( 4 ) - أعشاش السنونو
لمياء الآلوسي
تقافز الخوف فيهم ، وامتلكهم القلق الخانق ، مع سحب الغبار المتصاعد عِبر الطريق الترابي ، الممتد إلى الغرب من الطريق المعبد ، إذ تدور حوله آلاف الحكايات الممهورة بالدم ، طريق يمتلكه السيف ، ورايات قادمة من عصور مسرفة في القدم ، يحيكها رجال جابوا الأرض ، فلم يتذوقوا لذة أعظم من دم العراقيين ، ومن ذلك الألم المسكون فيهم
وقد اضطرتهم العربات الأمريكية ، المتهادية بنزق أمامهم ، حتى غدا الوقت رصاصياً يرفض المرور لاجتيازهم الأراضي الزراعيةَ العطشى ‘ كانت طوال الوقت تربِّت على كتفه هامسةً له ، ضاغطةً بقوة لا تعرف كيف نمت فيها على تلك العاصفة من الهلع التي تجتاحها .
امتد الطريق طويلاً موحشاً ، ليست إلاّ عربتهم الصغيرة تطوي المسافات ، وعربات لبعض المزارعين ترافقهم بعض الوقت لتختفي وسط الحقول ,
- كان الأجدى أن نبقى وراء الأمريكان ، ولا نجازف في العبور إلى هذا الطريق
لم يسمعها السائق ،
بعد أمتار قليلة ، ظهر مجموعة من الملثمين ، أشاروا عليهم بالتوقف ، ثم فتحوا الأبواب الجانبية ، وطالبوه بالخروج ، فلقد كان الشاب الوحيد في العربة ، مع ثلاث نساء ، فتشبثت به ، أذهلها المكان الذي تلاشى ، وأصبحت الدنيا ، حضنها الذي لا يتسع إلاّ لولدها ، الذي ذاب بين ذراعيها
- يا أمي
أدخل أحدهم رأسه من الجانب الآخر ، كانت ملامحه تشي بقسوة مموهة بالفرح العجيب ، كيف لها أن تفهمه ؟ ماذا يريد ؟
انتزعوه من بين يديها عنوة ، فذاب , خفق قلبها ، وكأنهم اقتلعوا حياتها في لحظات ، أخرجوه من العربة ، مذهولاً ، غائراً في عالم ضبابي ، تهالك بين أقدامهم ، فرفعه أحدهم من ياقة قميصه ، ركضت إليه
- ماذا تريدون منه ؟
- إرجعي وإلا ...
- ما الذي يثبت أنه أبنك ؟
- ماذا تعني ؟
- أوراقه الثبوتية ! أين هويته
- أية هوية ؟ إنه طفل ، صبي مثله لا يحتاج إلى هوية !
- صبي ..!
مدت يديها المرتعشتين إليه ، توسلت إليهم أن يعيدوه إلى حضنها ، لكن ذلك الرجل متضارب الملامح أشار إليهم ، فجرجروه إلى مكان منعزل على ربوة مرتفعة قليلاً ، بعيداً عن الطريق الترابي , تحيطها أشجار كثيفة ، عندما اجتازوا به مجموعة منظمة من التعريشات المنخفضة ، حيث تدلت عناقيد العنب الزاهية ، فتراطم الحزن المخزون فيها مع ذلك التنظيم العجيب للكروم .
هرولت إليهم ، لكنهم صوبوا بنادقهم إليها ، كانت هناك حواجز ترابية عالية ، وثمة رجال بملابس غريبة ، دفعوا به إلى داخل إحدى العربات الفارهة ، مع مجموعة من الشباب المقيدين ، بعد أن قيدوا يديه إلى الخلف هو الآخر ، صرخت بكل ما فيها من هلع ،
- آه...........
- بالله عليكم ، ارفعوا بساطيلكم عن قلبي ، إنه كل ما تبقى لي ، أتركوه من أجلي .
وضع سلاحه في صدرها ، ودفعها بقوة أفقدتها توازنها ، فتدحرجت إلى أسفل الربوة ،
احتضنتها تعريشات العنب ، فأصطدم رأسُها بمساند التعريشات الخشبية ، فتهاوت فوقها لكنها في تلك اللحظة ، سمعت صوت محركات العربات مزمجرةً بعيداً عنها ,
تطايرتْ روحها إلى أقصى مجاهل السماء ، كانت وحيدة ، لا تريد أن تصدق أي شيء مما يجري حولها فلملمتْ روحها ، وعادت لصعود الربوة ، من جديد ، ما عادت تحس بأي معنى للحياة ، خذلتها ساقاها ، لكنها تحاملت على هوانها ، لا تعرف كم امتد بها الوقت ، فهي عندما وصلت إلى هناك ، كان المكان خاوياً ،
عادت تجر جسدها المعفر بالتراب ، وثمة خطوط دامية على خديها ، عرفت أن الأرض تخلت عنها ، فرفعت وجهها إلى السماء ، فرائحة الموت تنخر في جسدها متاهات بعمق الخوف المغروز فيه ,
عادت إلى الطريق الترابي ، امتدت سحابة عالية تحجب كل شيء ، والآخرون المذهولون ، يرتجفون ، في تلك العربة التي غدت بعيدة ، يبحثون عن سبب لما حدث ، أو عذر لهذا الخوف ، الذي كبلهم بالمهانة ، وأرض ترابية حملت آثار أقدامها لتبحث عن ولدها الذي غادرها إلى المجهول وحيدة ، منهكة ,
تلفتت خائفة ، وثمة سؤال لا تعرف معناه ، كيف تركته لهم ؟ كيف قطفوا منها سِنيَّ عمرها بهذا القدر من اللامبالاة ؟
على المسافة البعيدة عنها ، تراصفت بيوت طينية ، فدبت فيها الحياة ، ركضت باتجاهها ، مستنجدة بالسماء علها تجد فيها ملاذاً لروحها الضائعة في هذا التيه ، وثمة خوف من أنّ تلك البيوت ليست إلاّ سراباً يدعوها للحاق به ، إيغالاً في اقتلاعها من هذا العالم .
عندما وصلت إلى تلك البيوت ، كانت ملابسها ترشح بالعرق ، والأرض حولها ، تحتضن مجموعة من المرشََات الحديثة ، يتدفق ماؤها ، رغم أن النباتات المزروعة كانت صفراء متيبسة ، تتناثر بينها أشجار مغبرة ، جرداء ، وبقرات عجاف ، تدلى ضرعهن ، ونتأت عظامهن ، يقفن متكاسلات ، , في الباحة الترابية أطفال شبه عراة ساقوا قطيع من الماشية ، فامتلأ المكان بالغبار ، انتبَهوا لقدومها الطارئ ، فتدافعوا للانزواء أمام أحد البيوت .
من مدخل إحدى الغرف أطلت امرأة عجوز ، ويدها على المزلاج ، والأخرى تسند بها قامتها المتهالكة على عكاز أعلى من هامتها
تقدمت نحوها
- إبني ....
وانهارت ، وقد نسج القدر خيوطه الموحشة حول قامتها المنهكة ، فأقعت على الأرض الملوثة بروث الحيوانات ، تعالت شهقاتها ، فتوقف الزمن ، وحلقت أطواق السنونو ، مبتعدةً عن ذلك الأنين المقلق
جلست العجوز مطرقة إلى جوارها ، مترنمةً بشجن .
تقهقهر الأطفال إلى آخر المكان ، في الداخل عشرات النساء ، وقد أطلت بعضهن متشحات بالسواد ، غارقات في عالمهن البائس ، شاركنها حزنها ، وكأنهن يعرفنها منذ عشرات السنين ، ثم اقتدنها إلى الداخل ، لاحظت أن خشب سقف الغرفة القديم يحتضن الق أعشاش السنونو الجديدة ، لم تلحظ في قمة انفعالها كيف دخلت إلى الغرفة الطينية ، وكيف جلست على الأرض .
وُضِع أمامها وعاء مليء بلبن رائب وخبز ، دعتها العجوز لتناوله
قبل أن تمد يديها إليه ، هدر صوت عربة في الخارج ، فرانَ على النساء قلق عجيب ، وانزوين في ركن الغرفة ، خرجت المرأة العجوز ، تجر خطاها المتعبة ، وصوت ارتطام عكازها بالأرض ، يعكس شيئاً من التوتر، وكبرياءَ مَن تملك زمام الأمور ،
فنشب لغط في الخارج ، وصوت بدأت تسمعه بوضوح .
همَّت بالخروج ، لكن النساء تحلقن حولها ، طوقنها ، ذلك الصوت الخفيض عرفته ، ومن خلال فرجة الباب الضيقة ، لاح لها وجهه ، إنه هو بملامحه المتضاربة ، وفرحه الذي لا يعرف الانكسار ,
تزاحم فيها الألم ، واندلع الصراخ ، فامتدت إليها أجسادهن ، أيديهن ، أغلقن حولها منافذ الحياة ، فتساقط جسدها مختلجاً ، ومن بين رؤوسهن المرتطمات , هناك في سقف الغرفة ، رأت رفيف السنونو يطعم أفراخه