وقعة الحفرة.. مأساة إنسانية
وفي عهد الأمير الحكم بن هشام الربضي شبت ثورة عارمة بطليطلة سنة (181هـ=797م) نجح هو في القضاء عليها، لكنه خشي من تكرار مثل هذه الثورات، فأراد أن يضع حلا لمنع حدوثها مستقبلا، فأعد واليه على طليطلة عمروس بن يوسف الوشقي خطة خبيثة بتوجيه من الحكم للقضاء على أهل طليطلة.
قامت تلك الخطة على أن يتقرب الوالي إلى أهل طليطلة ويتظاهر بكراهيته لبني أمية وسخطه على حكمهم حتى يأنسوا به ويميلوا إليه، فإذا وجد منهم ذلك أقنعهم ببناء معسكر خارج المدينة للجند والحشم حتى لا يخالطوا أهل المدينة، واختار لهم موقعا بنى فيه قصرا لسكناه، وحفر في وسطه حفرة عميقة.
وبعد أن أتم ذلك جاءت المرحلة الثانية من الخديعة التي أعدها الوالي لأهالي طليطلة، بأن قام الأمير الحكم في سنة (191هـ=806م) باستنفار الناس للخروج للجهاد لمحاربة العدو الأسباني، وجعل على جيشه ابنه عبد الرحمن، وكان صغير السن لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، وأخرج معه ثلاثة من وزرائه إمعانا في الخداع والحيلة.
تحرك الجيش إلى هدفه المزعوم، فلما تجاوز طليطلة، جاءت الأخبار بانصراف العدو، وكرّ الجيش راجعا، وفي أثناء ذلك أوعز عمروس إلى أهالي طليطلة بالخروج لاستقبال الأمير الصغير، فلما أنسوا إليه، طلب منهم الوالي المخادع أن يدعو الأمير عبد الرحمن إلى مدينتهم فاستجاب لهم، فلما اقتربوا من المعسكر الذي سبق أن أقامه الوالي، أعلن عمروس دعوة وجهاء أهل طليطلة إلى مأدبة أقامها داخل القصر، فحضروا وكان قد رتب لهم الدخول من باب، وصُرفت دوابهم من باب آخر.
وجاءت اللحظة الحاسمة التي كان ينتظرها ويعد لها الأمير الحكم، حيث وقف السيافون على شفير الحفرة التي لم يكن يعلم أحد عن سبب حفرها داخل القصر، وضربوا رقبة كل من دخل من وجوه أهل طليطلة، حتى قتل منهم خمسة آلاف ونيف، ولم ينج الباقون إلا بعد أن اكتشف أحدهم الخديعة، فنجوا بأنفسهم.
ثورات متعاقبة
غير أن هذه الجريمة القاسية التي ارتكبتها الدولة في حق بعض رعاياها لم تمنع أهالي طليطلة من الثورة مرة أخرى، غير أن ذكرى المذبحة البشعة جعلتهم يميلون إلى الطاعة وطرح الثورة والتمرد حتى توفي الحكم سنة (206هـ=821م)، وخلفه في الإمارة ابنه عبد الرحمن المعروف بالأوسط، وظلوا على هدوئهم ثماني سنوات من فترة حكمه حتى ثاروا ثورة عارمة في سنة (214هـ=829م) تزعمها رجل يعرف باسم هاشم الضراب.
نجح هاشم الضراب في تحريض أهالي طليطلة على الثورة، والتف حوله كثيرون، وتطلع إلى السيطرة على الثغر الأوسط كله غير قانع بطليطلة، فأرسل إليه عبد الرحمن الأوسط حملة عسكرية استطاعت الإيقاع بقواته والتمكن من قتله.
غير أن هذه النتيجة لم توقف الثورة، فاضطر عبد الرحمن الأوسط إلى إرسال جيش آخر بقيادة أخيه أمية لمحاصرة طليطلة سنة (219هـ=934م)، فحاصرهم حصارا شديدا وقطع أشجارهم وأتلف زروعهم، ونجح أحد قواده في أن يوقع بأهالي طليطلة ويعمل فيهم السيف، ويذكر ابن الأثير: أن رءوس القتلى جمعت وحملت إلى ذلك القائد الذي يدعى ميسرة، فلما رأى كثرتها عظمت عليه وارتاع لذلك، ووجد في نفسه غما شديدا، فمات بعد أيام يسيرة.
لم يكتف عبد الرحمن الأوسط بذلك، بل أرسل الحملات وراء الحملات، وأخذ يبدل في القادة، ولم يفك الحصار الصارم عن المدينة واستمر على ذلك حتى جهد أهلها وعجزوا عن المقاومة، وضاقوا ذرعا بالحصار، فنجحت قواته التي كانت بقيادة أخيه الوليد بن الحكم من اقتحام أسوار المدينة في (رجب 222هـ= يوليو 837م)، بعد أعوام عديدة من الفتن والثورات التي كان يغذيها روح التمرد، ودسائس النصارى من أهلها، وتحريض الفرنجة من أعداء الدولة الأموية بالأندلس.