قال د.عبد العزيز :
كانت عيادتي ذلك اليوم مزدحمة بالمرضى ..
أكثرهم جاءوا من مناطق بعيدة وقرى نائية .. واضح هذا من مظاهرهم ولبسهم ..
جعلوا يدخلون العيادة بالترتيب .. أمراض متفاوتة .. وظروف متنوعة ..
دخل خالد .. طفل في العاشرة من عمره .. مع اثنين من المرافقين ..
كان قد راجعني مراراً .. مع رجل كبير كنت أظنه أباه .. ليتابع ضعف سمعه الذي يعاني منه منذ ولادته ..
جلس الثلاثة ..
فعرفت أن أحد المرافقين هو والده ..
والآخر الذي تعودت أن أراه معه .. وكان يتحدث طوال الوقت .. هو خاله الذي يهتم به ويتابع علاجه من سنوات ..
جلس الخال يتحدث بإسهاب عن خالد وكيف تحسن سمعه كثيراً مع السماعات التي ركبت في الفترة الأخيرة ..
كان الخال يتحدث بشفقة .. وكأن المرض فيه هو .. وكان يردد : هل تصدق يا دكتور أنه بهذه السماعات .. صار سمعه في المستوى الطبيعي بفضل الله تعالى ..
كان خاله سعيداً بهذا الأمر .. وكيف أن المعلمين في المدرسة التي يدرس فيها ( الخاصة بالصم والبكم ) متشجعون جداً لمستوى تحسن خالد الدراسي ...
قال الخال :
يا دكتور .. وقد جئتك هذه المرة بأبي خالد .. كي تصف له السماعة الملائمة لعله أن يتحسن سمعه هو الآخر ...
قلت : أبوه أيضاً لا يسمع ؟ قال : نعم .. منذ سنين طويلة ..
التفتُ إلى خالد .. سألته : كيف حالك ؟ أجابني بسرعة : الحمد لله .. بخير ..
قلت :كيف هي المدرسة ؟ فقال : جيدة ..
كان يسمع ويتكلم .. لكن نطقه ثقيل لا يزال يحتاج إلى تدريب وتقويم ..
لكن مستوى ذكائه يتماشى مع سنه الطبيعي ..
سألت خاله : ما دام سمع خالد في تحسن .. ويحتاج إلى كثرة كلام ليستقيم نطقه .. فأقترح أن تسرعوا بنقله إلى مدرسة عادية .. ليتعايش مع وضعه الجديد ..
سكت خاله .. وخفض رأسه .. وبدا وجهه حزيناً وكأني نكأت جروحاً ..
أمارات تعجب كثيرة أراها على وجهه .. وكأنه لا يصدق أن الابن الصغير بات شخصاً عادياً .. له الحق في الحياة الطبيعية مثل غيره ..
قال : يجبي أن يبقى في مدرسة الصم البكم ..
قلت : لـمَ ؟ ما المشكلة معكم ؟ قال الخال :
أسرة خالد تسكن في قرية بعيدة ..
ولا أقدر أن أضعه في مدرسة عادية .. لأن خالد لا بد أن يحافظ على قدرته على التعامل مع الصم .. حتى يعرف كيف يحادث أهله !!
قلت : يحادث أهله ؟!! قال : نعم .. كل أعضاء الأسرة لا يسمعون .. الأب .. والأولاد ..
قلت : وخالد فقط الذي يتابع معنا العلاج ؟ قال : نعم ..
تعلم يا دكتور أنه من الصعب أن نترك القرية كلنا معاً في آن واحد .. وخالد أمره مهم ..
قلت : كم هي أعمار أخواته ؟ قال : أخته الكبرى تجاوزت الخامسة عشر تقريباً .. والثانية عمرها حوالي ثمانية أعوام ..
قلت له بعصبية : والآن جئتني بوالده المسن لكي نعالج مشكلة ضعف سمعه .. وتركت الأختين في الدار ..
وهما في بداية حياتهما ..؟! الأولى فقدت فرصتها في التعليم ...وربما في بناء أسرة أيضاً ... والثانية تريد أن تفقدها فرصتها هي الأخرى ؟
أليس هذا حراماً ؟! بل وتصر على أن يظل خالد في هذا الجو رغماً عن إرادته ..!!
بدأ الخال يدافع عن نفسه .. وأن الأمر ليس تمييزاً بقدر ما هو عدم قدرة على أن يأتي بهم أجمعين ؟
جلست فترة طويلة أناقش هذا الخال بأن الأمر مسئولية في عاتقه .. فكما يقدر على إحضار خالد في كل المواعيد ويعتني بها فمن حق أخواته أيضا أن يعشن حياة صحيحة ..
وعدني الخال خيراً .. وشكر لي اهتمامي .. ومضى خارجاً ..
وقف عند الباب وقال :
أعدك ...أن أحضرهم كلهم ...في سيارتي الصغيرة .. حتى لو وضعتهم فوق بعضهم البعض .. تبسمت في داخلي ..
ليت كل الناس يحملون في داخلهم مثل هذا القلب الأبيض ..
ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته .. والله في عون العبد ما مادام العبد في عون أخيه ..