ولقد دخل الملحون كمادة أدبية إلى الجامعة المغربية حيث ينجز الطلبة منذ عشرين سنة في مجموع كليات الآداب المغربية ما يفوق العشرين بحثا سنويا حول الملحون لنيل شهادة الإجازة أو الدكتوراه. ولقد ساهمت أكاديمية المملكة المغربية في توفير مرجع أساسي للملحون وهو كتاب «المعلمة» للأستاذ الكبير الراحل محمد الفاسي أكبر الباحثين في الملحون والمشجعين له والمدافعين عنه خاصة عندما كان وزير الشؤون الثقافية في الستينات.
ومواكبة لهذا الزخم النظري فإن مجموعة من التجارب حاولت الارتقاء بنوعية الأداء الفني للملحون حيث ظهرت مجموعة جيل جيلالة في بداية السبعينات والتي أعطت دفعة قوية للملحون من خلال إعادة تركيب الجمل الموسيقية واعتماد آلات عزف غير المستعملة تقليديا في الملحون، إضافة إلى اعتمادها الانشاد الجماعي والفصاحة في الالقاء. وقد تعززت هذه التجربة بالاضافات التي حققتها مجموعة ناس الغيوان في هذا المجال. وكان لعودة المرأة لإنشاد قصيدة الملحون أثر إيجابي في علاقته بالمتلقي، إذ شهدت فترة السبعينات اقدام المطربة بهيجة الإدريسي والمطربة المرحومة لطيفة أمل على إنشاد قصيدة الملحون في الوقت الذي كان فيه هذا النوع من الفن حكرا على الرجال. وجاءت التسعينات بأصوات نسائية جديدة منها على الخصوص ماجدة اليحياوي وثريا الحضراوي وغيرهما.
ويمكن اعتبار مدن مكناس وسلا وفاس ومراكش الآن مزودة أساسية للساحة الوطنية بأصوات جديدة خاصة أن هذه المدن لا تتوفر على مجموعة موسيقية بأصوات جديدة، خصوصا انها لا تتوفر على مجموعة موسيقية مختصة في هذا النوع من الطرب.
* ازدهر الملحون مع ظاهرة «نزهة شعبانة». هل مازال سكان العدوتين (الرباط وسلا) يحافظون على هذه العادة؟
ـ من مظاهر الاعتناء بالملحون حاليا إصرار بعض الجمعيات والمنظمات على تنظيم ملتقيات ومهرجانات خاصة بهذا الفن، سواء كانت ذات طابع رسمي كمهرجان سجلماسة للملحون الذي تنظمه سنويا وزارة الثقافة المغربية أو حفلات ولقاءات شعبية تقليدية كتلك الأمسيات الأسبوعية التي ينظمها المولعون بهذا الفن في بيوتهم بالتناوب ليلة كل جمعة. والسبب في اختيار ليلة الجمعة هو أن كل المنتمين لعائلة هذا الفن كانوا في الماضي من الحرفيين والصناع التقليديين الذين كان يوم عطلتهم الأسبوعية يوم الجمعة.
وتعتبر «نزهة شعبانة» تتويجا سنويا مهما لأنشطة عائلة الملحون في المغرب حيث دأبت هذه العائلة على استقبال شهر رمضان الكريم بتنظيم حفلات في الأسبوع الأخير من شعبان تسمى «شعبانة» قد تدوم يومين أو أكثر، وغالبا ما كانت تنظم خارج البيوت وخاصة في البساتين حيث يتفرغ المشاركون للغناء والترفيه والتمتع بملذات العيش في اشارة منهم إلى توديع هذه الملذات واستعدادهم لاستقبال رمضان بما يقتديه من صفاء ونقاء. وبحكم أن مدينتي الرباط وسلا تقعان على ضفتي نهر أبي رقراق فقد تميز حفل «شعبانة» بتنظيم خرجات في القوارب وقضاء يوم شعبانة فوق سطح الماء وإنشاد القصائد في جو طبيعي.
* أية علاقة تربط الملحون بالشعر والمسرح؟
ـ لقد تمت الاشارة إلى أن الملحون هو شعر شعبي، وأنه أقرب فنون القول الشعبي إلى الشعر العربي الفصيح، ورأينا كذلك أن له أغراضه وبحوره، كما أن له ارتباطاً وثيقاً بالمسرح حيث أنه تضمن من بين أغراضه غرضا يسمى «المحاورات»، أي القصائد التي تقوم على أساس الحوار بين شخصين أو أكثر. بل لقد توفق شاعر الملحون في أن يجعل هذا الحوار في قصيدته يتم بين عناصر غير أنسية حيث وجدنا قصائد المحاورات بين مظاهر الطبيعة كالليل والنهار، والشمس والقمر، وبين النبتات كمحاورات الورود والزهور وبين الحيوانات وخاصة الطيور.
وهناك محاورات بين الانسان ونفسه المجسدة في صورة شيء ما، غالبا ما يكون شمعة، وفي هذا المجال فقط أعطى فن الملحون روائع قصائد الشمعة الكثيرة والتي تعد قصيدة محمد بن علي ولد الرازين أفضلها وهي نفس القصيدة التي قدمتها مجموعة جيل جيلالة في السبعينات.
أما أقصى درجات المسرح في قصيدة الملحون وأروعها فإننا سنجدها في القصائد المسماة «الحراز» والتي تحكي قصة رجل تزوج من امرأة هي في نفس الوقت مغرمة بآخر، وهذا الآخر يعمل جاهدا لانتزاعها من زوجها بكل الوسائل والحيل. وقد سبق للطيب الصديقي أن أنجز عملا مهما في السبعينات وظف فيه كل أشكال الحراز في الملحون.
وهناك فرق مسرحية كثيرة استثمرت الملحون في تجاربها المسرحية سواء كمواضيع أو كمقامات موسيقية وإنشادات وخاصة في مدن سلا من خلال فرقة مسرح المبادرة ومراكش من خلال فرقة الوفاء المراكشية.
* الاندلسي الملحون في استقطاب الجمهور هل هو علاقة تكامل أو منافسة؟
ـ يجب التأكيد على أن دخول الطرب الأندلسي إلى المغرب ارتبط بدخول الموريسكيين، وقد تزامن مع ظهور شعر الملحون، وأن الطرب الأندلسي كان فن العائلات الارستقراطية ذات الأصول الموريسكية خصوصا في فاس وتطوان. أما الفئات المتوسطة المكونة من الحرفيين داخل المدن أساسا فقد كان الملحون هو فنهم. والعلاقة بين الفنين كانت علاقة تأثير وتأثر ولم تكن قطعا علاقة تنافر.
أما الآن فإن ظهور منشدين في الطرب الأندلسي يتمكنون بأصوات جميلة ويتقنون المواويل الشرقية التي ليست أندلسية طبعا، فقد ساعد على عودة الروح إلى هذا الفن وذيوعه أكثر وانتقاله نسبيا من فن العائلات التقليدية الأرستقراطية إلى فئات أوسع. أما الملحون فيمكن القول إنه لم يستفد من التكنولوجيات الحديثة في التسجيلات حيث مازال طابعه التقليدي في الإنشاد والعزف يحد من عينة جمهوره، مما يعني أن هذا الفن في حاجة ماسة الآن إلى تطوير شامل يأخذ بعين الاعتبار كل العناصر من عزف وصوت وإيقاعات.
* ماذا عن موقع الملحون داخل المعاهد الموسيقية؟
ـ يجب الاعتراف في البداية أن عدد المعاهد الموسيقية في المغرب قليل جدا وأنه من الصعب الحديث عن هذه المعاهد. وإن اختصاصات المعاهد ليست هي تعليم فن دون آخر وإنما تعليم المبادئ العامة للموسيقى. وبحكم أن الملحون هو كلام قبل كل شيء فإن المطلوب هو صيانة هذا الموروث وتوفيره في مطبوعات مرفوقة بتحقيقات وشروحات وتفسيرات. كما أنه من الضروري تقوية دور الجمعيات الأهلية في تعليم هذا الفن إلى جانب دور الدولة عموما.
* الملحون يدخل الألفية الثالثة، فماذا عن مناعته ومقاومته لاكتساح الأصناف العصرية الأخرى؟
ـ أعتقد أن الملحون الذي صمد أكثر من ستة قرون، لا يمكن إلا أن يواصل صموده قرونا أخرى. فهو جزء من الذاكرة المغربية والذاكرة بطبيعتها متواصلة، ولكن البقاء ليس هو الأهم وإنما الأهم هو البقاء بقوة وبتأثير كذلك ولضمان هذه القوة والتأثير فإن الملحون مطالب بأن يعصرن ذاته ويطورها ويجعلها قادرة على استيعاب الجديد تكنولوجياً ومعرفياً وأن يساير مجتمعه ويعبر عن قضاياه بأشكال ووسائل تتناسب مع كل ظرف على حدة.