Fati المديــــر العــام
اسم الدولة : فرنسا
| موضوع: ماريّا طفلة الأخدود السبت يونيو 06, 2009 10:51 pm | |
|
رواية للكاتب , مانع دواس , قادم من نجران صادرة عن دار الفراديس البحرينية
الرواية تتوسّل بالحادثة التاريخية الشهيرة , التي وقعت قبل أكثر من خمسة عشر قرناً , وفيها أحرق عشرون ألفاً من سكنة الأخدود بنجران , وهي ذاتها القصة المذكورة في القرآن الكريم في سورة الأخدود , وتحاول الرواية إيراد بعض تفاصيل هذه الحادثة , بغية توظيفها في قصة أعمق وأكبر وأكثر أصالة , وهي العلاقة العاطفية بين ثامر ( أو حسين ) الشاب النجراني , وبين ماريّا , طفلة الاخدود المُنتمية إلى الزمن السحيق الذي وقعت فيه المحرقة .
والرواية ليست مجرد توثيق , أو سرد لأحداث رتيبة , وإلا فستكون " تأريخاً " تبسيطياً يلتمس تفاصيل الواقع أكثر من عنايته بالأدوات الجمالية والنثرية والشاعرية , وهي ذات الأدوات التي تزخر بها الرواية وتحلق بخيال القارئ إلى فضاءات وأبعاد قصيّة , نعي ذلك حينما نقرأ لمانع قوله " أدركت أننا لا نفرق كثيراً بين الواقع والخيال مهما نظرّنا حول ذلك " ص 52 . والذي يتعمق في هذه العبارة يجد أن الخيال الأدبي عند الكاتب ليس وسيلة من وسائل تدبيج النص أو تزيينه , كلا , إن الخيال هنا هو أساس هذا العمل , وما سرد هذه الوقائع التاريخية إلا وسيلة أو ذريعة لإيلاج المخيلة بوصفها اللاعب الرئيس في النص . وهذا ليس عيباً ولا ريب , إذا ما علمنا أن العمل الأدبي يهتم – أكثر ما يهتم – بالجانب التخيلي والإبداعي , وأما بقية التفاصيل الأخرى , من وقائع , وأسماء , وشخصيات , فهي أدوات تكميلية , للفكرة المُتخيَّلة .
هذه المُخيلة " الأخدودية " تقود بالضرورة إلى ماريّا , وهي تقريباً محور النص كله , فمن هي ماريا ؟ لندع الكاتب يتحدث ويصفها قائلاً " كنبتة برية مُزهرة في صحراء مُقفرة قبل أن تكون واحة غناء بدت لي . كفراشة من نور في كهف ساحلي بدت لي . كنجمة شتائية استثنائية لماعة , تطل في المساءات بين سُحب سوداء مُتراكمة بدت لي . كأي شيء يُطل فجأة دون اعتبار لوقت , لمنطق , لواقع , لحقائق , لأباطيل , لسُنة حياة " ص 25 . ويُسهب الكاتب في مواضِع كثيرة من روايته في إظهار صُورة ماريّا بمظهر الكائن النوراني الملكوتي . وهنا يتعين عليّ أن أطرح سؤالاً : هل النموذج الأنثوي هنا , في هذه الرواية تحديداً , يتقاطع مع الواقع الحرفي ؟ هل توجد امرأة بهذه المواصفات في واقعنا الساذج ( الواقع المادي ) أم أن هذه التصورات الأخدودية ترتبط فقط في ذاكرة الكاتب وحافظته العقلية ؟ إن الجواب هو طبعاً لا , إنه لا توجد امرأة بهذه الهيئة , وكل النساء الجميلات هنّ كذلك بفعل المُخيلة وليس إلا . إن المُخيلة ليست ذات تأثير هائل على العمل الأدبي وحده , صحيح أنها تبرز به أكثر من غيره , لكن باقي مناحي حياتنا هي بشكل أو بآخر وليدة الاحتكاك بالخيال , وما الواقع إلا محفز ومُثير لخاصية الانتباه . ماريّا المُتخيَّلة والمنسوجة من آلام القرون , وويلات السنين , وصرخات المُضطهدين والمنكوبين , هي فتاة تتجاوز ذاتها , والتاريخ , وتحافظ على جمالها اللاواقعي , لتصير أيقونة غير حقيقية , أيقونة لا تليق بتربة الواقع وأوحاله , وإنما تتسلق عنان السماء , وتسكن في بُقعة مُضيئة ذات عرش عظيم .
ولعل هذه النظرة بإزاء الكائن الأنثوي لهي أرقى بكثير من الكتابات الممجوجة التي ظهرت علينا في الآونة الأخيرة , لا سيما من أرباع الكتاب الذين يحسبون الكتابة مجرد " سرد " للتفاصيل الجسدية لأجل " إثارة " النزوات الرخيصة . تأتي الأنثى في النص الأخدودي بوصفها الكمال , الوجود , اللامتناهي , اللامحدود , أي باختصار : الموضوع الذي تشتغل عليه ملكة الخيال , وتُعمل نفسها فيه باستمرارية , فلا موضوع في الرواية كماريّا , وهي كل شيء مُهم فيه . ولكن هذا لا يعني أيضاً أن ماريا تجسيد للقيمة العاطفية لوحدها , ولكنها أيضاً , فتاة مسيحية , ترتدي الصليب على صدرها , ويتعرض أهلها للظلم على يد العتاولة اليهود الآتين من بلاد حِمير . هي ليست موضوعاً عاطفياً فحسب , وإنما هي أيقونة رمزية تتكثف فيها الدلالة العاطفية ( الأنثوية ) مع الدلالة المسيحية ( الحُب الإنساني ) مع القيمة المسلوبة للإنسان ( المحرقة ) وبواسطة هذه الماريا , تتماشج هذه القيم والتضحيات , وتتماسك , وتكتسب معناها ووهجها .
وبجانب ذلك , يشعر القارئ بأن ماريّا تستمع للصوت المنادي لها , وهو يدعوها – من باب اضطهادها ومُشاطرتها لهمومه – في مطلع الرواية : " ماريا , أكتب إليك أمام الملأ , تحت وقع أنظارهم ومرامي سمعهم , تحت رحمة سياط أقلامهم وربما مشانقها " هذا النداء , لم ينطلق من لسان المُتكلم عبثاً , إنه نداء يفترض مُسبقاً , أن ماريا سوف تستجيب , لأنها فتاة تحمل هماً , تحمل ندبة غائرة في ذاكرتها تمثلت بمحرقة شنيعة خلدها أقدس كتاب عند المسلمين ألا وهو القرآن الكريم . وأيضاً لا نعرف , هل وصلت الرسالة ماريا ؟ هل استمعت لهذا الصوت المُتسلل من المُستقبل , الصوت الذي اصطفى أذنيها من بين ملايين البشر ليحقن فيها هذه الكلمات ؟ لا أحد يعلم , قد تكون ماريا اختفت , أو ماتت , أو تلاشت ! " كثيراً ما نرى في حياتنا غياباً مُفاجئاً لشيء ما , ومن ثم ظهوره على بشكل مفاجئ , وكأننا لم نحرث الأرض بحثاً عنه ليُطل علينا فجأة وفي غير مُناسبة انتظار مُلحة , ورُبما كنا فقدنا الأمل في العُثور عليه " ص 15 . وهي ذاتها ماريّا فتاة الأخدود المتطهّرة بصلوات الكنيسة :
" ماريّا .. إلى أي سماء صعدتِ !
ماريّا .. ماذا قلتِ ؟ ولم بكيتِ ؟ وبم همستِ ؟
فأنا لا أعي شيئاً .
وخاتمي ماريّا .. هل استودعته تذكاراً ؟
حسناً , وهذا الذي أعطيتني إياه !
هل قلت أنك صليبٌ أرسله الرب لي ؟
آآه ماريّا أية روح طاهرة أنتِ ؟ "
| |
|