الشيخ امام .. مغني الثورة والرفض
مهما أوتيت البلاغة من قوة، فانها لا تستطيع أن تنقل للأجيال الحالية تلك اللحظة البشعة التي رأتها الأمة أعقاب هزيمة 67.. مطارات مضروبة.. ومدن تكاد أن تشعر أنها بلا حراس وجنود هائمون على وجوههم في البراري تطاردهم الهزيمة والعار والحيوانات المفترسة وأمهات في البيوت يتمنين الأرض أن تبتلعهن لأنهن خسرن الضنى الغالي والوطن الأغلى معا.
في تلك الملابسات.. ومضت في الأفق ثلاث اشارات كأول قاطرة للأمل في العمليات الفلسطينية الفدائية ذات الطعم الخاص والمتعلقة باختطاف الطائرات ـ مظاهرات الحركة الطلابية المصرية ـ والشيخ امام عيسى مغني الثورة والوطن.
ولدت ظاهرة الشيخ امام عيسى وسط هذه الملابسات
كزهرة وسط صخر وظل صوت الشيخ الضرير ـ ابن التعليم الأزهري ـ يشكل الخلفية الصوتية والوجدانية لمئات الثوريين المصريين من ناصريين ويساريين جدد ووطنيين ديمقراطيين في نضالاتهم اليومية في حقبة من أشد حقب مصر أهمية.
لكن الشيخ الذي جمع كل هؤلاء حوله ـ كان للكثيرين لغز يبحث عن أكثر من اجابة.. ماذا كانت قناعات الشيخ الايديولوجية بالضبط؟ كيف كان الشيخ يعشق الزعيم عبدالناصر ويغني ضده أو ضد نظامه في نفس الوقت؟ هل كان الشيخ امام.. ماركسي لينيني أو بلفظة أخرى شيوعي..
اذا لم يكن كذلك فكيف يفسر احتضان عشرات الشيوعيين له.. كيف اقترب الشيخ من رفيق رحلة كفاحه الشاعر أحمد فؤاد نجم ولماذا انفصلا؟ كل هذه الأسئلة.. وأسئلة أخرى لا تقل أهمية ـ كان يمكن أن يجيب عنها كتاب ـ لكن الأجمل والأكثر غنى أن تجيب عليها المذكرات الشخصية نفسها للشيخ الفنان امام عيسى وهذا ما فعله الزميل أيمن الحكيم في كتابه الصادر مؤخرا عن دار الأحمدي للنشر .. مذكرات الشيخ امام..
يتناول الكتاب مذكرات الشيخ ـ كما دونها أيمن في مئة صفحة ـ ويتبعها بمداخلات عن ظاهرة الشيخ لأكثر من 25 مثقفا مصريا ممن تفاعلوا معها هجوما ودفاعا منهم أحمد فؤاد نجم وصافيناز كاظم وصلاح عيسى ومحمد عودة وفؤاد زكريا وخيري شلبي وكامل زهيري ـ بل منهم فايدة كامل الفنانة والبرلمانية وزوجة وزير الداخلية الأشهر في مطاردة الشيخ واعتقاله اللواء نبوي اسماعيل
يحكي الشيخ في الجزء الأول من المذكرات عن ولادته عام 1918 في اسرة فقيرة في قرية صغيرة اسمها أبوالنمرس في محافظة الجيزة وعن فقده لبصره بذات الطريقة التي فقد فيها عميد الأدب العربي طه حسين لبصره أي عن طريق أحدى الوصفات الريفية البدائية ثم عن ذهابه الى الكتاب عند الشيخ عبدالقادر ندا والتحاقه ببطانة الشيخ محمد سليمان عن طريق الجمعية الشرعية.. ليردد وراء المنشد أو الوشاحجي.
من الجمعية الشرعية بأبو النمرس الى الجمعية الشرعية بالقاهرة
بدأت الرحلة حيث ذهب الشيخ امام الى مسجد فاضل بدرب الجماميز بالسيدة زينب ليسمع أول ما يسمع الى الشيخ محمد رفعت.
يكشف الشيخ امام عن شخصية لعبت دورا مهما في حياته وهي شخصية معروفة في الأوساط الأصولية لكن آخر ما يتوقعه المرء أن يكون على علاقة بمسيرة الشيخ امام هو الشيخ محمود خطاب السبكي (جماعة أنصار السنة) ويميط الشيخ امام في مذكراته عن سر لا يعرفه الكثيرون أن الشيخ السبكي بدأ حياته بعد الأربعين.. ولأنه حتى ذلك العمر.. لم يكن سوى فلاح أمي جاهل وأن موقفا عابرا غير مساره فدفعه للتعليم حتى أصبح أستاذ فلسفة ومنطق.
وقف الشيخ السبكي بجانب الشيخ امام.. لكن حياة الجمعية الشرعية كانت صارمة الى حد لم يكن يستطيع تحملها.. فبدأت سلسلة من المشاكل معهم.. وبمجرد أن توفي الشيخ السبكي طرده أعضاء الجمعية بلا رحمة ليجد الشيخ امام نفسه في الشارع عام 1934.
رحل الشيخ امام ليقيم نهارا في الحسين وليلا في الأزهر.. الى أن احتضنته جماعة من أقاربه في حوش قديم بحي الغورية.. التي دخلها ولم يخرج منها حتى وفاته.
كان الشيخ امام قد احترف الموشحات.. تعرف على درويش الحريري ـ الأستاذ بمعهد الموسيقى العربية ـ ثم صادق سيد مكاوي وزكريا أحمد والشيخ علي محمود.
وكما يعتبر السبكي والحريري أشخاص مهمين في حياة الشيخ امام.. فإن معرفته بآلة العود.. لا تقل أهمية
يحكي الشيخ في تفصيل واسهاب أنه لم يخطر على باله قط أن العود من حق المكفوفين.. حتى تصادف وجوده في إحدى السهرات الغنائية والتي كان فيها أحد المكفوفين وضرب على العود، ليلتها لم يذق طعم النوم.. واستيقظ ليذهب الى صديقه كامل الحمصاني يرجوه أن يعلمه العود.. والذي لم يستغرق منه كما يرى أكثر من أربع جلسات.
يعتبر الشيخ عام 1962 عام لقائه بالشاعر أحمد فؤاد نجم عاما فاصلافي حياته
كان نجم خارجا من السجن لتوه ومعه ديوان
صور من السجن والحياة
ويبحث عن مغن يغني له.. فتشكلت لحظتها الفرقة: أحمد فؤاد نجم كشاعر والشيخ امام كمغني ومحمد علي يضرب على الرق..
جاءت الهزيمة على الثلاثة.. وهم يغنون للحب.. والنساء والعشاق.. فقلبتهم رأسا على عقب فتحولوا من هذا الوضع الى مغنيين رافضين للهزيمة خصوصا بعد أغنية جيفارا التي أحدثت ضجيجا ضخما في أوساط الطلاب الذين لم يعد لديهم شئ يفعلونه سوى المظاهرات.
تصاعدت ظاهرة الشيخ - نجم خصوصا بعد حفلة نقابة الصحفيين عام 1968 وعرض محمد عروق أن يغنوا في برنامج خاص باذاعة صوت العرب، وهنا تبدأ اختلاف الروايات.
فبينما يروي الشيخ امام في مذكراته أن عروق عرض عليه هو ونجم شيكات قيمة كل منهم عشرة آلاف جنيه.. وأنهما اعتبرا هذه الشيكات رشوة صريحة ـ انتم عايزين تشترونا.. بس احنا ما نتبعش ـ
يؤكد رجاء النقاش في شهادته والموجودة ضمن الكتاب أن هذه القصة كاذبة من الألف الى الياء وهي تحريف للواقع وإساءة الى شخصين من أشرف وأنبل الأشخاص محمد فايق ومحمد عروق.
كما يستطرد النقاش أنه كان شاهدا أساسيا على القصة الملفقة وأن الشيك الذي صرف لهما هو 50 جنيها فقط.
نعود الى الشيخ الذي يتابع رواية صدامه مع السلطة واعتقاله عام 1969 وحبسهم انفرادي ووساطة ياسر عرفات للافراج عنهما عند عبدالناصر الذي يرفض ويعلن أنهما لن يريا النور طوال حياته.
لكن هنا أيضا ـ يرفض رجاء النقاش في شهادته هذه الرواية ويقول أن سبب الاعتقال ليس صدامية أغاني الشيخ مع السلطة ـ بل لأن عبدالناصر استمع للأغنية التي غناها الشيخ عن سيناء فغلى دمه عندما سمع
عبارة: يا محلا رجعة ضباطنا من خط النار..
على أية حال ـ يمضي الشيخ في رواية مذكراته من سجن الى سجن.. ومن صدام الى صدام.
في الحقبة الساداتية والتحامه بأحداث الطلبة في جميع محطاتي.. مظاهرات الكعكة الحجرية عام 1972 وعام الحسم 73 ومظاهرات 75 ومظاهرات انتفاضة 1977 يفرد الشيخ امام في مذكراته صفحات طويلة عن أحمد فؤاد نجم.. ويقول أنه تحمل اهانات نجم منذ عام 1962 لأنهما كان شيئا واحدا أمام الجمهور لكن كان لابد لهذه الخلافات أن تنفجر بعد أن انتهت سنوات الصدام مع السلطة. يتهم الشيخ امام فؤاد نجم أنه يحب الزعامة والرئاسة وأنه حاول احتكاره وكان يستفز اذا غنى لشعراء آخرين.
يختتم الشيخ مذكراته بقصته مع الشيوعية واليسار فينفي أنه اعتنق هذا الفكر أو حتى فكر في اعتناقه يوما وأنه كل ما يربطه بهذا الاتجاه وحدة الهدف.
تنتهي مذكرات الشيخ وتبدأ شهادات المثقفين ربما كان أهمها ليست كتابة عن عاصروه بل شهادة خالد حريب ابن جيل التسعينيات من احتفالية نادي السجر بالاسماعيلية
كانت هذه الشهادة.. شهادة ميلاد أن الشيخ امام لم تمت وأنه من الآن فصاعدا.. ما التقى مثقفون.. وثوريون من أي جيل قادم.. إلا وسيذكروه.
انتهت مذكرات الشيخ ـ تبقى هنا أن نذكر ـ أن أهمية المذكرات تأتي في وقت تم فيه زف الحالة الثورية من عالم الواقع الى عالم الذكرى ـ بحيث بدت هذه المذكرات وكأنها مخطوطة قادمة من عالم بعيد.
مصدر آخر لأهمية هذه المذكرات.. هو فك أو تفكيك قصة المغني السياسي.. من حالة التخشيبة الثورية واعادة تقديمهم الى الشارع العربي كلحم ودم.. هو ونجم لهما وخلافاتهما وأكاذيبهما ومبالغاتهما ـ بعد أن عرفناهما من قبل مجرد خطاب حماسي ضد الامبريالية وضد مناضلين آخر زمن في العوامات ولم يصل لأسماعهما أن جيفارا مات
لا يملك المرء وهو يطوي الكتاب ـ إلا أن يسأل نفسه سؤالا ـ ربما بدا مؤلما ـ أو مفرحا.
ترى هل تعبر بنا مرة أخرى ظاهرة مثل ظاهرة الشيخ امام ذاك المغني الذي كنا نخبئ اسطوانات اغانيه من المخبرين ونخفض صوت المسجل وهو يصيح بصوته الشجي الرافض؟ أم أن شعبان عبدالرحيم هو الامتداد المنطقي للغناء السياسي ـ للشيخ امام وسيد درويش!! في زمن العولمة؟؟ سؤال نتمنى من كل قلوبنا أن تكون اجابته
لا.