- من أين يأتي نصّ كمال الرياحي؟
يجيء النصّ عادة من منطقة مظلمة من الوعي تتقاطع فيها الذاكرة بالراهن. منطقة عصيّة على الفهم و على الإدراك .هي منطقة ممنوعة من التمظهر .منطقة حدودية بين الوعي و اللاوعي. منطقة محروسة جيّدا بأشرس أنواع الجيوش يحملون شارة موحّدة :النسيان.
لكنني عندما أريد أن أبسّط هذا السؤال و أنزله إلى منطقة أقل تركيبا و تعقيدا. أقول إن كل نصّ كتبته جاء من صورة ، كان يتشكّل في ذهني لوحة و في كثير من الأحايين كنت أجسّدها على الورق أو على القماش ثم تناديني بعد وقت لأحولها إلى قصة قصيرة أو مقطعا في رواية أو فكرة لدراسة نقدية لذلك حمل كتابي النقدي الصادر في الأردن "حركة السرد الروائي و مناخاته"عنوانا فرعيا"في استراتيجيات التشكيل".
لقد اكتشفت موهبة الرسم عندي قبل أن أكتشف موهبة الكتابة و كثيرا ما كنت أتعرّض للتأديب من والدي أو أخي الأكبر لأنني كنت أعمل في كتبهما و مجلاتهما مقصّي المدرسي فأقطع الصور لأشكل منها صورة أخرى من خلال عملية التلصيق...وقتها لم أكن أعرف تقنية اسمها "الكولاّّج" .
كنت أحيانا أتسلى بتزوير بطاقات الدخول إلى أفلام السينما التي كانت تعرض في المدرسة و كنت أتقن تزوير الخاتم الحي بشكل كان يفاجئ زملائي ،بعد ذلك انشغلت في سنوات التعليم الثانوي بترتيب الحيل و المقالب لأصدقائي و مازلت أذكر ما فعلته بأحدهم في سنة الباكالوريا عندما أرسلت إليه استدعاء مزوّرا للذهاب إلى تونس كي يقوم باختبارات الدخول لسلك شرطة المرور الذي كان يعشقه و كان لا يكفّ عن إرسال المطالب في ذلك الشأن.
أذكر أن تلك القصة دامت شهرين و ظل يحلم المسكين بالبدلة الزرقاء و المسدّس المرشوق في حزامه و هو يأمر و ينهي في تقاطع كبير بالعاصمة و يجهّز أدوات الحلاقة و الملابس الرياضية للاختبار و لم يشكّ أبدا في الورقة التي أرسلتها إليه و التي كانت مزوّرة ،عندما أعلمته بالأمر قاطعني لمدة سنة كاملة و كان من أقرب أصدقائي فعدلت عن هذه المشاكسات و علمت خطورة ما كنت أقترفه بدافع محبتي للتقليد و إظهار براعتي في الرسم. هكذا كانت حياتي الأولى مع عالم الرسم و الخطوط.
- كان يمكن أن تتحوّل إلى مزوّر كبير.؟؟!
- أجل كان يمكن أن يكون عندي مستقبل مشرّف في هذا الاتجاه "يضحك "..اليوم و عندما أتأمّل هذه الذكريات و هذا الانحراف بموهبة الرّسم أحسب أن سببه انسداد الآفاق لأنّ تلك الموهبة ظلت موجودة بالقوة عندي حتى ظهرت في المرحلة الجامعية أين قمت بمجموعة من المعارض في الكليات و دور الثقافة في العاصمة و صمّمت أغلفة كتبي و وضعت لوحات و صور لدواوين شعرية....
لم ألتزم بمدرسة فنّية معيّنة فكنت أرسم الطبيعة الميتة و الكاريكاتور و التجريدي ، نشرت بعضها في الصحف و المجلاّت و جعلت لنفسي إمضاء شبيها بحنظلة العلي و سمّيته "المهلهل" ، لكن غرامي الشديد كان بالرسم السريالي.
- لماذا؟
- لا أدري ربما عيني سريالية الهوى . أحاول أن أفهم ذلك ،سحرتني لوحات سالفادور دالي لأنه تقاطع مع ولعي بسرد الكوابيس و المآسي ،غير أن هذه الكوابيس كانت تغمرها أحيانا المسحة الساخرة المستمدة من ممارستي للكاريكاتور فكانت قصصي ميلودراما تعتمد السخرية السوداء و استمر هذا الأسلوب حتى ظهرت روايتي "المشرط" التي حاولت أن أرسم فيها تونس التي أحياها اليوم و أن أجمّع شتات وجوه عرفتها أو توهّمتها و رسمتها على الورق.
- و السينما؟
- فعلا موهبة الرسم و محبة التشكيل نافسها في وقت ما إلى جانب الكتابة غرام السينما فدرست لمدة سنة مادة "السينما و تاريخ الصورة" و تفوّقت فيها نتيجة ما يربطني بعالم الصورة الذي لم انقطع عنه أبدا إنما كان يلاحقني بطريقة لاواعية أحيانا.فكنت أشتغل في العطل و خاصة عطلة الصيف مع مصوّر فوتوغرافي .
أذكر أن أوّل اشتغالي بعالم التصوير الشمسي كان مع مصوّر غريب من أحبّاء ناد كبير من الأندية الكروية في تونس توفي بجلطة اثر إحدى هزائم هذا الفريق في التسعينات و قبل أن يرحل رفض أن يعطيني أجري لأنه سمع أنني من أحباء الفريق المنافس...صورته لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي فقد ارتبطت عندي بالمتعة المؤلمة : التصوير و العرق الضائع .
ثم انتقلت إلى الاشتغال مع مصور فوتوغرافي موهوب لم يجعلني أعشق فن التصوير وحسب بل عشقت الأجواء الغريبة التي يتم فيها و التي كانت ملهمتي في كثير من القصص و في رواية "المشرط" فقد كان هذا المصوّر يكلّفني بالمهمّات الصعبة كما كان يقول لي دائما و تتمثل في تصوير حفلات الأعراس و غيرها في مناطق نائية جدا ....مناطق وراء الشمس.
فكنت أركب عربات الشحن و أحيانا الجرّارات و البغال لأصل إلى تلك المناطق التي لا تجرؤ سيارة على الوصول إليها و رأيت هناك نماذج بشرية غريبة و عجيبة شكّلت بعد ذلك جزءا مهما من ذاكرتي التخييلية . لن تتصوّر ما كنت أحظى به من اهتمام عندما أصل البيت القصيّ الذي تدور فيه مراسم الحفل ؟كنت أنزل من الشاحنة أو الجرار أو من فوق البغلة متأبطا آلة التصوير الكبيرة و أحمل على كتفي حقيبة الأفلام ....
فيتدافع أهل العروسين نحوي كما لو كنت ضيفهم الوحيد....أتفهّم الآن ذلك الاحتفاء بأنني كنت الذاكرة التي ستخلّدهم من خلال الصورة. تلك التجربة مثّلت المعين الأهم بالنسبة إلى تجربتي الإبداعية لأن تلك التجربة لم تحدث إلا معي.كان أهل تلك القرى يتهافتون على الصورة و التصوير خاصة النساء كن يسترقن الصورة في غفلة من رجالهن أو آبائهن و إخوتهن. كانت الفتاة تجمع الدنانير القليلة من بيع البيض و الكبّار و نحوه ،كي تلتقط لوجهها صورة في عرس فلانة أو فلان.
كانت الصورة في بعض وجوهها فألا حسنا و حجابا لزواج مرتقب.هناك في قريتي الأسطورية كانت الصور تهرّب كالأفيون فالحبيب العاشق الذي يمتلك صورة حبيبته عاشق محظوظ و العاشقة التي تتجرأ على إرسال صورتها إلى رجل امرأة مغامرة .كثيرا ما رفعت الفؤوس و شحنت البنادق و فتحت الأمواس و سالت الدماء لأن أحدهم عرض صورة امرأة أمام أقاربها....صورة المرأة كانت جريمة أيضا..
إنها متعة محرّمة لذلك أجد صعوبة في العثور على صورة لوالدتي وهي شابة.كل صورها كانت لاستخراج بطاقة التعريف أو دفتر المعالجة...صورة ميّتة لطبيعة حيّة.الصور قد تسرق هويات حضارات و شعوب ،هذا ما تحكيه لوحات المستشرقين التي احتفلت بالجسد الأنثوي العربي المكلوم ...
- كيف تفاعلت الصورة مع الكتابة في تجربتك القصصية ؟
- الصورة و الكتابة عندي صنوان فالروائي حسب رأيي ليس سوى ملتقط صور و واضع لوحات و صائد وجوه عابرة، لكنه أيضا عالم بزوايا التقاطها و بحجمها و بنسبة الضوء و الظلمة و خبير بالألوان.يقول الروائي و الباحث المغربي بنسالم حميش"إن الرواية ثقافة بقدر ماهي ممارسة إبداعية [...] إن من يكتفي بين الروائيين باستلهام سرّته و دخان سجائره يقصي نفسه من الأدب الروائي قبل أن يقصيه الآخرون".
و من ثم على الروائي حسب رأيي أن يعلم القليل عن فنون مثل الرسم و التصوير الشمسي و الإخراج السينمائي و يحاول توظيف تلك العوالم و التقنيات و يذيبها داخل منطق الكتابة الروائية و هذا بالضبط ما فعلته في "المشرط"و ما أفعله الآن مع "الغوريلا".
- هل هذا عنوان الرواية الجديدة؟
- هو اسم الشخصية الرئيسة في الرواية أما عنوانه فسأتركه مفاجأة. أعود لأقول لك :إن الرواية قد تنبت من لوحة كما رواية دان براون "شيفرة دافنشي" و رواية"الحب المجنون "للوبروطون و رواية "في مديح زوجة الأب" لماريو برغاس يوسا كما يمكنها أن تنبت من لقطة سينمائية أو برنامج تلفزيوني .هذا ما سيظهر جليّا في روايتي القادمة.
لذلك فقد سحرتني حركة "المشرط "في قضية "شلاط العاصمة" أو قناص النساء و رأيته فنانا يمضي على لوحاته على طريقة" زورو"،إنه كان يحتفل بالجمال على طريقته فيحدث الألم داخل المتعة،لا يهمّني طابعه الإجرامي ففي كل منا مجرم صغير .فليس الفنان من يضع العمل الفني إنّما هو من يشير إليه و يقول هذا عملي، هكذا فعل ديشومب مع رائعته و صدمته عندما عرض مبولة واضعا إمضاءه عليها ليربك تاريخ الفن و مفهوم الجمال.
- هذا يعني أن الأدب في علاقة متينة بالرسم ؟ ما هو سرّ هذه العلاقة ؟
- إن علاقة الأدب بالرسم كانت و مازالت العلاقة الأكثر حميمية فكل من الفنّين يقصّ و يسرد الحكايات حكايات الشعوب أو الأشخاص أو الوجوه أو الأمكنة أو الأشياء و الأجساد لذلك انعطف الشعراء على اللوحات و استوحوا منها قصائدهم فها هو الشاعر الألماني فالتر باور و الشاعر الايطالي كارلو كوردونا يعيدان إنتاج لوحة العميان لبتر بوجيل الأكبر أو الريفي التي رسمها سنة 1568 و هاهي الموناليزا لليوناردو دافنشي تأسر الشعراء فيكتبها الشاعر الايرلندي ادوارد دودون و الاسباني مانويل ماتشادو و الألماني هيرمان كلاوديوس و الدانمركية بيرتة آرنباك و الهولدندي بيتر سبان و حوّلت الشاعرة البولندية أنا بوجو نوفسكا حقل القمح و الغربان لفان كوخ إلى قصيدة رائعة و احتفل الشاعر الألماني لوثر كلونر بلوحة بيكاسو امرأة جالسة على كرسي وثير و كذلك كان الاحتفاء بلوحات أخرى لسالفادور دالي و خاصة الزرافة المحترقة و أشخاص و كلب أمام الشمس للاسباني خوان ميرو .و كذلك فعل الشعراء مع روائع النحت عبر العصور. إنها أقرب ما تكون بعلاقة زواج المتعة !
- زواج المتعة؟!!!
- نعم لأن الأدب كان يتمتّع بفنّ الرسم بينما الرسم بكبريائه و ارستقراطيته ظلّ بعيدا إلى حدّ ما .إذ لم يحتفل الرسّامون كثيرا بالأدب أو لم يعلنوا ذلك على الأقل إلا مع ما ندر من الأعمال و أهمها شخصية دون كيشوت و تابعه سانشو بانسا للاسباني ميقال دي سيرفانتس.أتساءل دائما كيف أمكن لشخصيات سيرفانتس أن تأسر الفنانين و تجعلهم يرسمونها و يعيدون رسمها مثلما فعل سلفادور دالي ؟
- ما سبب نجاح هذه الشخصية الروائية حسب رأيك؟
- يبدو لي اليوم أن شخصية دون كيشوت ظلت الشخصية الروائية الاستثنائية التي أمكن لها أن تنتزع حضورها على امتداد قرون بسبب عمقها الانساني و لم تنافسها شخصية روائية أخرى على الإطلاق و لم تظهر في الأدب العالمي شخصية ساحرة مثلها أو أقل منها إلى أن خرج علينا ميريماي بكارمن ثم نيكوس كازنتزاكي بشخصية زوربا .
- هل أثّرت فيك هذه الشخصيّات و هل كان لها وقع في نفسك و في إبداعك؟
- إن هذه الشخصيات الورقية التي اكتست عظما و لحما و عاشت بيننا و أثّرت في كل من قرأها هي الشخصيات التي حلمت أن أدنو منها من خلال الكتابة لذلك رسمت شخصية النيقرو في المشرط بكثير من الجهد ،هذه الشخصية كنت قد رسمت لها تخطيطا ورقيا حاولت أن أضبط ملامحها و لونها و ما حصل لها من تشوّهات قبل أن أرمي بها في أتون السرد و جحيم القص .
-حكاية أخرى مع الرسم خضتها في رواية المشرط من خلال عملية استنطاق لوحات عالمية شهيرة؟
كيف فكّرت في ذلك؟
- تناولت تيمة اللحظة البدئية أو قصة الخطيئة و خروج آدم و حواء من الجنة ،كتبت حوارا بين حواء و آدم من داخل اللوحات و رتبتها بحيث تسرد القصة من زاوية معينة تخدم نسق الرواية .هي فكرة أصيلة وخاصة في الرواية العربية .
- ذكر ناقد سوري في مقال له حول روايتك أن روايتك المشرط من هذه الزاوية تذكّرنا برواية "في امتداح الخالة"لماريو باغاس يوسا ما رأيك؟
- كما سبق و قلت لك إن العديد من الروايات العالمية اشتغلت على الفن التشكيلي و اللوحات العالمية و ذكرت لك يوسا و لوبروطون و دان براون. كل واحد من هؤلاء تعامل مع الرسم من منطلق الحكاية التي يسردها في روايته و وفقا لرؤيته لفن الرواية . و ما قدّمته في المشرط ليس فيه علاقة لا من بعيد و لا من قريب بما كتبه يوسا.رواية يوسا رواية ايروتيكية و روايتي غير ذلك .ربما أخذ الكاتب بوجود لوحات في رواية يوسا لرسامين عالميين .
أو أخذ بمقطع من مقاطع الرواية يتحدث فيه الراوي عن عجيزة زوجته . روايتي مستوحاة من الواقع التونسي كما تعلم.أي أنها تقول الراهن التونسي بكل ألوانه الوردية و الرمادية و حضور الرسم فيها له علاقة كبيرة بهوية كاتبها و لو انتبه الناقد إلى لوحة الغلاف لأكتشف تلك العلاقة.
تقيم علاقة عجيبة بين القص و الشيطان كيف تبسطها لنا؟
يقول غوته في فاوست ""أيها المولى الجليل[...]أنا لا اعرف كيف اتحدّث عن الشمس و لا عن الأجرام السماوية . و إنّما أعرف بني البشر و كيف يعذّب بعضهم بعضا.إن ابن آدم – اله الأرض الأصغر- لم يزل على طوره القديم لم يتغيّر. و هو اليوم عجيب "غريب" كما كان في اليوم الأوّل .
و أن حاله قد تحسّن و عيشه قد طيب،لو لا انّك منحته ذلك الشعاع من النّور السماوي، الذي سمّاه العقل. و اتّخذ منه آلة يتوسّل بها لكان أكثر بهيمية من البهائم،و أكثر وحشية من الوحوش"
و يقول ميشال بيتور" القصة ظاهرة تتجاوز حقل الأدب تجاوزا، كاملا فهي إحدى المقوّمات الأساسية لإدراكنا الحقيقة . نحن ، من حيث نبدأ أن نفهم الكلام حتى موتنا محاطون بالقصص دون انقطاع"
تبدو لي القصص، كما تشي بذلك عبارة بيتور، نباتا شيطانيا ينبت أينما شاء، فلا أرض له و لا وطن، هائم على وجهه قد يعترضك في الصحاري و قد يباغتك في البحر و قد تصادفه في الجو/ الهواء . و هو مثل الشيطان وسواس خنّاس يستولي على قلبك و عقلك و مهما تمنّعت سيصرعك هواه و يأسرك سحره.
ربّما لأنّ فيك شيئا منه فأنت مخلوق من قصّة يعبّر الإنسان عن ذاته و عن الآخرين من خلال القصّ،و هذا ما يكشفه بول ريكور من خلال مقولته الشهيرة "الهوية السردية" في مؤلفه "الذات عينها كآخر" يقول ريكور :
" حين نتساءل أمام وقوع حدث معيّن عمّن كان مسؤولا عنه فإنّنا نردّ بإعطاء اسم احدهم ،أي بإعطاء اسم علم معيّن.غير أن هذا الشخص الذي أعطيناه هويّة لا تختصر حياته بهذا الحدث فقط،و من اجل التعرّف إليه لا بدّ من أن نروي قصّة حياته بأكملها . غير أن سرد حياة لا يمكن أن يكون موضوعيا بل يمزج فيه الواقع بالخيال، و نحن نميل دوما إلى ذلك لأن وضع الأحداث بقالب قصصي يسهّل علينا عملية فهم الفرد و استيعاب مختلف أطوار حياته".
إذا ما تذكّرنا أن الشيطان أو ابليس أحد علل وجودنا على الأرض أو أحد متمّماتها فهو /ابليس الذي قصّ على آدم و حوّاء قصة الشجرة المحرّمة فأوعز لهما أنها شجرة الخلود و كل من أكل من ثمارها لا يقربه الموت لذلك حرّمها الله عليهما حتى يكون الموت مصيرهما . اعتقدنا أن القصّ أيضا سليل الشيطان في جوهره .
و أن ما نقرؤه ليس سوى أنسنة لهذا النشاط الشيطاني ،إذ الشيطان قصّاص كبير لا يمل خلق القصص و روايتها . الفرق بين القاص/ الإنسان و القاص الشيطان أن الأول يتوجّه بقصّه لأبناء جنسه و لعدد غير محدود من المتلقّين ،أي انه قص مفتوح و "باب مفتوح" على المتعة المباحة بينما القاص الثاني /الشيطان يقصّ لجنس آخر :قص شخصي يهمس في أذن متلقّيه وحيدا بقصّة خلقها و ابتدعها له دون سواه . قصّة على مقاسه النفسي و الذهني و الأخلاقي و هي قصّة تستهدف ضحية و فريسة و تحدث متعة محرّمة لخالقها .
و إذا ما عدنا ، أيضا ، بالنظر إلى علاقة المرأة بالقصّ من خلال استحضار صورة شهرزاد التي تروي القصص من أجل غواية شهريار و تأجيل الموت القدري و درء ذبحة السيف الصباحي ، صدّقنا أن القصّ هو الحياة و أن الحياة لا معنى لها في غياب الشيطان فهو محرّكها الأساسي الذي يحول دون سقوط الإنسان في الملائكية.
و إذا ما اعتبرنا أن الغاية من القصّ هي إحداث متعة ما : متعة الخلود عند آدم و الشماتة و لذّة كسب الرهان التدميري عند الشيطان و متعة البقاء عند شهرزاد و متعة الحكاية عند شهريار ، انقلبت المتعة طرفا رابعا لتقاطع عملية القصّ : الشيطان /الإنسان /الحياة /المتعة.
اقترن القصّ أوّل أمره عند بعضهم بالإفساد :افساد الذائقة و إفساد الأخلاق و لا حاجة لنا بالعودة إلى التذكير بقصته مع أساطير الأوّلين لكننا سنذكّر بنشأة الرواية الغربية حينما اعتبرت مفسدة للأخلاق مع بوالو و نذكّر بمحاكم التفتيش التي لاحقت القصاصين و الروائيين عبر العصور منذ فلوبار مرورا بسلمان رشدي و محمد شكري إلى دان براون .
و قد شبّه الروائي التونسي حسن بن عثمان السرد بمستويات الجريمة فقال : إنّ القصة القصيرة جنحة و الرواية جريمة "و يرجّح كل من رولان بورناف و ريال أوئيليه في كتابيهما "عالم الرواية"أن كتابة الرواية عمل شيطاني ف"متعة الروائي الكبرى [...]هي أن يرى شخصياته تقاومه و تتحرّر منه[...]و تعيش حياتها الخاصة : ص188 كما الشيطان تتمرّد على ربّها الذي وهبها الحياة و الوجود.
و يبدو أن العزلة تمثّل الفضاء النموذجي لازدهار الشيطنة و هذا يعود بنا إلى الحديث الشريف "إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية و الناحية فإيّاكم و الشّعاب".
و ينسحب هذا على المبدع بصفته يعاني من الإفراد أبدا ،فهو الخارج عن القطيع دائما يعشق العزلة و الانزواء ، و هذا ما يجعله عرضة أكثر من غيره لغواية الشيطان ،و في ذات السياق شبّه اليوسفي في "فتنة المتخيّل" الشاعر الصعلوك المفرد بالشيطان المخلوع .
هذا قبل الإسلام؟
أجل،عندما جاء الإسلام لم ينظر للمبدع بصفته شيطانا رجيما إلاّ ما تعلّق بفنّي النحت و التصوير ربّما و الدليل مكانة الشاعر حسّان ابن ثابت عند الرسول صلى الله عليه و سلّم . و من ثم فمن شياطين الإبداع من وظّف شيطنته لصالح أمته و قبيلته و هويته فكان استثمار فعل الشيطنة استثمارا ايجابيا و لم تعد كلمة الشيطان تعني إلا "فائض" مجاز الذكاء و الدهاء .
خاصة أن الشيطنة أصبحت صفة جديدة للإنسان المعاصر المنغمس في الشهوانية و المجون و الذّي جعل الظلم و الإفساد أهم مشاريعه. تأكيدا للطبيعة البشرية المجبولة على إراقة الدّم كما يصفها إبليس غوته فيما صدّرنا به كلامنا .
يتمظهر الشيطان ، كما هو متعارف، في أشكال مختلفة فهو لا يكفّ عن تغيير هيئته فيلقاك في صورة فاتنة أو شبح أو شيخ وقور و قد يعترض طريقك في شكل حيوان أو انسي أو جنّي . كذلك يتلوّن القص.
كاتب و صحفي تونسي