ليس للحارث من القصائد المرموقة سوى المعلّقة، وهي في عداد السبع الطوال. وهي واقعة في نحو خمسة وثمانين بيتاً، وتجمع بين الغزل والوصف والمدح ويغلب عليها طابع الفخر وقد اعتبرت من القصائد ذات الدلالة على بيئة العرب والأحداث الكبار في جاهليتهم، خلال القرن السادس الميلادي، ولاسيما ما يتصل بالصراع المرير بين تغلب وبكر في ظروف حرب البسوس.
أما سائر شعر الحارث- الذي جمع في مخطوط كان محفوظاً في جامع السلطان محمد الفاتح بالقسطنطينية، والذي نشره المستشرق فريتس كرنكو- فلا يتجاوز مع المتناثر من أبياته في الأغاني للأصبهاني، وفي أمثال الميداني، ومعجم البلدان لياقوت أكثر من خمسين بيتاً، حرصنا في هذه الطبعة على شرحها شرحاً وافياً إلى جانب المعلقة، ليكون للحارث ديوانه الذي يليق بمكانته التي قرّظتها المصادر القديمة. ونوّهت بها المراجع الحديثة.
وشعر الحارث، متوّجاً بالمعلقة، يجمع بين القيمة التاريخية والأدبيّة ويجعل من صاحبها الشاعر الخطيب، والخطيب المنافح عن قومه وعزّتهم بكبرياء لا يخالطه صلف، وأنفة لا تشوبها غلظة أو غرور فارغ. فهو أحد شعراء المعلقات الأكثر بعداً عن الهوس والحماس الطائش، والدفاع الأرعن المتهوِّر.
وأظهر ما في أسلوب الحارث، روعة الإيجاز وقوة الحجة والعناية بالتمثيل البياني والوصف البليغ والحرص على المتانة وقوة التركيب وقد تنوّعت في ديوان الحارث الأوزان والقوافي وبرّزت معلّقته على ما عداها من قصائد الكبار بفخامتها وجرسها فكانت سبب خلود صاحبها حتى قال الشيباني: لو قال الحارث معلّقته في حول لم يُلم.
ماذا قال المستشرقون عن معلقة ابن حلزة:
اهتم المستشرقون الغربيون بشعراء المعلقات محاولين التعرف على الظروف الاجتماعية المحيطة بهم، والأسباب التي دفعتهم لنظمهم هذه المعلقات وعن أي موضوع تتحدث، وأولوا اهتماماً خاصاً بالتعرف عليها وسبر غور معانيها، وفي هذا السياق ننقل لكم ما ورد عن معلقة الحارث بن حلزة في عملين رائدين قام بترجمتهما صلاح صلاح: أحدهما من تأليف ليدي آن بلنت وفلفريد شافن بلنت، والآخر من تحرير دبليو إى كلوستون:
ليدي آن بلنت وفلفريد شافن بلنت:
قالت ليدي آن بلنت وقال فلفريد شافن بلنت عن معلقة الحارث بن حلزة في كتاب لهما عن المعلقات السبع صدر في بداية القرن العشرين: يقال إنه نظم معلقته في سن المئة. وهي من أولها إلى آخرها قطعة من الدفاع الخاص، أي أن موضوعها سياسي، وهذا ما يجعلها الأقل مثارة للاهتمام من بين المعلقات السبع. إلى حد ما، هي ليست مزخرفة بالأوصاف الطبيعية البرية للحيوانات والطيور والأشجار، ما يصنع سحر وفتنة المعلقات الأخرى، كما ليس هناك كثيراً من الأصالة أو العاطفة الجياشة في مطلعها، لعله ذكر هذا كنوع من التقليد المرعي، وربما استعاره في عمره المتقدم من شعر شبابه، إذ أنها لا تتقاسم سمات بقية المعلقة، ولا صدى لها في بقية المعلقة. القصيدة نقاش طويل يعبر عنه بحماس وليس دون جمال، لكن بمديح للأمير المخاطب، أمر شائع بين شعراء ما قبل الإسلام. يقال إن هند أم الأمير سرت لذكر اسمها في أبيات القصيدة الأولى وأنها أثرت على ابنها عمرو لتلبية مطلب الحارث.
يقدم التبريزي بعض التفاصيل حول هذه النقطة، قال إن الحارث أعد معلقته لهذه المناسبة لكنه شعر بالخجل لإلقائها بسبب إصابته بالجذام. طلب الملك منه إلقاءها من وراء سبع ستائر، وبعد ذلك طلب غسل موطيء قدميه بالماء، لكنه في الأخير اقتنع وألقى الحارث قصيدته من خلف ستارة. كانت هند تسمع وقالت " تالله لم أر مثل هذا اليوم الذي يتكلم فيه رجل من خلف سبع ستائر. أمر الملك برفع الستارة الثالثة والثانية ثم رفعها كلها حتى يقف الشاعر أمام الملك ، وطلب منه تناول الطعام من طبقه، وعندما خرج أمر بعدم غسل موطيء قدميه. وهكذا حقق الحارث مأربه بإصدار ابن هند مرسوماً لصالح قبيلته. المعلقة مليئة بالتلميحات إلى أحداث مبهمة التي يصعب فهمها تماماً.
دبليو إى كلوستون:
قال كلوستون عن معلقة الحارث بن حلزة في كتاب من تحريره عن الشعر العربي: تحتوي معلقته النقاش الذي دار عندما أرسل إلى بلاط عمرو بن هند ملك الحيرة ليمثل قبيلة بني بكر إثر خلافها مع بني تغلبز والتي كان تأثيرها من القوة حتى أن أمير الحيرة حكم لصالح بني بكر، وتكريماً للشاعر رفع الملك الستائر السبع التي وضعها أثناء إلقائه قصيدته وطلب منه الجلوس بجانبه. وقال جونز: في شكل رزين ثابت يناسب سنوات عمره المهيبة، جاءت معلقة الحارث، رداً على الخطابة الرنانة المفرطة لخصمه المتفاخر. مع ذلك، لا يتردد في أن ينسب إلى قبيلته كل الفضائل التي ينبغي أن يتصف بها العرق النبيل.
أنظر في ذلك: ابن الأنباري، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة: دار المعارف، 1980، ط4، ص349. ابن الخطيب التبريزي، شرح المعلقات العشر المذهبات، تحقيق وتعليق د. عمر فاروق الطباع، بيروت: دار الأرقم، د. ت، ص259- 263. وأنظر أيضاً ما ترجمه صلاح صلاح في ما يلي: Blunt, Lady Anne (Translated from the original Arabic) & Blunt, Wilfred Scawen (done into English Verse). The seven golden Odes of Pagan Arabia, known also as the Mo-Allakat. London: The Chiswick press, 1903, PP.44. Clouston, W A (edited with introduction and notes). Arabian Poetry and English Readers. London: Darf Publishers Limited, 1986, PP. li- lii