يوميات زوجة شرقية - بان ضياء حبيب الخيالي
ِِأحلى الأيام
عندما كنّا صغاراً كنا نستقبل أول يوم من العام الدراسي بفرح وحبور وبعد أسبوع واحد نبتدئ
عداً تنازليا للأيام في رزنا متنا لحساب ما يفصلنا من أيام عن العطلة الربيعية والصيفية وتكثر الشطوب والخطوط حول الأيام بالتدريج انحداراً نحو أوقات العطل .
قد يعتقد القارئ إنني كنت طالبة خاملة كسولا.!!كلا ياسادتي..............بل كنت مجتهدة لامعة لكن هذا لم يمنع إنني لم أقارن يوماً أفراح العطلة بجو الدراسة المخيف الذي كان سائداً آنذاك فقد كانت المدارس ملتزمةً بالمناهج والمعلمات يختلقن جواً خانقاً من النظام والحزم يرتقي بالطالب إلى مناص الخوف والرهبة من المدرسة مهما كان مجتهدا ًمحباً للدراسة .فإذا قارنا هذا الجو بجو العطلات الخالي من الالتزام والجد الممتلئ بالرحلات والنوم الهانئ الخالي من كوابيس الامتحانات وأشباح الأسئلة الصعبة فإن كفة العطلات ستكون لها الغلبة في موازين المفاضلة لدي ولدى كل الطلاب كما أعتقد.
وكانت العطلة ما أن تسفر عن نقابها حتى يأخذنا والدي رحمه الله بسيارتنا الصغيرة لرحلات للشمال ولمناطق أخرى جلها تفترش الغابات غطاءً لها وتحدها الجداول الرقراقة بضي لا مثيل له يصعد مع سيقان الأشجار نحو أوراقها ليجعلها تباهي الشمس بنور أوراقها الأخضر الداكن وتلك العصافير التي قضت الشتاء كله مختبئة في وكناتها تحفظ الأناشيد كانت في العطلة تنتشر على الأشجار مزقزقة بما حفظ مالئةً الجو بموسيقى لا أحب لأذني منها أما شلالات النور فتتطاير بروقها حولي حين يرفعني قوس قزحها الصديق نحو سماء سابعة تدور فيها ضحكات نغمةٌ لعائلتي وكل عوائل أهلي من العراقيين المتجهين إلى المصايف.كنت بالذات أحب غابة ًكنا كثيراً ما نقصدها تمتلئ بأشجار الحور والسنديان بأوراقها الخضراء المتلألئة وسيقانها المليئة بالقلف والتي يحلو لي كتابة رموز اسمي عليها معتبرة إياها أصبحت صديقتي كلما أودعتها حروفي. كنت أحس أنني بين النباتات أخطر بين قومي وكأن في الأشجار روحا ً تكلمني تسمعني أحس بها وتحس بي..... وكان هذا الاحساسي يتملكني في تلك الغابة فكنت العب مع أشجارها أكلمها أبثها دواخلي .....ضحكاتي وأحزاني الصغيرة....وكنت أكتب حرفي الأول على قلفها دائما ًفحين يجلس أهلي مفترشين غطائها الورقي الذي يلون الأرض بالأحمر والأخضر والأصفر كنا نركض أنا وأختي وأطفال العوائل الأخرى ضاحكين مختبئين وراء الأشجار بألعاب الطفولة كنت أختار دوما ً الأشجار التي رسمت عليها الحرف B) وكنت أنجح في الاختباء فلا يجدني رفاق لعبي ويتساءل صحبي عن سبب اختفاء أثري عنهم فأغمز مبتسمة ً لشجراتي الحاميات وأنا أعتمر تاج الغار دون أن أشي بسري لأحد . كان الجو في تلك الغابة ملائكيا ً فأشعة الشمس التي تجاهد بصعوبة لاختراق أغصان الأشجار الكثيفة الممتلئة بالأوراق التي تبدو كأكف تمنع مرور أشعة الشمس وتلك الخيوط الخجولة من الضي التي تنجح بالمرور يلفها شيء من ضباب وصوت نقيق الضفادع يعلن عن وجود جدول ماء قريب أما تلك المخلوقات السماوية التي تطير حولنا منشدة ًالجمال فيلفها نسيم محمل بأصوات ضحكات أطفال تدوي بصداها في أرجاء الغابة..............كانت غابة من السحر أحببتها كثيرا.
أين ذهبت غابة السنديان؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
في يوم ما وبعد حفنة من السنين كانت طفلتي الصغيرة تتفرج على البوم قديم يضم صور الغابة فطلبت منا الذهاب إلى المكان ولمس طلبها وترا ً حساساً أخفيته رغماً عني لانشغالي بالدراسة والرحيل من مكان لأخر فتمنيت أن أصافح أشجاري الصديقة وأن تعبث أناملي بحرف B)) الذي أودعته قلفها منذ الصغر أتراه مازال هناك......؟.ونمت على تلك الأماني التي هجمت من جديد على وداعة أيامي وأصبحت في اليوم التالي وقد سيطرت علي بهجة عارمة جعلتني أكرر طلبي لزوجي ضامه صوتي لصوت طفلتي مرات ومرات وهو الذي يدرج دوما ً طلباتنا الكمالية كما يسميها على قائمة طلبات طويلة لتنام مع صويحباتها في مجثمها الرطب دون رجاء. ولم أعلم لحد ألان أهو ضغط العمل عليه أم كثرة الإلحاح من جانبنا ..أم....أم....هو الذي جعله يذعن أخيرا ً ويحدد لنا يوما ً للرحلة.....وكانت فرحةً شملت كل الأيام التي تلت.حزمنا أمتعتنا وقفلنا نحو غابة السنديان الشمالية وعند وصولنا فوجئنا بمنظر رائع لعمارات جديدة غاية في الجمال الهندسي تشرأب مترفعة بشموخ في مكان غابتي ، مسقفة بالقرميد الأحمر وموشاة نوافذها بلون أخضر زاهي زجاجها الملون يلمع تحت الشمسٍٍ عاكسا نورها كالمرايا .وجمت طبعاً وتساءلت في نفسي التي يخامرها شك أ سود هل أنني ربما أخطأت المكان !!!!.المهم عدنا لسيارتنا واتجهنا نحو مكتب سياحي لنحجز في أحد فنادق المنطقة التي لم تكن تخلو من أماكن سياحية جميلة أخرى وسألنا الموظف في المكتب عن غابتي المفقودة فأجاب أنها اقتلعت قبل أكثر من سبع سنين لتحل محلها هذه المجمعات السياحية. وبرغم أننا قضينا أسبوعا ًحافلا ً بالنزهات إلا إنني أحسست بجرح غائر في صدري يذكرني كل الوقت بصديقات طفولتي وصباي أشجاري التي تحمل رمز صداقتي حرفي الذي عمدتها به لتكون رفيقة خواطري كل عمري حتى بعد أن رحلت. قفلنا راجعين وكل الطريق كانت تساؤلاتي الصامتة تأخذني عن المناظر الطبيعية الجميلة التي تحف الطريق.
أين ذهبت تلك الأشجار الباسقة التي آوت ملايين الطيور الجميلة الصادحة ًومنحت السعادة لملايين السياح...........؟. ولم أجد لتساؤلاتي الكثيرة تفسيرا ً.
أ صنعوا بذاك الكم الهائل من الأشجار معملا ً لأعواد الثقاب؟ ..............كلا لحد علمي.
أ صنعوا بها معملا ً للأثاث ....؟كلا لحد علمي .أصنعوا بها قوارب نزهة لسفرات على نهري دجلة والفرات......؟كلا كذلك.... أ صنعوا ؟..... أ صنعوا.....؟؟؟؟
وكانت نتيجة تساؤلاتي هو إننا لم نجتهد في السنوات الأخيرة لصنع شيء يعود بالفائدة على الإنسانية . إلا اللهم العبوات الناسفة وأنواع المتفجرات التي عادت بالفائدة فقط على عزرائيل عليه السلام لأنها سهلت مهامه كما أعتقد وهي( أعني المتفجرات ) لا تحتاج في صناعتها إلى الأخشاب بكل حال!!!!
التوثية!!!!!!!!!!!!!!!!!!
وصلنا البيت وفي المساء جاءت جارتي أم (........) وهذه المرأة وحدها قصة فهي مخلوق يتمتع بصفات فريدة فهي لا تنفك تدور بين الجيران مثرثرة بالإخبار ململمة الأخبار من والى الجميع بنشاط ورغبة متوقدة .لا تنصب ولا ترعوي فهي إن شاء مستمعها أم أبى تمطره بالأخبار والأسئلة
كأنها مراسل صحفي لحوح، حب الثرثرة يسري في دمها وصفتها تلك عالقة في جيناتها الوراثية لا يمكن لأحد انتزاعها منها أبدا ً .وما أن جلست أمامي حتى أمطرتني بالأسئلة مستفهمة مني عن مكان رحلتي أسبابها ... ونتائجها الاجتماعية....والثقافية..والعلمية..... والعسكرية....... وطبعا ً كعادتي أخبرتها بما أريد و لا أخشى أن ينتشر وأخفيت عنها ما أريد أن أخفيه وراحت من فورها تسرد نشرة أخبار المنطقة دون أن أطلب منها وفور إكمالها لتقريرها نهضت نافضة ًعباءتها متنهدة تنهيدة ارتياح كأنها أزاحت عبئا ثقيلا ًيجثم على أنفاسها وقامت متهيئة ًللخروج وهي تتمتم بشعارها الأزلي (أي إحنه شعلينه ) وما إن مددت يدي لأكره الباب لأفتحه لها حتى شهقت صارخة لاطمة الخد لطمه ذات صوت رنان فاتحة عينيها على أقصى اتساع كعيون مجنون قائلة لي بصوت منغوم : ـ
ـ ألم تسمعي بالذي حدث لأم عمار المسكينة ؟
فتساءلت بخوف ....خيرا إن شاء الله ؟
فأم عمار هي إحدى أطيب جاراتي وأهدأهن وهي دائمة التعرض للمشاكل والضرب على يد زوجها متقبلة الاهانات بسبب طيبتها الزائدة عن الحد واستسلامها لواقع جبلت عليه حتى قبل زواجها في بيت أهلها.ورحت أصغي لهمس جارتي المجنونة النظرات وهي تسرد لي قصة إصابة المرأة المسكينة بارتجاج في المخ بسبب ضرب زوجها لها ونقلها إلى المستشفى وان زوجها هوا لآخر يرقد في نفس المستشفى لأنه أصيب بانهيار عصبي بسبب تأنيب الضمير فقد كان يحبها ولكنه (ذاك الطبع الأسود و..................أي شعلينه ).ورحلت صافقة الباب ورائها تاركة ً إياي ارفل في ذهولي وألمي....... بعدها بأيام ذهب لفيف من نساء المنطقة لزيارة الجارة المريضة وقد كنت قد اتخذت قراري جازمة أن أزورها وحدي بعد أن تتعافى جسديا ً ونفسيا ًحتى لا أعرضها للإحراج وبعد فترة طويلة ذهبت لصاحبتي فاستقبلتني بفرح ممتزج بألم ونظرات منكسرة عاتبة علي عدم زيارتي لها. وما إن استوينا على مقاعدنا في غرفة الاستقبال حتى باحت لي بكل ما حدث واستمعت لها دون أن اتسائل فقد آليت على نفسي أن لا أحرجها وقد عولت وانأ في داري على قوة أعصابي في أن أضبطها فلا أجعلها ترى مقدار ألمي وان أهون عليها مأساتها ما استطعت فهي مأساة معظم الزوجات الشرقيات لكنني لم أستطع منع غددي الدمعية من أن تنتفض فارزة الدموع وأنا أسمع سردها للتفاصيل وأرى أثار الضرب المرتسمة بشماتة على ساعديها وأتخيلها تذود بساعديها الضعيفتين عن رأسها و نهضت وهي تشرح لي بصوتها المتهدج الباكي لغرفة جانبية في الدار كأنها مخزن وعادت لي بقطعة خشب كبيرة (توثية) وارتني إياها قائلة من بين الدموع : ـ
ـ تصوري أ بشر يضرب بهذه...........؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
تناولت الخشبة الغليظة الرهيبة وأنا أشعر بقشعريرة خوف وتعجب.......وهزني هاتف في داخلي زلزلني صارخا ً.....وإنا أقلبها بين يدي.....وأتلمس رمزا ً احتواه أديمها وإذا بها خشبة سنديان قديمة.............................محفور عليها حرف(B)............................................................................
............................................................................................