العقلاني واللاعقلاني في سياسة الغرب
ضمد كاظم وسمي
قد يجد كثير من محللي السياسة الامريكية صعوبة في فهم مغازي هذه السياسة ويتعذر عليهم وضع اهدافها في خانة العقلنة نظرا لما ينتاب هذه السياسة من ضبابية فجة ، لذلك ترى اقرب اصدقاء امريكا اليها في المنطقة من انظمة الحكم في حيرة من امرهم في تقييم السياسة الامريكية وفهمها وبالتالي لايملكون في التعاطي مع هذه السياسة الا الاستخذاء امام جبروتها والانخراط في اجندتها الاخطبوطية .. دون ان يكلف نفسه هذا البعض من الحكام او المفكرين العرب في البحث عن كنه السياسة الامريكية وفلسفتها وبالتالي التعرف على جذورها الفكرية الغربية ..
ان الحضارة الغربية وبضمنها الحضارة الامريكية هي صنيعة الفكر الغربي والذي بدوره وبشكل عام يمكن ان يقسم الى تيارين رئيسين هما 1- الفكر التنويري الذي افرز عصر الانوار وانجز الثورة الفرنسية ونشر الحداثة بوجهها الانساني واطرها العلمية التي انتجت التقنيات التكنولوجية ، وسياقاتها السياسية التي ادت الى قيام نظم ديمقراطية تحمي حقوق الانسان وتعترف بالاخر . وكان معقل هذا الفكر بلاد فرنسا.
2- الفكر الرومانتيكي / النيتشوي .. وهو فكر معاد للتنوير يرفض العقل الانساني وفعاليته .. وبدلا من العقل تطرح الرومانتيكية فكرة الخيال والحدس ، والعقل الجمعي ، والماضي المشترك ، والجماعة العضوية . وقد انتج هذا الفكر النازية والصهيونية والبراغماتية الامريكية التي تتلمس السياسة الامريكية اليوم طريقها على هدى هذا الفكر .
ومن اهم السمات الاساسية لهذا الفكر هي عقلانية الوسائل و لا عقلانية الاهداف .. كل شيء يتم بشكل مؤسس منظم - أي يجب ان يتم بحياد علمي رهيب – اما الاهداف فهي خالية من أي مضمون اخلاقي ايجابي .. لان ذلك يترك للزعيم ( السوبرمان ) او للدولة بل وحتى للاسطورة الدينية العرقية ، ان هذا التناقض القائم على التزاوج بين العقلانية واللاعقلانية ناجم عن انفصال النزعة الامبريقية عن النزعة العقلية ( فالتجريب لا يؤدي بالضرورة الى انتصار العقل والقيم الانسانية ) . فالفكر النازي والفكر الصهيوني والفكر البراغماتي الامريكي كلها تنتمي الى الفكر الرومانتيكي الامر الذي يشي بالتشابه البنيوي بين هذه الفكار .. بالاضافة الى انتهالها من مصادر فكرية مشتركة ( اساطير العهد القديم والتلمود وتحويلها من اساطير دينية الى عقائد سياسية – الفكر الامبريالي – النظريات العرقية والاثنية ) .
ان الفكر الرومانتيكي الذي انتج فكرة (( الفولك )) او السوبرمان او السوبر امة .. وتوامه الفكر الصهيوني الذي يرفع شعار (( شعب الله المختار )) و الذي انتج اسرائيل .. والفكر الامريكي الذي انتج فكرة (( الانسان الامريكي خاتم الحضارة و الانسانية )) .. تلتقي كل هذه الافكار في الانطلاق من كونها افكار جماعة – امة – لها تاريخ خاص ومتميز وتراث حضاري لايجارى – وان علاقتها بالاخر هي علاقة الاعلى والانقى والاعلم والافضل بالادنى والادنس والاجهل والابخس .. بل تتمادى لتذهب الى ان علاقة الانسان السياسية ب (( الفولك ـ الماشيح العسكري ـ خاتم الحضارة - )) هي شيء يعلو على الارادة والوعي الفرديين .. رغم ان عقائد الانسان السياسية هي من اختياره !!! .
لقد كان فيلسوف الفكر الرومانتيكي (( نيتشة )) اماما للنازية والصهيونية والبراغماتية الامريكية .. وتعد فلسفته من اهم المذاهب ( الامبريالية ) ، ويلخص الصهيوني احاد هعام فلسفة نيتشة بقوله : (( من واجب الانسان ان يطور كل قدراته التي منحتها اياه الطبيعة دون توقف ، الى ان يحقق كل امكانياته ، شانه في هذا شان كل المخلوقات الاخرى حتى يصل الى الذروة المتاحة له ، ولم يتم هذا الا من خلال ( الصراع من اجل البقاء ) – صراع يفوز به القوي ، وحسب هذا التصوير الدارويني تمثل القوانين خطأ اعظم وعقبه كأداء )) . فنيتشه يقرر ان الرجل الخيّر هو الرجل القوي الذي يحاول ان يكون سيد عالمه دونما شفقة على الاخرين .. وان مدى رقي الحضارة لايقاس بمدى سعادة الافراد وانما هو النمو الحر لفردية المختارين من البشر وارتفاع النموذج الفذ الى مستوى اعلى من عامة الناس .. وهذه الاطروحة مطابقة تماما للاطروحة الصهيونية الماخوذة من التلمود فالرجل التقي في التلمود هو رجل (( لم يخلق من اجل الاخرين ، بل ان العالم كله قد خلق من اجله )) .. وهي ذات الاطروحة التي تؤمن بها النخب الفكرية الامريكية .. حيث ذهب فرانسيس فوكوياما احد اكبر منظري السياسة الامريكية الى حتمية سيادة الحضارة الامريكية في العالم وهيمنتها على امكانياته لانها بلغت اقصى درجات الرقي والتقدم .. وان الانسان الامريكي صانع هذه الحضارة يعد اعلى سلالة بشرية وارقى عرق انسني يمكن ان تخرج الى الوجود ، وان الانسان الامريكي الحضاري هو خاتم البشرية . ان المتتبع لتطور هذه الافكار والاطاريح يلاحظ ان التشابه بينها يثير الدهشة حقا .. فهذه الاطاريح تعادي الفكر العقلي الحر وتحتقره وتقدس الفعل كما ان هذه الاطاريح ملحدة او لاهوت بلا اله فضلا عن انها تدين بالمبدأ الدارويني القائم على قانون التطور و البقاء للاقوى .. كما و تدعو الانسان الى ان يعيش في خطر و حرب دائمين وتعتقد بان منطقها قار و مطلق ، فالصهاينة واليمين الامريكي مشغولون بتصوراتهم المثالية الماشيحانية عن الدولة و الشعب المختار والعالم الذي يجب ان يكون خادما وضحية لهما !! وتاكيدا لالحادية هذه الاطاريح ولا هوتيتها في الوقت نفسه .. فاننا نرى ان بن غوريون لم يؤمن يوما بالتوراة بصفته كتابا مقدسا كونه ملحدا .. لكنه مع ذلك فانه يعترف بالتوراة ككتاب فلكلوري شعبي .. كما تسيطر فكرة الماشيح العسكري المنقد ( بن غوريون . الفوهرر . خاتم البشرية ) على الوجدان الصهيوني سيطرتها على الوجدان الالماني .. ولعل في قول هتلر ما يوضح التلاقي بين الفكر النازي والفكر الصهيوني .. ذلك وقد سئل عن سبب معاداته لليهود فاجاب بايجاز وقسوة : (( لايمكن ان يكون هناك شعبان مختاران . نحن وحدنا شعب الله المختار )) .. وهو نفس الهاجس الذي يغشى الوجدان الامريكي . وبعد زوال النازية وتحولها الى اثر بعد عين .. لم يبقى الا الاطروحتان الصهيونية والامريكية واللتان تتجسدان في السياستين الصهيونية الاسرائيلية والامبريالية الامريكية ، وتتشابهان حد التطابق احيانا لانهما تنبعان من معين واحد ، قال موشي ديان في اب 1967 : (( اذا كنا نملك التوراة ، واذا كنا نعتبر انفسنا شعب التوراة ، فيجب ان يكون لنا ايضا ارض التوراة )) .. واستنادا الى تلك الاساطير تصبح حدود اسرائيل مطاطية غير ثابتة ، يقول بن غوريون في مذكراته : (( امامكم الاعلان الامريكي للاستقلال . ليس به أي ذكر لحدود ارضية . ولسنا ملزمين بتعيين حدود للدولة )) . ومن الجدير بالذكر ان حدود امريكا ظلّت غير ثابتة لاكثر من قرن من الزمان .. وما زالت تتغير وتتحرك كلما تقدم الامريكان في قتل الهنود الحمر واستعمار ارضهم حتى اجتثوهم من جديد الارض ولم يتوقفوا الا عند المحيط . ولعل بن غوريون اراد ان يجد في تلك السابقة الامريكية ما يغري باتخاذها مثلا يحتذى .. لذلك لم تحترم اسرائيل قرار التقسيم الذي اصدرته الامم المتحدة عام 1947 .. اذ استولى الارهابيون الصهاينة على ارض كانت للعرب وفقا للتقسيم مثل يافا و عكا .. ثم جاءت حرب 1948 وانشاء دولة اسرائيل على حساب قتل العرب وتهجيرهم وسلب اراضيهم واستمرت اسرائيل في التوسع والعدوان على حساب العرب حتى يوم الناس هذا !! .. فامريكا التي طالما حمت اسرائيل بواسطة حق النقض (( الفيتو )) من اية عقوبة حقيقية قد تعوق عملها ، وتقدم لها احدث الاسلحة ، وانها تدفع اكثر من ثلث نفقات التسلح الاسرائيلية .. وتمدها بالتجهيزات العسكرية والسلاح و المال والدعم السياسي .. هي التي امدت اسرائيل باسلحة التدمير الشامل لبسط نفوذها على المنطقة ونهب ثرواتها . ان السياسة الصهيونية الاسرائيلية مطابقة تماما لاهداف الولايات المتحدة الامريكية العالمية ، ولها دور فيها لايمكن لغيرها ان يؤديه .. بحيث ان اسرائيل على ثقة .. بان السياسة الامريكية ستكون وفقا للتوجه الصهيوني المعادي للعرب و المسلمين .. يقول المفكر الفرنسي روجيه غارودي : (( وثمة اسطورة اخرى . اسطورة المعجزة الدائمة ، معجزة (( داود )) الصغير امام العملاق العربي المفترس (( جوليات )) بينما يستطيع في الواقع (( داود )) الصغير ان يشحن مقلاعه بكل انواع الاسلحة وبكل الاموال التي تاتيه من الولايات المتحدة الامريكية – وهذه الاسطورة كانت وراء تقبل الراي العام الغربي لكل ما تفعله اسرائيل ، ولكل ما تقترفه من جرائم لايمكن ان يقبلها انسان - ... الدولة الصهيونية باسرائيل ، تجثم بكل الثقل الامريكي على صدر منطقة الشرق الاوسط التي تتلاقى فيها القارات الثلاث )) .
وعود على بدء لابد من التذكير انه ومنذ الحرب العالمية الاولى قررت المؤسسة الصهيونية نقل نشاطها الى امريكا .. اما بعد الحرب العالمية الثانية فقد بان للصهاينة ان نجم بريطانيا اخذ في الافول .. وانها لابد من ان تنقل مركز نشاطها الى امريكا .. وهكذا طفقت الصهيونية تتصل بالاتحادات المهنية ونقابات العمال الامريكية وبمجالسها النيابية واعضاء الحزبين الرئيسين الجمهوري والديمقراطي ولم يحل عام 1944 حتى كانت اكثر برلمانات الولايات المتحدة قد اصدرت توصيات تؤيد فيها المطالب الصهيونية .. فيما هيمنت على اصوات اعضاء الكونغرس وكسبتها الى صفها .. وفي فترة وجيزة هيمن الصهاينة باضاليلهم على اتجاهات الراي العام الامريكي لجهل هذا الاخير بالقضية الفلسطينية وتقصير الساسة والنخب العربية بالاضافة الى التقاء الفكرين الامريكي البراغماتي / النيتشوي ، والصهيوني / النيتشوي المبنيان على قاعدة البقاء للاقوى .
اما ما يجري اليوم في الشرق الاوسط من الاحتلال الامريكي للعراق وتدخل امريكا في شؤون دول المنطقة كما في فلسطين ولبنان وبقية الدول العربية فانه يعني بالضبط ان السياسة الامريكية ترمي بكل وضوح لتطبيق الستراتيجية الصهيونية ولاثبات ذلك فقد نشرت مجلة (( كيفونيم )) الاسرائيلية مقالا للمنظمة العالمية للصهيونية بالقدس عام 1982 جاء فيه عرض لاستراتيجية اسرائيل في الثمانينات صعودا .. وقد بينت الدراسة ان الاستراتيجية الاسرائيلية تقوم على اساس (( التدخل المنظم والعمل ضد انظمة الحكم في جميع البلدان العربية بغية تفكيكها وتفتيتها مما يتجاوز نطاق كل الاعتداءات السابقة )) .. ان هذا المشروع الضخم والخطير لاشك ان اسرائيل ليس بمفردها بقادرة على انجازه .. اذن هذا المشروع هو ماتؤيده امريكا تاييدا غير مشروط وغير محدود .. وهذا ما اثبتته الاحداث اللاحقة .. سنورد مقاطع من هذه الدراسة للوقوف على المخطط الصهيوني الامريكي لمستقبل المنطقة : (( استعادة سيناء بثرواتها هدف ذو اولوية .. ولكن اتفاقيات كامب ديفيد تحول الان بيننا وبين ذلك .. لقد ماتت اسطورة مصر – زعيمة العالم العربي – وفقدت مصر 50 % من قدرتها .. ولن تلبث بلدان مثل ليبيا والسودان .. ان يصيبها التحلل .. ومشكلات الجبهة الشرقية اكثر واشد تعقيدا من مشكلات الجبهة الغربية .. وتقسيم لبنان الى خمسة اقاليم .. يوضح ما يجب ان ينفذ في البلدان العربية .. وتفتيت العراق وسوريا الى مناطق تحدد على اساس عنصري او ديني ، يجب ان يكون هدفا ذا اولوية بالنسبة الينا ، على الاجل الطويل ، واول خطوة لتحقيق ذلك هو تدمير القوة العسكرية لتلك الدول .. اما العراق فهي غنية بالنفط .. وسيكون تفككها اهم بالنسبة لنا من تحلل سوريا ، لان العراق يمثل على الاجل القصير اخطر تهديد لاسرائيل )) .