ثانيا في مجال المسموع:
ونعني به الكلام الّذي يُسمع عموماً في محاضرة أو ندوة أو حوار وغيرها، أو ما
يُسْمع من الإذاعتين المسموعة والمرئيّة من نشرات الأخبار والتّعليقات
السّياسية والأحاديث والبرامج المتنوّعة والمسلسلات التّمثيليّة والإعلانات
وغير ذلك.
- تشترك المجالات المسموعة مع الكتابة المقروءة في كلّ ما ذكرناه من الأخطاء
الصّرفيّة والنّحويّة، والأخطاء الشّائعة، وركّة الأسلوب، وعدم التّرابط
والانسجام بين الجمل، إلى آخر ذلك. إلاّ بعض الأخطاء لا تظهر في الكتابة بسبب
عدم شكل الحروف عادة، ولكنّها تظهر عند النّطق. فمثل:دَعَوْا، نَسُوا،
يَسْعَون، أنتِ تَحْظَيْن، المتوفّوْن، المصطفَيْن، لا يتبيّن الخطأ فيها
إلاّ عند نطقها، فيقرأون: دَعُوا بدلا من دَعَوْا، ونَسَوْا بدلاً من نسُوا،
ويَسْعُون بدلاً من يَسْعَوْن، وأنتِ تحظِينَ بدلاً من أنت تحظَيْنَ،
والمتوفُّون بدلاً من المتوفَّوْن، والمصطفِين بدلاً من المصطَفَيْن، ومثلُ
ذلك كثير على ألسنة المذيعين والمذيعات والمتحدّثين والمتحدّثات.
- القضاء تقريباً على النّطق الصّحيح للذّال والثّاء والظّاء، حيث تُنطق
الذّال دالاً والثّاءُ سيناً والظّاء ضاداً. ويزيد البعض في بليّة طمْسِ
الذّال والثّاء والظّاء بطمس الطّاء الّتي انقلبتْ في ألسنتهم إلى تاء، وطمس
الضّاد الّتي ينطِقْنَها دالاً. ولا شكّ أنّ الملايين يُلازمون الاستماع
إلىالإذاعات المسموعة والمرئيّة، ويتأثّرون بكيفيّة النّطق المشوَّه للأحرف
المذكورة، وخاصّة الأطفال والبراعم الّذين هم في سنّ التّكوين والتّلَقِّي.
ويُخْشَى إن استمرّ هذا الحال أن تنشأ أجيال عربيّة يَسْقُط من كلامها الذّال
والثّاء والظّاء والضّاد، أو تجد في نطقها صعوبةً وعسراً يجدهما الأجنبيّ
الّذي لم يتعوَّدْ نطقَها العربيّ من مخارجها الصّحيحة.
- نطق همزة الوصل في درج الكلام همزة قطع؛ فينطقون: الإستعمار،
الإقتصاد،الإستثمارات، ما إسمك، هذا إبنك، بدلاً من النّطق الصّحيح:
الاِستعمار، الاِقتصاد،الاِستثمارات، ما اسمُك، هذا ابْنُك، بحذف همزة الوصل
لفظاً في أثناء الكلام، ولم نعد نسمع النّطق السّليم لهمزة الوصل في درج
الكلام إلاّ نادراً ومن قبيل الصّدفة. وأسوأُُ استعمال لهمزة الوصل في درج
الكلام هو نطق همزة"ال" همزة قطع، حتىّ أصبحت على ألسنة المذيعين والمذيعات
محسوبةٍ من مواقع همزة القطع وفَقَدَتْ صلتها بهمزة الوصل فيقولون مثلاً:
(عقد أَلمؤتمر أَلتّّعليمي أَلعربيّ دورته أَلخامسة يوم أَلأحد أَلماضي).
- الوقف على التّاء المقفَلة تاءً لا هاءً في نحو: فتاة، قناة، قُضاة،
الزّكاة، مرضاة…
- إلغاء نطق التّاء المقفَلة في درج الكلام، والاكتفاء بنطق الحرف الّذي قبل
التّاء المقفَلة على ألسنة المذيعين والمذيعات والمتحدّثين والمتحدّثات حتّى
أهل الاختصاص في اللّغة، فالجملة: (اجتمعت اللّجنة المختصّة بالقضيّة
الفلسطينيّة التّابعةُ للجامعة العربيّة اليوم بالقاهرة)، تُنطَقُ: (اجتمعت
اللّجن المختص بالقضي الفلسطيني التّابع للجامع العربي اليوم بالقاهرة).
- نطق الأعداد والمعدودات باللّهجة العامّيّة الدّارجة في كلّ أنواع العدد،
ولا تكاد تسمع من إذاعاتنا المسموعة والمرئيّة النّطق السّليم للأعداد،
فيقولون مثلاً: اتناشر دينار بدلاً من اثني عشر ديناراً. وخمستاشر درجات
بدلاً من: خمس عشرة درجة، ومَاءَة بفتح الميم بدلاً من مِئَة أو مِائة، و"ثمن
البرميل من النّفط ستّ وعشرين دولار وأربعتاشر سنت" بدلاً من:" ثمن البرميل
من النّفط ستّة وعشرون دولاراً وأربعة عشر سنتاً"، و"أنفقت الشّركة على
الدّعاية اثنين مليون دولار" بدلا من:"أنفقت الشّركة مليونَيْ دولار" و"كان
في الطائرة المنكوبة ميتَيْن وسبعَ وستّين راكب" بدلاً من:" كان في الطّائرة
المنكوبة مئتان وسبعةٌ وستّون راكباً".
- إلغاء الإعراب من أواخر الكلمات ونطقها بالسّكون في درج الكلام، ولم
يَسْلَمْ من هذه الآفة حتّى بعض كبار الأدباء والعلماء والصّحافيّين ومن هم
على رأس مؤسّسات لغويّة متَخصّصة. أمّا في الإذاعتين المسموعة والمرئية فإنّ
الوقف على أواخر الكلمات المتّصلة هو السّائد، ولا يكاد يظهر الإعراب على
أواخر الكلمات إلاّ قليلاً.
- أداء الكلام المكتوب بالفصحى بطريقة اللّهجة العامّيّة وبنبرات الحديث
الدّارج، وخاصّة في برامج قراءة ما يرد في الصّحف اليوميّة، وبذلك تنـزل
الفصحى إلى مستوى العامّيّة، ولا يحدث العكس وهو أن ترقى العامّيّة إلى مستوى
الفصحى.
- غلبة اللّهجات العامّية المحلّيّة على الفصحى في معظم إذاعاتنا المسموعة
والمرئيّة، حتّى أصبح نصيب الفصحى في هذه الإذاعات قليلاً جدّاً.
- طغيان الكلمات الأجنبيّة الّتي لا تدعو إليها ضرورة، والّتي لها مقابلٌ
عربيّ أخفّ لفظاً، وأيسر نطقاً، وأعمق معنىً، وأدنى إلى وجدان المستمع. وقد
امتدّت هذه الآفة إلى عناوين البرامج المرئيّة، ويحضرني من ذلك العناوين:
كليك، كلينِكْ، فلاش، ستوب، إيتيلية، ميوزيكا،أرابيسك،مانشيت، بل إنّ فضائيّة
عربيّة تنطلق من بلد عربيّ، ولغتُها عربيّة، وموجّهةٌ إلى العرب، تحمل اسماً
أجنبيًّا، وفضائيّات عربيّة عديدة تنطق بالعربيّة، وموجَّهة إلى العرب، تتّخذ
أسماءها من أحرف لاتينيّة، كأنّ العربيّة قد عقمت عن ولادة الأسماء
والعناوين، ولكنّها عقدة (الخواجة) مازالت تتحكّم في نفوسنا، وتستعمرعقولنا
وقلوبنا، وتجرّنا إلى التّبعيّة الذّليلة لكلّ ما هو غربيّ. ومن المضحك
المبكي أنّ بعض الفضائيّات العربيّة تكتُب كلمات عربيّة بطريقة كتابة الحروف
اللاّتينيّة، وهذا منتهى الاستهتار باللّغة العربيّة وخطوطها الجميلة.
- الخطأ في ضبط كثير من الكلمات، كقولهم :لُجْنة بدلاً من "لَجْنة"،وثَكَنَة
بدلاً من ثُكْنَة والْغِيرَة بدلاً من الْغَيْرَة، والْحِيرَة بدلاً من
الْحَيْرَة، والْغِدَاء بدلاً من الْغَداء، وخُطبة المرأة للزّواج بدلاً من:
خِطْبة، والفُراق بدلاً من:الفِراق، وبُناءً عليه بدلاً من: بِناءً عليه،
وتِكْرار وتِجْوال وتِحنان،بدلاً من: تَكرار وتَجوْال وتَحْنان … إلخ.
- الخطأ في نطق الأعلام، كقولهم : عبد المجِيد، وعِبيد، وسِليِمان، وحِسين،
والشِّريف، وعصمان، وسِليم، وسْكينَة، وزْبيدَة…
- الخطأ في ضبط عَيْن الفعل الثّلاثي ماضيه ومضارعه وأمره، والجهل بالأبواب
الصّرفيّة السّتّة للثّلاثيّ، فيقولون في الماضي مثلا: ثَبُتَ بدلا من ثَبَت،
وحَصُل بدلاً من حَصَل، وفَشَلَ بدلاً من فَشِل، وحَرِصَ بدلاً من حَرَص،
وغَرَق بدلاً من غَرِق، وبَطُل مفعوله، بدلاً من بَطَل، وصَعَد بدلاً من
صَعِد، ورَئسَ بدلاً من رَأَس، وبَرَأَ من المرض بدلاً من بَرِئ. ويقولون في
المضارع مثلا:يأمَل بدلاً من يأمُل، ويَحْرَص بدلاً من يَحْرِص، ويَلِفّ
بدلاً من يَلُفّ، ويَمْلُك بدلاً من يَمْلِك، ويهرَب بدلاً من يَهْرُب،
وَيهْوِي بمعنى يحبّ بدلاً من يَهْوَى، ويَنْعِي بدلاً من يَنْعىَ، ويَرْشِيه
بدلاً من يَرْشُوه، ولا يَحُلّ أن تغتاب بدلاً من لا يَحِلّ. ومن أمثلة
الأمر: اكْسَبْ بدلاً من اكْسِبْ، لا تَلْمِسْ بدلاً من لا تَلْمَسْ، انْبُذِ
العنف بدلاً انْبِذِ العنف،واعْمِلْ بدلا من اعْمَلْ… .
- الخطأ في ضبط حرف المضارعة، وعدم التّمييز فيه بين الثّلاثيّ والرّباعيّ،
كقولهم: يُحيك مؤامرة بدلاً من يَحيك، ويَخِلّ بالتّوازن بدلاَ من يُخلّ،
ويُنْشِد السّلام بدلاً من يَنْشُد، ومجلس الأمن يَدين العدوان بدلاً من
يُدين، وإسرائيل تُشِنُّها حرباً بدلا تَشُنُّها، ويُلْفِت النّظر بدلاً من
يَلْفِت، ولن يَفْلُتَ من العقاب بدلاً من ولن يُفْلِتَ، ولا يُثنيه عن عزمه
شئٌٌ بدلاً من يَثْنِيه، وأَهيبُ بك بدلاً من أُهيب، ويَفيق بدلا من يُفيقُ،
وهذا المرض يَعْدِي بدلاً من يُعْدي … إلخ.. .
- سوء الإلقاء، وعدم انسجام طريقة الأداء الصّوتيّ مع مفهوم الكلام، فقد تسمع
من المذيع أو المذيعة نَبْرَةً للصّوت تدلّ على انتهاء الكلام وأنّ ما يأتي
بعده كلام ٌ مستأنَف، ثمّ تفاجأ من خلال السّياق بأنّ الكلام متّصل بما بعده
وممتدّ إلى غيره، أو تسمع نبرةً تدلّ على تواصل الكلام وامتداده، ثمّ تفاجأ
بأنّ الكلام قد انتهى، وما جاء بعده استئناف. وقد تسمع صيغة استفهام تؤدَّي
بنبرة إخبار، أو صيغة إخبار تؤدَّي بنبرة استفهام، أو تسمع كلاماً يفيد الأسى
والتّحسّر والألم يؤدَّي بصوت مرتفع فيه حماسة تُشبه حماسة الخطيب، أو تسمع
كلاماً فيه معنى العزّة والكرامة والاعتداد بالشّـخصيّة يقوله المذيع أو
المذيعة بصوت بارد لا يحمل شيئاً من تأثير الكلام أو إيحاءاته، إلى غير ذلك
من أمثلة سوء الإلقاء والأداء الصّوتيّ في إذاعاتنا المسموعة والمرئيّة.
وقد يُقال: ما دَخْل سوء الإلقاء والأداء الصّوتيّ في الضّعف اللّغويّ
العامّ؟ وما علاقة هذا العيب باللّغة حتّى يُحْشَرَ في موضوعها ويُعَدَّ
مظهراً من مظاهر الضّعف فيها؟.
ونجيب بأنّ اللّغة العربيّة ليست قواعدَ وأصولاً وضوابطَ في الإملاء والنّحو
والصّرف والبلاغة وغيرها فقط، ولكنّها بجانب ذلك ذوقٌ رفيع، وجمالٌ آخّاذ،
ونَبْرٌ معبِّر وتنغيم مُصَوِّر، وجرسٌ عذب، وموسيقى مُطْرِبَة، فللتّعجُّب
نَبْرَة، وللاستفهام نبرة، وللاستنكار نبرة، وللتّحسُّر نبرة، ولاستمرار
الكلام واتّصال الجمل نبرة، ولانتهاء الكلام واستئناف ما بعده نبرة، ولانتهاء
الكلام في الآخر نبرة، وبعض المواضع يَحْسُنُ فيها خفض الصّوت، وبعضُها
يَحْسُن فيها رَفْعُه، وبعضُها تَحْسُن فيه الحماسة، وبعضُها يناسبه الهدوء،
وقد تُوَدِّي زيادةُ مدِّ حرفٍ انفعالاً نفسيّاً معيَّناً لا يؤَدّيه مدُّ
الحرف مدّاً طبيعيّاً، وقد يُؤدِّي البطْءُ في إلقاء كلمة ما لم يؤدِّه
الإسراعُ بها، وهكذا يكون الأداءُ الصّوتيّ الجيّد المنسجم في نبراته
وتنغِيماته مع طبيعة الكلام، جزءاً مكمِّلاً لإجادة اللّغة العربيّة وحسن
استعمالها، وعنصراً مهمّاً للتّعبير عن معاني الكلمات وتصوير خلجات النّفوس.
- الخطأ في الاشتقاق، كقولهم: مُشين بدلاً من شائن، ومقفول بدلاً من مُقْفَل،
ومُعاب بدلاً من مَعيب، ومُلام بدلاً من ملوم، ومبروك بدلاً من مبارَك،
والعاطي بدلاً من المُعْطي، ومَعْفِيّ من الضّرائب بدلاً من مُعْفىً،
ومَلْغِيّ بدلاً من مُلْغىً، والقاسم بالله بدلاً من المقْسم، والمُلْفِت
للنّظر بدلا من اللاّفِت… إلخ
- هذه نماذج وأمثلة محدودة لمظاهر الضّعف اللّغويّ في وسائلنا المكتوبة
والمسموعة، ولم نأت إلاّ بأقلّ القليل منها، ولو أحصينا كلّ الجنايات الّتي
تُرتَكب في حقّ لغتنا العربيّة من خلال تلك الوسائل، لملأنا بذلك مجلّداً
ضخماً.