نجد أنّ الكاتب لم يقتصر في تناوله للشخصيات على المبدعين العراقيين فحسب بل اشتمل على مبدعين عرب نذكر منهم الشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني
والشاعر الكبير خليل حاوي وآخرين وهو بهذا التنوع يمنحنا أقصى درجات الحرية في الاقتراب من حياة المبدعين بغض النظر عن هويتهم أو انتماءاتهم فلا انتماء في هذا الفضاء الورقي إلا للإبداع .
إن كتاب الدكتور عبدالرضا علي" الذي أكلت القوافي لسانه " من شأنه أن يفتح شهية الكثيرين على الكتابة عن مواقف عايشوها مع أدباء رحلوا من عالمنا قبل أن يأكلها النسيان .