العرب أونلاين ـ نبيل درغوث:
"الكتاب هو المكان الوحيد في العالم الذي يستطيع فيه غريبان كاملان أن يلتقيا بحميمية كاملة"
"بول أوستر"
كمال الرياحي من مواليد 1974 بالعروسة- تونس، تخرّج من الجامعة التونسية حاصلا على الأستاذية في اللّغة العربية وآدابها سنة 2001 وشهادة الدراسات المعمّقة "ماجستر" اختصاص أدب حديث سنة 2005. التقيناه على هامش محاضرة قدمها في أحد المراكز الثقافية بتونس فعرضنا عليه الحوار فرحب به . فكان لقاء أدبيا متميزا مع كاتب يحمل أكثر من موهبة يجمع بين كتابة الشعر والأقصوصة والرواية والرسم والنقد الأدبي مبدع متعدّد، مفرد في صيغة الجمع.
جال بنا كمال الرياحي في أروقة الماضي والحاضر متحدثا عن طفولته ومراهقته وعن المهن التي زاولها والمشاكسات التي كان يقترفها رغم تصريحه بالعدول عنها. فقد بقي مشاكسا في الكتابة. وأكّد لنا أنّ الكتابة تجيء من منطقة مظلمة على تخوم الوعي واللاوعي وهذه المنطقة محروسة بالنسيان. وحدّثنا أيضا عن الكتابة وعلاقتها بالذاكرة وكيف أن هذه الذاكرة هي ذاكرة بصرية وسمعية تنتمي إلى موروث الشعوب والحضارات المتعاقبة.
ولعلّ من يعرف كمال الرياحي ككاتب فقط يغيب عنه أنه رسّام أيضا رغم انقطاعه عن ممارسة الرسم فقد وظّفه في الكتابة القصصية والروائية. ولم يكتف بالحديث عن الحياة. بل مسك بيدنا ليلج بنا إلى عالم اللامعقول عالم الموت و الشيطان. مبيّنا لنا أنّ القصّ و الموت لا يفترقان وأن فعل الكتابة هو فعل مقاومة الموت والنسيان وفعل شيطنة بامتياز.
صدر له
• نوارس الذاكرة "قصص" تونس 1999
• سرق وجهي "قصص و شعر" تونس 2001
• حركة السرد الروائي و مناخاته "كتاب نقدي" الأردن 2005
• المشرط "رواية" ط1 تونس 2006- ط2 تونس 2007 "هذه الرواية حاصلة على جائزة الكومار الذهبي"
وله أيضا بالاشتراك
سميحة خريس:قراءات في التجربة الروائية - الأردن 2005
حوارات ثقافية في الرواية والنقد والقصّة والفكر والفلسفة - الأردن 2005
حوارات ثقافية في الشعر والفن التشكيلي والمسرح - الأردن 2005
كمال الرياحي عرفناه محاورا فذّا أمتعنا بـ "حواراته النهرية" على صفحات مجلّة "عمّان" وغيرها من الدوريات العربية والأجنبية. لكن هذه المرّة غيّر مكانه من كرسي المحاور الذي يبثّ الأسئلة إلى كرسي المحاور الذي يستقبل الأسئلة للإجابة عنها.
إليكم هذا الحوار الممتع مع روائي و ناقد لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد.
- كيف جئت إلى الكتابة الأدبية ؟هل كان قرارا منك أم ساقتك الأقدار إلى محنة الأدب؟ ماذا تنتظر من الكتابة كفعل وجودي ؟ وبم تطالبها لحظة ممارستها؟
"يغرس الواحد منا إصبعه في التربة فيعرف الأرض التي ينتمي إليها من الرائحة التي يشمّها، وأغرس أنا إصبعي في الوجود، فينم عبيره عن اللاشيء، فأين أنا؟ ومن أن، وكيف جئت هنا؟ و ما هذا الشيء المسمى بالعالم؟ وكيف وصلت إليه؟لماذا لم أسأل و لماذا لم أؤهل لأتطبّع بطرقه وعاداته؟ بل قُذفت إلى جوعه وكأنما اشتريت من خاطف ملعون أو من تاجر أرواح؟و كيف أصبحت مهتما به ؟ أو ليس أمرا طوعيا؟ وإذا كنت مرغما على تمثيل دور فيه،فأين المخرج؟بودّي لو أراه؟" نسخت هذه العبارة لكيركغارد وأنا في سنّ مبكّرة في كراس شخصي كنت أهيم به ملتقطا أروع ما قرأت من كلمات لكبار الفلاسفة والكتاب.لا أدري الآن من أين التقطت تلك العبارة ولكنني كنت كلما فتحت دفاتري القديمة إلا و توقفت عندها.
أعلم اليوم أن الأسئلة الوجودية التي كانت تطرحها كلمات كير كغارد قادت مسيرتي الحياتية إلى وقت غير بعيد وأن حيرته مازالت تسكنني بنفس الدهشة.
ولكني أعلم أيضا أنني ما خلقت إلا لأكتب وقد تنقلت منذ طفولتي بين مهن شتّى من عامل فلاحي إلى صائد سحليات وخنازير إلى مهرّب ملابس من وجدة بالمغرب إلى عامل في الكهرباء إلى بائع كتب في الشوارع الخلفية بالعاصمة إلى مصوّر فوتوغرافي يجوب الأقاصي و يتسلق الجبال لاقتناص صور لنساء الغابات إلى محرر في صحف تونسية وعربية إلى أستاذ متعاون بالجامعة إلى محاور...
رحلة تعلمت منها أن الإنسان مثل التمثال أو كما وصفه همنقواي"قد يتحطّم لكنّه لا يهزم" حياتي إذن حياة ملؤها البناء والتخريب حياة تجريبية دائما لا تكل المغامرة ،أستجيب لندائها مثل الرجل المسكون بالجن،أداورها و تداروني ،أهزمها وتهزمني ،أشعر دائما أنني أمتلك طاقة غريبة تحرّكني لأكتشفها،لا أدري صراحة إلى الآن ما نوع هذه الطاقة لأن عندي إحساسا أن بداخلي كائن أكبر مني بكثير ينازع من أجل أن يظهر للعلن.
أعود إلى سؤالك حول ماذا أريد من الكتابة؟ ليتني أعرف ماذا تريد مني الكتابة لأنها هي التي تطاردني مثل عاشقة عظيمة،فلم أذهب نحوها يوما لكنها كانت تقطع عليّ الطريق كلما تركتها إلى هم حياتي آخر فكانت تباغتني و أنا مسافر أتاجر بسراويل الدجينز و الأحذية الرياضية و معاطف الجلد التي كنت أبتاعها من مدينة وجدة بالمغرب وأعود بها عبر القطار الدولي إلى تونس و أنا بعد في الثامنة عشر من عمري.تباغتني الكتابة فاستل قلمي و أكتب على العلب الكرتونية و غيرها.الكتابة هي التي تأتيني و أنا أطارد خنزيرا برّيا في الجبال فأركن إلى شجر الصنوبر لأكتب .لقد تيقنت أن الكتابة هي التي تريدني و تريد مني شيئا قدريا نصبته لي في مكان ما.
هذا لا يعني أنني بلا طريق ،لأني مؤمن بمقولة كولن لولس"الانسان حيوان هادف" ومن ثم فأنا توّاق دائما لتحقيق أهدافي وأعمل من أجلها بضراوة.و "الخيال هو عضو الإنسان في التغيير الذاتي" لذلك فنحن معشر التخييل نعيش من أجل تحقيق ذواتنا التي حلمنا بها لأننا نعلم جيدا أن ما خلقنا به و فيه ليس قدرنا على الإطلاق و أننا نوجد في مكان آخر و علينا طوال حياتنا أن نبحث عنا إلى أن نتقابل مع ظلالنا و أرواحنا.
- يقول نيتشه : " أبتهج كلما أرى الناس يرفضون رفضا مطلقا مجرد التفكير في الموت" فكمال الرياحي لا يبهج نيتشه لحضور الموت في نصوصه ، فلماذا الموت موجود في مجموعتك القصصية "نوارس الذاكرة" ؟
هذا صحيح، وأنا عاشق كبير للموت وما يدور حوله، وأعتقد أن أجمل ما في الإنسان أنه كائن يموت، لذلك يحتفل بالموت من خلال تلك الطقوس التي نعرفها و التي تتغير من حضارة إلى أخرى .الموت هو تتويج للزمن والزمن هو الحي الذي لا يموت رغم كل ما نقوم به من حماقات من أجل اغتياله فنسمي استقالتنا من الفعل و الركون إلى الراحة و تبذير حياتنا في اللهو بقتل الوقت.
و الموت في كتاباتي يمثل مناخا خاصا لارتباطه بتجربتي الحياتية فقد عشت كل طفولتي بين جبانتين واحدة بجانب بيتنا الريفي و هي جبانتنا نحن و جبانة أعبرها قبل أن أصل إلى المدرسة و هي جبانة عشيرة أخرى و بين المقبرتين كنت أحلم بالتحليق بعيدا إلى أن جاء اليوم الذي غادرت فيه أسرتي القرية و نزلنا المدينة فإذ بالبيت تفتح نوافذه على مقبرة كبيرة للنصارى .هكذا أقنعت نفسي أن القبور تلاحقني أينما ذهبت و استأنست بها و أحببتها فباتت مكان إقامة و كتابة و تخييل.
و من ثم فالموت حاضر في كل ما أكتب بداية بالشعر الذي وأدته و بعثته في مكان آخر إلى الرواية مرورا بالقصة القصيرة.
هل تعلم أن القص و الموت لا يمكن أن يفترقا أبدا فشهرزاد ظلت تقاوم السيف،الموت، بالحكاية و جماعة الديكامرون لبوكاشو ظلوا يقاومون الوباء بالحكي في قصر بعيد في الريف و كاتب السيرة الذاتية يقاوم الإحساس بالفناء بتخليد نفسه عبر الحكي و كتاب اليوميات و المذكرات كذلك، و كتاب السير يرومون تخليد الشخصيات العظيمة،قد يتخذ الحكي أنماطا كثيرة من التمظهر فالأهرامات كانت حكيا فرعونيا لكنه حكي معماري و ليس أروع من ذلك الحكي الذي يقص الموت العظيم.
نحن نعيش بالحكي و له و كما يقول بول أستر " القصص أساسية للحياة البشرية،أعتقد أننا بحاجة للقصص بقدر حاجتنا للطعام و الهواء و الماء و النوم،لان القصص هي الطريقة التي من خلالها ننظم و نرتب الواقع."
- يقول إلياس خوري : " الكتابة ذاكرة" فكيف هي ذاكرة الأمكنة في إبداعك؟
أولا أريد أن أتوقف عند عبارة الياس الخوري ،فعلا الكتابة ذاكرة و هي سيرة ذاكرة بمعنى أنها ليست ذاكرة شخصية بل ذاكرة شعب و حضارة و هي كذلك ذاكرتي البصرية و السماعية ،إنها كما يصفها ساراماجو"لغتنا الفعلية الحقيقية العميقة.إنها مخزن ثرواتنا،منجم الذهب،أو منجم الماس،و نحتاج إلى أن نبقيه نشطا و مفتوحا.
"و ليس من قبيل المصادفة أن تكون مجموعتي القصصية الأولى بعنوان"نوارس الذاكرة" فقد دخلتها بذاكرتي المزدحمة بالأسئلة و القصص،كنت أريد أن أصرخ في وجه العالم "إني كلي قصص فهلموا الي اسمعكم" .هذا الإحساس أحسست به و أنا أدخل المدينة التي بدت لي في البداية فقيرة من القص.كانت مثل جدول الرياضيات صامتة باردة ،ملغزة و بليدة مقارنة بقريتي التي كانت أفرانها تحكي رائحة الخبز و جبالها تفوح بأزكى الروائح و أروع القصص الممنوعة.