''ديفيد واليس''
انتحار كاتب أميركي لأن قلمه لم يمده بشيء حزين
ها هو مبدع آخر يقدم على الانتحار.. نجم مضيء في عالم الأدب يأفل.. صرح عال من العلم والفكر والإبداع يهوي. فقبل أيام قليلة انضم الأديب والروائي الأميركي ''ديفيد فوستر واليس'' إلى قائمة مشاهير الكتاب والشعراء والروائيين الذين أنهوا حياتهم بأيديهم ليحتل الموقع رقم 275 في قائمة الأسماء التي رصدها موقع ويكيبيديا الموسوعي على شبكة الإنترنت.
فالأديب والروائي والأكاديمي والصحفي ''ديفيد واليس'' الذي عقدت أميركا آمالا عريضة على نيله جوائز عالمية رفيعة في مجال الأدب وجدته زوجته ''كارين'' مشنوقا في منزله في كليرمونت كاليفورنيا الساعة التاسعة والنصف مساء يوم الجمعة 12 سبتمبر .2008
ما الذي يدفع أديب ميسور الحال ذو مكانة اجتماعية رفيعة وشهرة واسعة وينتمي إلى أسرة مترابطة أن ينتحر؟. لم يستطع أحد التكهن بالسبب. ولكن في آخر لقاء صحفي أجرته معه مجلة ''نيوزويك'' الأميركية اعترف ''ديفيد'' بأنه يشعر بالعجز عن الكتابة وأن القلم بات عصيا عن التعبير عن مكنون نفسه.
وقبيل انتحاره كان ''واليس'' البالغ من العمر 46 عاما قد فقد حماسه المعهود في تغيير حياة طلابه إلى الأفضل والانخراط معهم في العمل. فمنذ عام 2002 وقع عليه الاختيار ليعمل أستاذا في مادة الكتابة الإبداعية في كلية ''بومونا'' ولكنه في الآونة الأخيرة امتنع عن الذهاب إلى الكلية وتوقف عن لقاء طلابه. ويبدو أن العد التنازلي كان قد بدأ لتنفيذ قراره المأساوي الخفي.
كأنما أراد الكاتب الأميركي المنتحر، أن يضع حدا لحياته مستلا من متون رواياته المتشحة بسوداوية، عبثية، لكنها تشي بما يمور به المجتمع الأميركي على ما يقول هو في إحدى حواراته. فرداً على سؤال حول هدفه من كتابة روايته الذائعة ''فكاهة بلا نهاية'' يقول ''واليس'': ''أردت أن أكتب شيئاً حزيناً. لقد كتبت بعض ما هو هزلي وما هو فكري ثقيل، لكني لم أكتب شيئاً كئيباً قط. أيضاً أردت كتابة شيء أميركي حقيقي وأصيل يتعلق بماهية الحياة في أميركا على مشارف الألفية الثالثة''.
هل هذا هو المجتمع الأميركي الذي أراد والاس أن يكتب عنه؟ وهل هي النهايات التي يمكن أن يصل إليها؟ الانتحار؟ كان ''واليس'' يحرص أن يدل في مظهره على عدم الانضباط السلوكي أو الاجتماعي، من خلال عصبة لا تفارق رأسه وذقنه المهملة، وينعكس عدم الانضباط هذا على كتابته نفسها، حيث نجد مقاطع مكتوبة ببراعة وإتقان وأخرى مضطربة.
لكن مع ذلك يظل ديفيد فوستر والاس بالنسبة للكثيرين من القراء الشباب حامل لواء الروح الجديدة للجماعة للتفكك والعزل الثقافي.
نبوغ وتميز
عاش ''ديفيد'' حياة يحسدها عليه الكثيرون. فلقد ولد في 21 فبراير عام 1962 في مدينة إيتاكا بنيويورك لأب بروفيسور في الفلسفة وأم بروفيسور في اللغة الإنجليزية. وبعد مولده بأيام قليلة حصل والده ''جيمز دونالد واليس'' على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كورنيل العريقة. وخلال شهور عمره الأولى انتقلت العائلة من المدينة الكبيرة إلى قرية صغيرة تدعى ''فيلو'' جنوب مدينة ''أوربانا'' بولاية إلينوي لانضمام والده إلى هيئة التدريس بجامعة الولاية.
وكانت طفولة ''ديفيد'' بقرية ''فيلو'' مصدر إلهامه لكتابة العديد من القصص القصيرة أبرزها قصة ''أشياء ممتعة لا أود القيام بها ثانية''. وفي تلك الفترة عملت والدته ''سالي فوستر'' بروفيسور في اللغة الإنجليزية في كلية ''باركلاند'' وحصلت على لقب أفضل أستاذ جامعي على مستوى الولايات المتحدة لعام .1996 وانضم إلى ''ديفيد'' أخت تصغره تدعى ''إيمي'' درست القانون وتعمل حاليا بالمحاماة في أريزونا منذ عام .2005
في سن المراهقة كان ''ديفيد واليس'' مغرماً بلعبة التنس وبرع فيها وصنف أفضل لاعب تنس في سن الناشئين. التحق بكلية ''امهرست'' التي يعمل بها والده ودرس اللغة الإنجليزية والفلسفة والمنطق والرياضيات. ونال عند تخرجه عام 1985 شهادة أفضل طالب على مستوى الجامعة. ثم انتقل إلى جامعة ''أريزونا'' لدراسة الكتابة الإبداعية ونال درجة الماجستير عام .1987 ثم انتقل إلى بوسطن لدراسة الفلسفة في جامعة ''هارفارد'' العريقة. و
مذ ذاك الوقت كانت كبرى الدوريات الأميركية أمثال ''نيويوركر'' و''باريس ريفيو'' و''هاربر'' تتبارى في نشر قصصه القصيرة. وعندما بلغ الرابعة والعشرين من عمره قدم للأدب الأميركي أول إسهاماته الأدبية فكانت روايته الأولى ''مكنسة النظام'' والتي صدرت عام 1987 وحظيت باهتمام الشعب الأميركي؛ لما تحويه من إسقاطات على واقعهم المعاصر. واعتبرها النقاد بمثابة ميلاد روائي مبدع؛ لما حوته الرواية من حس فني عالي وتكامل في الرؤية ولغة سلسة ساخرة وصياغة أدبية راقية.
ونشرت له بعدها مجموعة قصصية بعنوان ''الفتاة ذات الشعر الفضولي'' ومجموعة أخرى بعنوان ''حوارات مختصرة مع رجال أشرار''. أما روايته الثانية ''فكاهة بلا نهاية'' والتي صدرت عام 1996 فكانت نقلة كبيرة في مشواره الأدبي. فهي رواية طويلة تجاوزت صفحاتها الألف صفحة وتدور حول مركز لإعادة تأهيل المدمنين. وتعالج قضايا الإدمان والاكتئاب والتحرش بالأطفال. ونال عنها عام 1997 جائزة ''جينيوس وانت'' المخصصة للعباقرة عن مؤسسة ''ماك آرثر''.
كما حصل على جائزة ''أغا خان'' القصصية عن قصة ''حوارات مختصرة مع رجال أشرار''. وكتب ''ديفيد واليس'' مقالات عديدة في مجالات مختلفة عن التنس لمجلات رياضية وكتب سيرة حياة ''ديفيد لينش'' لصحيفة ''بريميير''. وقام بعرض العديد من الكتب لعدد من الصحف الأميركية المرموقة مثل ''نيويورك تايمز'' و''واشنطن بوست''. وفي عام 2000 شارك ''ديفيد واليس'' في تغطية الحملة الرئاسية للمرشح الرئاسي الديمقراطي ''جون ماكين'' وبعد هزيمته في الانتخابات ألف كتابا بعنوان ''وعد ماكين.. والتفكير في الأمل''.
بأيديهم إلى قبورهم
في الوقت الذي شكلت فيه واقعة انتحار ''ديفيد واليس'' صدمة كبرى للأوساط الأدبية والأكاديمية المحيطة به، إلا أن والده بروفيسور ''جيمز'' أكد أن ابنه كان يعاني من ضغوط نفسية شديدة وأن أعراض الاكتئاب ظهرت عليه قبل عشرين عاما. أما رابطة أدباء أميركا فرأت أن انتحار ''واليس'' ليس إلا حلقة من مسلسل طويل لانتحار مشاهير الأدب والرواية.
ويرى المختصون في علم النفس أن ظاهرة انتحار الفنانين والأدباء ترجع إلى كونهم أكثر الناس عرضة للاكتئاب. نظرا لطبيعتهم النفسية المفرطة الحساسية تجاه صعوبات الحياة وتقلبات الأشخاص المحيطين بهم. وتتباين أسباب انتحار المبدعين بين الكآبة والوحدة والقلق وتعاطي الخمر والعقاقير واليأس من القيام بدور فعال في تغيير المجتمع. وإن كان معظمها يعود إلى هاجس عدم القدرة على تقديم المزيد من الإبداع.
ومن بين أشهر الكتاب الذين أقدموا على الانتحار الروائي الأميركي ''أرنست هيمنجواي'' الذي دفعه الشعور بالوحدة إلى إطلاق رصاصة على رأسه عام .1961 وهو الكاتب الذي حازت روايته ''العجوز والبحر'' على جائزة نوبل.
ومن قبله الروائي الأميركي ''هنتر تومسون'' مؤلف رواية ''خوف واشمئزاز في لاس فيجاس''، وقد أنهى حياته بالطريقة ذاتها. كذلك الكاتب الأميركي ''دايل كارنيجي'' صاحب أكثر الكتب مبيعا في فن التعامل مع الناس بعنوان ''دع القلق وابدأ الحياة''.
أما الروائية الإنجليزية الشهيرة ''فرجينيا وولف'' فوضعت حجرا ثقيلا في ثيابها وألقت نفسها في البحر. بينما اختار الروائي الياباني ''ياسوناري كاواباتا'' الحاصل على جائزة نوبل السيف لإنهاء حياته على طريقة الساموراي، بينما اختارت الروائية التشيكية ''إيفا هير تسيكوفا'' الموت شنقا عام .2007
وهناك أسماء عديدة في العالم العربي أشهرها الأديب الأردني ''تيسير السبول'' الذي فجر رأسه عام 1973 ومن بعده الكاتب والروائي المصري ''محمد رجائي عليش'' عام 1979 والكاتب اللبناني خليل الحاوي عام .1982 ولا تزال القائمة السوداء تحمل أسماء أخرى لشموع انطفأت قبل أن تحترق وتضيء بنورها آفاق الأدب والعلم والمعرفة