الطفولة المُعَذبة - د. خالد يونس خالد – السويد
تراوده ذكريات الطفولة بكل براءَتها، وتعانقه أحلام الحب الأبوي الجميل في ينبوع الحياة المشردة، وقد رحل عنه بروحه المطمئنة إلى السماء العلى.
وقف الطفل متأملا بين أنوار النجوم الغارقة في العلياء، وشكاوى الأرض البائسة بين اليتامى والفقراء، والذكريات الحائرة تغمره بالشوق والحنين، والتأوهات تصاحبه في النهار الطويل بين أحلام هدوء الليل الغارق في العتمة، فقال بأسى : أبتاه!
كنتُ أجري في حديقة البيت وأنتَ تَرمُقني بنظراتِك، وتُراقبني في حركاتي، فتلتقي تلك النظرات بهذه الحركات، وتتفاعل البسمات لتلتقي براءة طفل لا يعرف معنى الموت، بحب أب لا يفكر بالرحيل.
سمع صوت أبيه من بعيد: يا بني!
حين كان الربيعُ يتقدم نحونا، كنُا نسير بين الطُرُقات الضيقة المليئة بأوراق شجرة التفاح الصفراء بجانب باب كوخنا، وقد حكمت عليها الرياح العاتية بالتساقط ، فتهتز جدران بيتنا القديم من الشيخوخة، ولم أكن أعرف حب طفولتك لأب عجوز، يحمل قلبا كبيرا يسع جمال الطبيعة اليانعة بورد الجوري وقرنفل الباحة الخضراء.
قال الطفل الحزين:
في قلبي يغرد بلبل على غصن شجرة الزيتون، وعلى صدري العاري تنوح حمامة بين فراخها لتحميهم من ضوء الشمس، وأنا حائر بين أمسي وغدي، وذاهب إلى حيث لا أدري.
أبتاه!
كنا نسير نحو الأشجار وأنت تحملني بين كتفيك، فتتفتح البراعم مع قُبلتك على خدي الصغير الذي غمره التراب الساخر، لأقرأ على أوراق فؤادك عطف الأبوة، وأجد صورة الحنان واللطف بين أزهار ابتسامتك فتتحول إلى ثمار.
هنا بكى الطفل بين الأشواق الملتهبة، وصرخ في داخله حتى أشفقت عليه الملائكة في السماء:
مَن يُقَبِّل خدّي اليوم بعد تجاعيد الدهر، وظُلم القهر يا أبي؟
مالي أراك في خاطري، وأنا أبحث عن دفئ الاطمئنان في ليلة الهجر وقد رحلَتِ السعادة إلى الفناء!
فلا حلاوة الأمس في الفقر، ولا عذابات اليوم في الغِِني ترضيان بالرحيل، ولا الفراق يأوى الأمل في سراديب النفي الراقد في مغارات الغُربة، فلا عهد بقى، والترقب في عيون لا يُجيد لحن البكاء.
جاءته همسة ونغمة تَسبحان في دمعة البراءة وتُناديان:
أين نحن أيها الصوت القادم من العَدَم في رحلة تاريخ لم يُكتَب إسمه في سجل التسجيلات؟
ضاع الرَسمُ، وبقيت ذكرى القبلات، وهي تُغني أنشودة الطفولة في عالم تخلّى عنه عطف آدم وحنان حوّاء؟
الأيام المظلمة تمر، والليالي الحالكة تأتي، والأشجار اليانعة تُقطَع، والنفس الشقية تُعَذب. والضرب كل يوم وليلة من الذين حوله.
وتمر السنون ويشب الطفل ويينع مع الأشجان والأحلام والأحزان والآلام، فيهجر أهله مشردا، ويُحَرَم من كل شئ.
ويرحل بعيدا بعيدا عبر البحار والجبال والصحارى إلى ظلمة الهجر وحيدا فريدا، لايؤنسه إلا نور الله، ولا تعينه إلا رحمة ربه. اللهم رحماك رحماك أنتَ رحيم الدنيا ورحمن الآخرة.
أثينا 15 يونيو 2005