ليـــــــــــــل الغربــــــــــــــــــــــــــة
رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Ououoo10
ليـــــــــــــل الغربــــــــــــــــــــــــــة
رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Ououoo10
ليـــــــــــــل الغربــــــــــــــــــــــــــة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ليـــــــــــــل الغربــــــــــــــــــــــــــة

منتــــــــــــــــــــدى منـــــــــــــــوع موسوعــي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
لكل الكرام المسجلين في منتديات ليل الغربة ، نود اعلامكم بأن تفعيل حسابكم سيكون عبر ايميلاتكم الخاصة لذا يرجى العلم برفقتكم الورد والجلنار
رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Colomb10
رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10سأكتب لكم بحرف التاسع والعشرين ..رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10 رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10لكل من هُجرْ ، واتخذ من الغربة وطناَ .رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10لكل من هاجر من اجل لقمة العيش ، واتخذ من الغربة وطناً رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10لكم جميعا بعيدا عن الطائفية والعرقية وغربة الاوطان رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10نكتب بكل اللغات رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10للأهل والاحبة والاصدقاء رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10نسأل ، نستفسر عن اسماء او عناوين نفتقد لها رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10نهدي ،رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10نفضفض ، رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10 رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10نقول شعرا او خاطرة او كلمة رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Yourto10اهديكم ورودي وعطر النرجس ، يعطر صباحاتكم ومساءاتكم ، ويُسكن الراح قلوبكم .
رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Colomb10احتراماتي للجميع

 

 رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 5:52 pm


رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ...

--------------------------------------------------------------------------------



كان تدوين الذكريات ونشرها حلماً حمله علي الطنطاوي في قلبه وأملاً ظل يراوده سنين طوالاً، حتى قال -في بعض سطور مقدمته لكتاب ـ تعريف عام ـ إنه يرضى أن يتنازل عن كل ما كتبه ويوفق الله إلى إكمال ذلك الكتاب (تعريف عام) وكتاب ـ ذكريات نصف قرن ـ .

وتأخر الأمر، وأجّل المؤلف الشروع فيه ثم ما زال يؤجّل (ألم يكن التأجيل من صفاته؟!)، ومرت السنون بإثر السنين، حتى كان يوم من أيام سنة 1981، جاءه فيه زهير الأيوبي يسعى إلى إقناعه بنشر ذكرياته في مجلة >المسلمون< التي كان قد ابتدأ صدورها في ذلك الحين: "ثم أحالتني الأيام على التقاعد، فودعت قلمي كما يودَّع المحتضر، وغسلته من آثار المداد كما يُغسل من مات، ثم لففته بمثل الكفن وجعلت له من أعماق الخزانة قبراً كالذي يُدفن فيه الأموات. حتى جاءني من سنة واحدة أخ عزيز، هو في السن صغير مثل ولدي، ولكنه في الفضل كبير، فما زال بي يفتلني في الذروة والغارب (كما كان يقول الأولون)، يحاصرني باللفظ الحلو، والحجة المقنعة، والإلحاح المقبول؛ يريدني على أن أعود إلى الميت فأنفض عنه التراب وأمزق من حوله الكفن، وأنا أحاول أن أتخلص وأن أتملص، حتى عجزت فوافقت على أن أكتب عنده ذكرياتي. فيا زهير: أشكرك؛ فلولاك ما كتبت".

لقد استجاب علي الطنطاوي لهذا الإلحاح وهو لا يتصور ما هو مقدم عليه، وأكاد أجزم أنه لو كان يعلم لأحجم وما أقدم، فقد هونوا عليه الأمر -بداية- حتى راح يتحدث وهم يكتبون ما يقول، وظهرت في مجلة >المسلمون< حلقتان كذلك، ولكنه ما لبث أن استثيرت همته ودبت فيه الحماسة فتحول إلى كتابة الحلقات بنفسه، ومضى فيها تجرّ كل حلقة حلقة بعدها حتى قاربت ربع ألف حلقة. وأحسب أنه لو لم يوافق -في ذلك اليوم- على الشروع بهذا المشروع لما رأينا هذه الذكريات بين أيدينا أبداً.

لقد كانت كتابتها أملاً من آمال علي الطنطاوي العظام كما قلت، وها هو يحدثنا عنها في مقدمتها في أول الجزء الأول: "هذه ذكرياتي؛ حملتها طول حياتي، وكنت أعدّها أغلى مقتنياتي، لأجد فيها -يوماً- نفسي وأسترجع أمسي، كما يحمل قربةَ الماء سالكُ المفازة لتردّ عنه الموت عطشاً. ولكن طال الطريق وانثقبت القربة، فكلما خطوت خطوة قطرتْ منها قطرة، حتى إذا قارب ماؤها النفاد، وثقل عليّ الحمل، وكلّ مني الساعد، جاء مَن يرتق خرقها، ويحمل عني ثقلها، ويحفظ لي ما بقي فيها من مائها؛ وكان اسمه زهير الأيوبي. جاء ني يطلب مني أن أدوّن ذكرياتي... وكان نشرُ هذه الذكريات إحدى أمانيّ الكبار في الحياة، ولطالما عزمت عليها ثم شُغلت عنها، وأعلنت عنها لأربط نفسي بها فلا أهرب منها ثم لم أكتبها، بل أنا لم أشرع بها؛ لأني لا أكتب إلا للمطبعة. لذلك لم أجد عندي شيئاً مكتوباً أرجع -عند تدوين هذه الذكريات- إليه وأعتمد عليه، وما استودعتُ الذاكرةَ ضعفت الذاكرةُ عن حفظه وعجزت عن تذكّره. لذلك أجّلت وماطلت، وحاولت الهرب من غير إبداء السبب، وهو يحاصرني ويسدّ المهارب عليّ، ويمسك -بأدبه ولطفه وحسن مدخله- لساني عن التصريح بالرفض. ثم اتفقنا على أن أحدّث بها واحداً من إخواننا الأدباء وهو يكتبها بقلمه. واخترنا الأخ العالم الأديب إبراهيم سرسيق، فسمع مني ونقل عني، وكتب حلقتين أحسن فيهما وأجمل، ولكن لا يحك جسمَك مثلُ ظفرك؛ فكان من فضله عليّ أن أعاد بعض نشاطي إليّ فبدأت أكتب".

ولكنه بدأ -كما قال- على غير خطة أو نظام: "بدأت كتابة الذكريات وليس في ذهني خطة أسير عليها ولا طريقة أسلكها، وأصدق القارئ أني شرعت فيها شبه المكرَه عليها؛ أكتب الحلقة ولا أعرف ما يأتي بعدها، فجاء ت غريبة عن أساليب المذكرات وطرائق المؤرخين". ولذلك قال في أول حلقة كتبها بيده للمجلة: "هذه ذكريات وليست مذكرات؛ فالمذكرات تكون متسلسلة مرتبة، تمدها وثائق معدَّة أو أوراق مكتوبة، وذاكرة غضة قوية. وأنا رجل قد أدركه الكِبَر؛ فكلّت الذاكرة وتسرّب إلى مكامنها النسيان". ثم يقول: "الجندي حين يمشي في مهمة عسكرية يمضي إلى غايته قدماً؛ لا يعرج على شيء ولا يلتفت إليه، ولكن السائح يسير متمهلاً؛ ينظر يمنة ويسرة، فإن رأى منظراً عجيباً وقف عليه، وإن أبصر شيئاً غريباً صوّره، وإن مرّ بأثر قديم سأل عن تاريخه؛ فيكون له من سيره متعة، ويكون له منه منفعة. وأنا لا أحب -في هذه الذكريات- أن أمشي مشية الجندي، بل أسير مسيرة السائح".

هذا ما كان في ذهنه حين بدأ يكتب الذكريات، فهلمّوا بنا -الآن- نقرأ أجزاءها المنشورة الثمانية لنرى ماذا وضع فيها.

أ . مجاهد مأمون ديرانية .


موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/


عدل سابقا من قبل Fati في الجمعة أغسطس 15, 2008 4:13 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 5:53 pm


تعريف بالجزء الأول :

الجزء الأول بدأ -كما يمكن لنا أن نتوقع- من طفولة المؤلف المبكرة؛ من أيام دراسته الابتدائية، بل من >الكُتّاب< قبلها، وفيها ذكر للحرب العالمية الأولى وتذكّر لنمط الحياة في الشام في تلك الأيام. ونحن نمضي فيه مع علي الطنطاوي الصغير وهو يتنقل من مدرسة إلى مدرسة، ومن عهد إلى عهد؛ من العهد التركي إلى العربي إلى الاستعمار الفرنسي، ونقرأ عن أيامه في >مكتب عنبر< (وهو المدرسة الثانوية) وعن شيوخه وأساتذته. ثم نجد والده قد توفي فاضطرب أمره، فانصرف إلى التجارة أمداً يسيراً ثم عاد إلى الدراسة، ونجده قد سافر -بعد النجاح في الثانوية- إلى مصر للدراسة بدار العلوم، ولكنه يقطع السنة قبل تمامها ويعود إلى الشام. وهو يحدّثنا -في مواطن متفرقة من هذا الجزء- عن أصل أسرته وعن أبيه وجده وعن أمه وأسرة أمه. وفي أواخر هذا الجزء نقرأ عن الثورة على الفرنسيين ونقرأ من شعر هذه الثورة الكثير.


موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 5:54 pm

على بركه الله نبحر في بحر الجمال والذكريات ، بحر الأدب والحروف الراقيه بحر الإبداع والتأمل ، نقف على ميناء الشوق الممزوج بمشاعر الحماسه ننتظر سفينه الطنطاوي لتأخذنا الى محطات من حياته ومواقف نراها كل يوم ولكنه رآها بعين الأديب صاحب الفكر والقلم.

للذكريات لمن يعرف كتب الطنطاوي وحديثه وقع خاص على النفس فمن تنقل بين درر الطنطاوي وبساتينه قبل قراءه الذكريات يعرف شعور اللذه في متابعه جمل الذكريات يعرف معنى الجمال الذي وصفه الكاتب الاديب الفقيه الطنطاوي ، جمال جميل وروعه رائعه سطرها لنا الشيخ الطنطاوي رحمه الله في ذكرياته.

من فضل الله علينا أن جعل آخر كتب الطنطاوي هي ذكرياته فما نرجوا بعدها هي اجمل كتبه بل ان الذكريات (بنظري) جمعت كل ما كتب ، الذكريات كتبت بحكمه الشيوخ وقلم الاديب وفكر الفقيه .

لو لم يكتب الطنطاوي ذكرياته لظلم محبيه اي والله لظلمنا ورحل عنا وهو يحبس في خزانة ادبه أجمل درة لديه.

لعل الكثير منكم سيعرف جمال ما أحكي بعد أن نبدأ في الابحار في محيط الأدب الطنطاوي ونصل لبعض الجزر الهانئه الهادئه التي لا نجد غير المتعه والجمال عنوانا لوصفها.


موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 5:58 pm


الحلقة 1 :

قال الشيخ رحمه الله تعالى :

ذكريات لا مذكّرات


هذه ذكريات و ليست مذكّرات ؛ فالمذكّرات تكون متسلسلة مرتبة ، تمدها وثائق معدّة أو أوراق مكتوبة و ذاكرة غضة قوية . و أنا رجل قد أدركه الكِبَرُ فكلّت الذاكرة و تسرب إلى مكامنها النسيان .

و النسيان آفة الإنسان ، و إن كان نعمة من الله . و لولا أن المرء ينسى آلام الحياة ما استطاع السكون إليها و لا الرضا بها .

و ليس لديّ أوراق مكتوبة أدوّن فيها الحادثة حين حدوثها و أصف أثرها في نفسي ، و هذا تفريط كامل مني لم يعد إلى تداركه من سبيل ، لذلك أوصي كل قارئ لهذه الفصول أن يتخذ له دفتراً يدون فيه كل عشية ما رأى في يومه ، لا أن يكتب ماذا طبخ و ماذا أكل و لا كم ربح و كم أنفق ، فما أريد قائمة مطعم و لا حساب مصرف ، بل أريد أن يسجّل ما خطر على باله من أفكار و ما اعتلج في نفسه من عواطف ، و أثر ما رأى أو سمع في نفسه ، لا ليطبعها و ينشرها ( فما كل الناس من أهل الأدب و الكتابة و النشر ) و لكن ليجد فيها ـ يوماً ـ نفسه التي فقدها

لا تعجبوا من هذا الكلام ، فنحن في تبدّل مستمر ، كل يوم يموت فيّ شخص و يولد شخص جديد ، و الميت أنا و المولود أنا . خلايا جسدي تتجدد كل بضع سنوات حتى لا يبقى منها شيء مما كان . عواطف نفسي تتبدّل ، فأحب اليوم ما كنت أكره بالأمس و أكره ما كنت أحبّ . أحكام عقلي تتغير ، فأصوّب ما كنت أراه خطأ و أخطّئ ما كنت أجده صواباً .

فإذا كانت خلايا الجسد تتجدد ، و عواطف النفس تتغير ، و حكم العقل يتبدل ، فما هو العنصر الثابت الذي لا يتبدّل و لا يتغير ؟ أقول : قال لي عقلي ، و قلت لنفسي ، فمن أنا ـ إذن ـ إذا كان عقلي غيري فأقول له و كانت نفسي غيري فتقول لي ؟

العنصر الثابت الباقي هو الذي لا ينقص إن قُطع عضو من أعضائي و لا يموت إن متّ ، بل يبقى حياً يحاسَب ، فيكافأ أو يعاقب .هذا العنصر هو " أنا " الحقيقي ، و هو شيء من غير عالمنا الأرضي فلا تنطبق عليه قوانين علومنا الأرضية ، هو الروح .

هذا تفسير قولي إن من تعوّد أن يكتب كل يوم في هذا الدفتر وجد فيه يوماً نفسَه التي فقدها .

قلت إني أدوّن ذكريات لا أكتب مذكّرات . أنا لا أستطيع أن أكتب قصة حياتي متسلسلة مرتّبة لأني أعتمد على ذاكرة فقدت حِدّتها و أبلت الأيام جِدّتها ، فقد أنسى الحادثة في موضعها ثم أذكرها في غير موضعها .

و عيبٌ آخر عندي ، هو عيب كتب الأدب العربي القديم و من نشأ عليها و ألِفها ، هو الاستطراد و الخروج عن الموضوع .

هذا كتاب " الحيوان " للجاحظ مثلاً أسألُ من قرأه منكم : كم في أبوابه ممّا يدل عليه عنوانه ؟ هل التزم فيه علم الحيوان ( أي علم الحياة ) أم ذهب به الاستطراد يميناً و شمالاً فتكلم في كل شيء ؟ هذا هو أسلوب كتبنا الأدبية فلا تلوموني ـ و قد نشأت عليها ـ أن أسلك سبيلها .

لقد صار الاستطراد عادة لي . أعترفُ أنها عادة سيئة و لكن ما أكثرَ العادات السيئة التي لزمتنا فلم نستطع الانفكاك عنها ! ولو كانت من المحرّمات لأكرهت نفسي على تركها ، فليس لمسلم يأتي المحرّمات أن يحتجّ بتعوده عليها ، و لكنها ـ لسوء حظي ـ ليست من المحرمات .

و لطالما كنت أخطب في الحشد الكبير أو أتكلم في الإذاعة أو الرائي ( و أحاديثي فيهما كلها ارتجال ليس أمامي ورقة مكتوبة أقرأ فيها ) ، فأستطرد و أخرج عن الخط ، فإذا انتهى الاستطراد وقفت كما وقف حمار الشيخ في العقبة ، فلا أذكر من أين خرجت و لا إلى أين أعود . و لا تسألوني من هو هذا الشيخ فإن المثل خلّد ذِكر الحمار و نسي اسم الشيخ ليعلّمنا أن خلود الأسماء ليس الدليل على عظمة أصحابها .

و المذكّرات يكتبها أرباب المناصب و رجال السياسة و قادة الجيوش ، الذين شاركوا في صنع الأحداث فاستحقوا أن تكون مذكّراتهم من مصادر التأريخ لهذه الأحداث ( بعد ضرب بعضها ببعض ٍ و تمحيص لأن كل خبّاز يجرّ النار إلى قرصه و كل راوٍ لقصة يكبّر دوره فيها و يصغّر أو يمحو دور غيره )
و لست من هؤلاء ، و إن كنت قد شاركت ـ من فوق المنبر ، أو من وراء المذياع ، أو من بين سطور الصحف و الكتب ـ في كثير من الأحداث في بلدي . شاركت فيها و لم أكن من صانعيها و لا من قاطفي أثمارها . و إني طول عمري أقرب إلى العزلة ، أعيش بين كتبي و قلة من إخواني ، ذهب جلّهم إلى رحمة الله .

و قد يقرأ امرؤٌ ما كتبت في الحادث العظيم أو يسمع ما قلت فيه ، فيحسب أني أنا مدبّر الأمر و أني مديره ، لا يعلم أني جئت من بيتي فدخلت من الباب الخلفي إلى المنبر ، ثم نزلت من المنبر فخرجت من الباب الخلفي إلى بيتي ، و إن كانت لي مواقف حوّلت مسار الحوادث و أقامت و أقعدت و أثارت و حمّست ، لا يزال يذكرها كثير من أهل بلدي .

عفواً فأنا لا أمدح نفسي ، و أنا أعلم أن الحديث عن النفس ثقيل على السمع و كلمة " أنا " ليست من الكلمات المستساغات و لكن ماذا أصنع و أنا أدوّن ذكريات موضوعها " أنا " فإن لم أتكلم عن نفسي في سرد ذكرياتي فعمّن تريدون أن أتكلم ؟ و لكن لكم عليّ عهداً أنا موفٍ به إن شاء الله ، هو ألاّ أقول إلاّ الحقّ و ألاّ أذكر مما صنعت إلاّ ما يشهد كل من " عاصره " أنني صنعته .

و بيان آخر : الجندي حين يمشي في مهمة عسكرية يمضي إلى غايته قُدُماً لا يعرج على شيء و لا يلتفت إليه ، و لكن السائح يسير متمهلاً ينظر يَمنةً و يسرةً ، فإن رأى منظراً عجيباً وقف عليه ، و إن أبصر شيئاً غريباً صوّره ، و إن مرّ بأثر قديم سأل عن تاريخه فيكون له من سيره متعة و يكون له منه منفعة و أنا لا أحب في هذه الذكريات أن أمشي مشي الجندي ، بل أسير مسيرة السائح .

لا أكون مغمض العينين لا يرى من الدنيا إلاّ نفسه كالذي يدخل بهو المرايا في " فرساي " . و لا أريد أن أتحدث عن نفسي وحدها و أغفل ما حولي .

و لعلّ وصف ما كان حولي أجدى على القراء من سرد قصة حياتي وحدها ؛ ذلك أن ما كان في صغري أمراً عادياً صار الآن عند أكثر الناس تاريخاً .

دمشق التي عرفتها و أنا صغير ليست دمشق التي نراها الآن تبدلت دورها و حاراتها و أزياء أهلها و كثير من أعرافهم و أوضاعهم و دخل الحديث عنها في باب التاريخ . و لست أصف هنا دمشق فإن لي كتاباً اسمه " دمشق " فيه صور من جمالها و عِبَر من نضالها و نشرت في " الرسالة " في عَشر الثلاثين من هذا القرن الميلادي ( أو الثلاثينيات كما تقولون ) مقالات كثيرة عنها .

و في الدنيا اليوم مدن كثيرة موغلة في القِدم ، حتى إن التاريخ نفسه لم يدرك ولادتها ، و لكن دمشق أقدم المدن العامرة المسكونة في الدنيا . و في الدنيا مدن كثيرة بارعة الجمال ، و لكن دمشق ( في نظر أهلها على الأقل ) أجمل مدن الدنيا . أو كانت أجمل بلاد الدنيا فأفسدنا نحن ـ أهلها ـ جمالها .

أدهَشت غوطتُها العربَ لمّا رأوها ، فأنطقت شعراءهم بروائع البيان و خوالد القصائد . فأين اليوم الغوطة ؟ الغوطة الغربية قطعنا أشجارها و قلعنا أورادها و أزهارها و رمينا فوق رأسها الحجارة و الأبرق ( أس الإسمنت المسلّح ) فقتلناها خنقاً و دفنّاها حية ، و أقمنا عليها بيوتاً طبقاتها صناديق و علب لسردين البشر جعلناها قبوراً لها .

تبدلت دمشق حتى جوها . من كان يحتاج في صيف دمشق إلى مراوح فضلاً عن المكيّفات ؟ متى كانت تصل الحرارة فيها إلى أربعين درجة مئوية ؟ كان إخواننا من أهل المملكة السعودية و أهل العراق يصيّفون في دمشق نفسها ، و ما كنا نحن ـ أهل دمشق ـ نعرف الانتقال في الصيف إلى الجبال . فما الذي غيّرها ؟ من ألهب هواءها و سدّ مسارب النسيم الناعش إليها ؟ نحن ، نحن الذين قطعوا أشجارها . الناس يزرعون و نحن نقلع ، و هم يحوّلون الصحارى بساتين و نحن نمسخ البساتين صحراء . ما صنعنا هذا اليوم و لا قبل خمس سنين ، بل هي جناية جنيناها على دمشق من عشرات مضت من السنين حتى ضاع الجاني و قُيّدت " جناية من مجهول " !

حتى الغوطة الشرقية ، الغوطة الكبرى ، ما سلمت منا و لا نجت من أذى أيدينا . في طرف الغوطة منطقة تُدعى " درب الجوز " أعرفها أنا ، فيها من أشجار الجوز ما لا يحيط بجذع الشجرة منها رجلان إذا مدّا أيديهما لست أدري من هو العبقري الذي اختارها لمنطقة المصانع ولا متى كان ذلك فقامت مكان الأشجار الضخمة التي تثمر الجوز مداخن ُ تنفث الدخان .

الذي يقف على باب داره يرى الطريق و الدكاكين و المارّة رؤية وضوح و بيان و لكنه لا يرى ما بعد المنعطف و لا ما وراء الحيّ . فإن صعد المنارة رأى الحيّ كله فاتسعت ساحة النظر و لكن قلّت تفاصيل المنظور . فإن ركب الطيارة أبصر البلدة كلها بنظرة شاملة لأطرافها مبيّنة لحدودها لكنها مضيّعة لتفاصيلها ماحية لدقائقها .

فما صورة دمشق التي عرفتها و أنا صغير ؟

كنت إذا صعدت جبل قاسيون و بدت لي دمشق بغوطتيها و انجلت لعينيّ لوحة عرضها أكثر من عشرين كيلاً ألفّها بنظرة واحدة من شرفة داري ؛ أرى الدنيا كلها تجمعت مصغّرة فيها : فالعمران في البلد يتوسطه الجامع الأموي و قبة النسر التي كانت ـ منذ كانت ـ من أعظم القباب التي أقامها العقل المفكر و اليد الصنّاع ، و الحدائق و الجنّات من حولها ، و بردى و أبناؤه الستة تجري من تحتها ، و المِزّة تنظر إليها ، و قاسيون يطل عليها و سهول المزة و الكسوة تجاورها . فيها كل ما في الدنيا من سهل و جبل و بستان و قفر و ساقية و نهر و مسجد و قصر إلاّ البحر .

على أنك ترى حول البلد ( أو كنت ترى ) بحراً من الخضرة و النبت و الشجر .

و أرى دمشق كأنها طائر حط ليستريح ، جسده وسط السور و جناحاه ممتدّان إلى ميدان الحصى و حيّ المهاجرين أو كأنها عروس أتعبتها حفلة الزفاف فنامت : رأسها على ركبتي قاسيون و قدماها في قرية " القدم " و قبلها حيال قلب البلد الذي يهفو إليه قلب كلّ مسلم و هو المسجد ، الجامع الأموي ، أقدم المساجد الفخمة في ديار الإسلام ( حاشا الحرمين ) و إن كان التأنق في تفخيم المساجد و تزويقها و زخرفتها مما لا يستحسنه الإسلام .

على أني سأعود ثم أعود إلى الحديث عن دمشق و الحديثُ عن دمشق لا يُملّ و لو أني كتبت عن كل شهر عشته فيها صفحتين لكان من ذلك كتاب أكبر من القاموس المحيط .

أرجع إلى ذكرياتي :

قرأتم في بعض ما كتبت قديماً قصة الساعات التي قضيتها في الكتّاب . بل الذي قرأتموه هو بعض القصة ، طرف منها . في المحكمة يحلّفون الشاهد بأن يقول الحق ، كل الحق و لا شيء غير الحق ؛ ذلك لأن بعض الحق أقرب إلى الباطل . و الذي قرأتموه عن ساعاتي في ذلك الكتّاب صحيح و لكنه بعض الحق .

كانت تلك الساعات أمرّ مما قرأتم عنها و كان جرحها في نفسي أعمق و حسبكم أن تعلموا أنه مرّ عليها اليوم سبع وستون سنة و لم أنسها . و لكني لم أعُد أحسّ ألمها ، لأنني حين أتحدث عني و أنا صغير أكون كمن يتحدث عن إنسان آخر هو أنا و ليس أنا . لا أتفلسف و لا آتي بالأحاجي و الألغاز بل أقرر حقيقة . قلت لكم إنه مر في حياتي عشرات من الناس كلهم يحمل اسمي ، و كلهم " أنا " بمعنى الكلمة عند زملائنا أساتذة علم النفس و ما منهم إلا واحد هو أنا بإحساسي و عاطفتي و فكري .

حسبتموني قد أثّر فيّ الكبر فخرفت ؟ أتريدون أن أفسر لكم ما قلت ؟ قفوا على الجسر و راقبوا ماء النهر يجري تحت أرجلكم . هل ترون قطرة تقف ؟ أليس كل ما ترونه قطرات يدفع بعضها بعضاً ؟ واحدة تروح فلا ترجع أبداً و واحدة تأتي على أثرها فلا تقف أبداً. إنه أبداً في تبدّل ، في تجدد ، لا يمكن ـ مهما أطلت الوقوف على الجسر و مهما عدت فوقفت من جديد ـ لا يمكن أن ترى قطرة واحدة مرتين . و كذلك الإنسان ، إنه في تبدل و تجدد و لكن هذا التبدل لا يُفقد النهرَ اسمه و لا خصائصه و لا يجعل النيل دجلة و لا دجلة بردى و لا بردى نهر التايمس .

و كذلك الإنسان تبقى شخصيته ثابتة فلا يصير زيد عمراً و لا صالح بكراً .

لذلك أشكر أخي زهيراً أن أرجعني القهقرى في طريق العمر حتى لقيت ما أضعت من نفسي ، حين ألزمني كتابة هذه الذكريات ، و غرّه مني شيبي و شبابه فأمسك بي بقبضة لم أستطع الإفلات منها ، و بعث في أثري شرطياً عنيفاً هو إبراهيم سرسيق رجل له لسان طريّ ليّن و يد طويلة قاسية فسحبني بلسانه و لفّ عليّ يده و لو جاءاني من أربعين سنة و أنا في مثل سنهما لما قدرا عليّ ، و لو كانت هذه الكتابة يومئذ لكتبت غير هذا الذي أكتبه الآن .

كنت أغرف من بحر و أنا اليوم أنحت في الصخر . كان الفكر شاباً فشاخ ، فمن قال لكم إن الفكر لا يشيخ فلا تصدّقوه . كان قلمي يجري على القرطاس كفرس السباق لا أستيطع أن أجاريه فأمسى كالحصان العجوز أجرّه فلا يكاد يُجرّ . كانت المعاني حاضرة و القلم مستعداً و لكن الصحف مفقودة أو قليلة و كنا نكتب بلا أجر فلا نجد من ينشر لنا فكثرت المجلات و زادت الأجور و لكن كلّ الذهن و ثَقُل و ضعفت الذاكرة كنا جياعاً فقدنا الطعام فلما حضر الطعام فقدنا الشهية !

كنت كمن أقام مصنعاً جلب له أحسن الآلات و شغّل فيه أقدر العمال و أخرج من أجود المنتجات فلم يجد لها شارياً . و ملّ الانتظار فباع البضاعة جزافاً و سرّح العمال و باع الآلات فأقبل عليه الشارون و تواترت الطلبات .


موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 6:00 pm



الحلقة 2 :

من ذكرياتي عن دمشق :



الحياة الحب والحب الحياة . هذا ما قاله شوقي , ولكني لست في هذا معه , فقد يموت المحب ويعيش الناس بلا حب . وما انا من أنداد شوقي , لكن لو قال : ما العيش إلا الذكريات , لكان أصدق .

النبات يمتص حياته من أرضه بجذوره , فإن نقلته منها تقطعت , فذبلت الأوراق وتراخت العروق , والإنسان في هذا كالنبات وجذوره ذكرياته فإن نقلته إلى بلد ما له فيها ذكرى , وما تربطه بها رابطة , أحس كأن قد انقطع سلك حياته , فإذا أقام في البلد الجديد اتصل المنقطع , كالنبات يضرب جذوراً جديدة في المكان الجديد وتنمو وتمتد كلما امتد المقام , فإذا أعدته إلى أرضه الأولى عاد إلى الذبول .

وهذه مشاعر عرفتها لما ذهبت إلى مصر للدراسة سنة 1928 , وإلى العراق للتدريس سنة 1936 , وإلى بيروت سنة 1937 .

ثم قدمت المملكة سنة 1963 وأقمت فيها إلى الآن , وإن لم أجد الاستقرار لأن دنيا طالب العلم مكتبته , ومكتبتي في الشام مودعة في خمسة وثمانين صندوقاً لم تفتح من إحدى عشرة سنة , ولست أدري أأكلتها الأرضة أم هي سالمة لا تزال , وانا هنا محروم منها , لا أستطيع الوصول إليها ولم أجد المحسن الكريم الذي يوصلها إلي بالأجرة لا بالمجان , فما أريد إحساناً من احد لأن الله أغناني بإحسانه .

وقد أصبحت أزور الشام لماماً , لما حيل بيني وبين زيارتها بعد أن كتبت عنها مالم يكتب مثله أحد من أهلها , وشاركت أهلها النضال للاستقلال .

وكان آخر عهدي بها من أربع سنين ( كتب هذا الكلام سنة 1401 ( : ذهبت إليها بعدما انقطعت عنها ( أو قُطعت ) خمساً , فهبطت بي الطيارة في المطار الجديد , ولم أكن أعرفه من قبل , فنظرت إلى البلد من بعيد , فقلت مقالة بلقيس : ( كأنه هو ) .

الجبل الذي يلوح لي جاثماً على حافة الأفق هو قاسيون , وهذه المنازل الماثلات صفوفاً كالأولاد المدللين في حضن الأب الحاني , هي أحياء السفح : المتشهد , يشير بكلمة الحق نحو السماء , هي مآذن المساجد , ومن نعم الله على أهل الشام , أنه لا ينشأ فيها حي جديد إلا كان أول ما يقام فيه المسجد , يقيمه الشعب بماله , مساجد ليست للمظهر ولا للزينة ولكن لتمتلئ بالمصلين والدارسين وجلهم من الشباب .

هذي دمشق , فلِمَ لا أحس فرحة الآيب إلى بلده ؟ لماذا أراها متغيرة في عيني ؟

وتوجهت بي السيارة إلى البلد , تمشي خمسة وعشرين كيلاً في بستان واحد , هو ما بقي من الغوطة الشرقية , تتماسك أشجاره تماسك أيدي الأصدقاء ساعة اللقاء , وتتعانق فروعها تعانق العشاق بعد طول فراق , حتى بلغنا دمشق ...

ولكني لم أشعر بانها دمشق , وحسبت الطيارة ضلت الطريق إليها , فهبطت غيرها , شوارع عراض وعمارات عالية وساحات وجسور ( يسميها إخواننا المصريون باسمها التركي : الكباري ) ولكن مالي ولها ؟ هذه مدينة جديدة طالما رأيت مثلها حيثما مشيت في مناكب الأرض , ولقد مشيت إلى أقصى الشرق من أندونيسيا وأبعد الشمال من هولندا .

إنها متشابهة كالنسخة المطبوعة من الكتاب وأنا أريد نسختي المخطوطة , نسختي المفردة على ما فيها من عيوب , هل يتخلى أب عن ابنه لعيوبه , ويأخذ ابن غيره المنزه عن العيوب ؟

أريد دمشق مربع أسرتي ومرتع صباي ومغنى فتوتي , فأين هي دمشق التي تشممت رياها ونشقت صَباها ونشأت في حماها ؟

أهذي هي دمشق ؟ فما لها تغيرت معالمها وتبدلت أزياؤها , وأن ازداد عمرانها وعلا بنيانها ؟

ما للوجوه غدت غير الوجوه ؟ كنت إن قابلت في الطريق عشرة , عرفت منهم واحداً أو أثنين , وعرفني أربعة أو خمسة ... فما لي اليوم أبصر مئة فلا أكاد أعرف من المئة واحداً , ولا يعرفني ثلاثة ؟

أبدلت الدنيا , أم صرت غريباً في بلدي ؟

أما الخيام فإنها كخيامهم ****** وأرى نساء الحي غير نسائها

وطفت في هذه الشوارع المتشابهة , أفتش عن دمشق التي عرفتها وأحببتها , ومن يعرف دمشق ( تلك ) ويملك نفسه ألا يحبها ؟

وطفقت أسأل المحسنين من المارين : ألا من يدلني على دار الحبيب , ولكن ما من مجيب , حتى هبت نسمة من جهتها , شممت من طيبها , فهداني أريجها إلى مكانها ...

فإذا أنا في ساحة (المرجة ) تلك التي كانت طرف البلد فصارت وسط القديم منه , ذلك ان المدن كالناس تعيش وتموت , تنمو وتشب ثم تهرم وتشيخ , وربما ولدت طفلاً فكبر الطفل فزاحمها على مكانها وأزاحها عنه ...

ودخلت سوق ( الحميدية ) الذي سارت بذكره الركبان ( كما يقال ) ولكن وقفت فيه المشاة , وقفت فلم تتحرك إلا بمثل حركة ( التصوير البطيئ ) في الأفلام , ورحت أزاحم ونسيت أن الأيام لم تبق لي كتفاً تشق الزحام , وتطيق الصدام , غامرت ودخلت وصبرت , حتى إذا صرت عند السوق الذي يصل إلى خندق القلعة ( قلعة دمشق ) التي لا تزال باقية سليمة , انحرفت يميناً فإذا أنا أمام مدرسة التجارة , وما مدرسة التجارة ؟ إن هذا المكان أقدم وأكرم وأعظم , إن فيه مأثرة من اعظم المآثر في تاريخنا العلمي بل في تاريخ العلم الإنساني , ها هنا كان أكبر مستشفى في الدنيا وأرقاه وأكمله , لم ينشأ مثله إلى عصره , هو البيمارستان النوري , أي المستشفى الذي أقامه السلطان نور الدين زنكي .

لا لن أحدثكم هنا عن عظمته , فاذهبوا فابحثوا عن تاريخه .

ثم انعطفت يساراً فدخلت زقاق الفخر الرازي وفيه قبر له ولهذا القبر قصة طريفة سأقصها عليكم , فمررت بين القبر وبين منزل الأديب الشاعر خليل مردم بك , وكم كانت لنا فيه من مجالس مع شيخنا عالم الشام الشيخ محمد بهجة البيطار , وصديقنا ( بل أستاذنا ) العالم الأديب الشاعر عز الدين التنوخي , وأستاذنا صاحب الدار , رحم الله الجميع , وأخوي رفيقي العمر , أنور العطار الشاعر رحمه الله والأستاذ سعيد الأفغاني سلمه الله .
وجزت بها حتى وصلت إلى زاوية الزقاق ومن هذه الزاوية يبدأ حديث اليوم ...

****

في هذه الزاوية بقايا باب , تدخل منه إلى دار صغيرة , تفضي إلى صحن واسع جداً , في صدره إيوان له قوس عالية جداً , وإلى جانبك واجهة قاعة بعيدة الجنبات , رفيعة السقف , ولكن الدار مخربة الجدران , والقوس مهدمة الأركان , والأرض قد تحطم بلاطها وتكسرت حجارتها وفي وسطها بركة ما فيها ماء وليس عليها رواء , وحول الصحن غرف مهترئة الأبواب , مخلعة النوافذ , ( والقاعة ) الكبيرة التي تمتد على نصف طول الصحن مملوءة هي والغرف بالبضائع , والحمالون يدخلون ويخرجون يحملون صناديق , وينزلون صناديق , وهم يصيحون ويصرخون , فوقفت أنظر وفي العين عَبْرة وفي النفس عِبْرة , وتصورت أني اخرج من مكاني الذي أقف فيه ثم أنأي عنه , وانحصر ذهني في الماضي , فتوهمت أنها تحققت خرافة ( نفق الزمان ) التي عرضها علينا الرائي هنا في يوم من الأيام : يدخل منه المرء فيسافر في الماضي يقف حيث شاء , فدخلت فإذا أنا أعود أدراجي أتخطى رقاب السنين , أتقدم ولكن إلى الوراء , أوغل في مسالك النفق , والأيام تكر راجعة بي حتى وقفت على أوائل سنة 1914 .
ورأيت الدار تعود معادي فإذا هي كمثيلاتها من دور دمشق العظام في تلك الأيام .

الأرض تفرش بالحجر المنقوش والمرمر الصافي , والجدران تكتسي الرخام ذا الألوان , والنقوش الروائع الحسان , وتتجدد البركة ويعود إليها رواؤها ويجري فيها ماؤها , أما ( القاعة ) فيكون فيها مثل ما في ( قاعات ) الدور الكبار في الشام : ( فسقية ) وهي طبق من الرخام المجزع والحجر المِزي ( نسبة إلى المزة في دمشق ) منحوت بيد صناع , مقرنص الجوانب , ينصب فيه الماء من نوافير صغار , ترسم خطوطها متعاطفاً بعضها مع بعض , يكون منها مثل القبة الصغيرة , إذا تكسرت عليها أشعة النور بدت كأن فيها ألفي حجر من الألماس , ثم ينصب الماء من الجوانب إلى طبق مثله أكبر منه , وكذلك ينتقل الماء من طبق إلى طبق , بأبرع صناعة واجمل فن .

وفي هذه (القاعة) من هذا المنزل شيء لم أر مثله في غيره من دور دمشق الكبار , هو موقد ( شومينة ) من الرخام المتشابك لها مدخنة من مثله , ومن حولها ممران في الجدار , يجري فيهما الماء شلالاً صغيراً في الصيف ليبرد الجو في حين يدفئه الموقد في الشتاء .

وفي صحن الدار أشجار لا بد من مثلها في دور دمشق : الليمون والنارنج , ودوالي العنب تمتد جذوعها حتى تبلغ ( المشرقة ) وهي سطح الدور الثاني , وأكثر المنازل من طابقين أو دورين , أرضي للصيف وعلوي للشتاء , ويقام لدوالي العنب ( عريشة ) وهي سطح من جذوع الخشب تتمدد عروقها عليها , تثمر العنب ( البلدي ) وثمرته بيضاء مستطيلة قاسية , أو ( الحلواني ) وهو مستدير أشقر قاس , وكان لدار عمي في الصالحية دوالي تغطي سطوح الدار , تنتج في السنة ( حقيقة لا تقديراً ) من سبعمئة إلى ألف كيل , صدقوني فلست أبالغ , لقد أقاموا مرة في ( داريا ) من قرى الغوطة الغربية معرضاً للعنب الشامي عرض فيه مئة وأربعة أنواع من العنب .
وجدران الدار مغطاة بأجمل أنواع النباتات المعروشات : الياسمين البلدي والمليسة والياسمين العراتلي وأنواع أخرى , لا ينفعكم سرد أسمائها إن لم تذهبوا إلى الشام وتروها في دورها , وتروا في كل دار عشرات الأصص الصغار فيها من كل الأوراد والأزهار .

ولكن يا للأسف ويا للحسرة , لقد ذهبت تلك الدور وما فيها , تلك ( بيوتنا هدمناها بأيدينا ) ( هذا عنوان فصل أو قصة حقيقية في كتابي ( من حديث النفس ) ) .

كانت جنات تجري من تحتها الأنهار , كانت مصيفاً وكانت مشتى , كان من فيها حراً , لا يرى حرم جار , ولا يرى جار حرمه , فاستبدلنا بها صناديق من الأسمنت , لا تدفع حر الصيف ولا برد الشتاء , من كان فيها رآه جاره وهو في فراشه ورأى هو الجار , إن ضحك أو بكى أو عطس سمعه من ( المنور ) كل سكان العمارة ؛؛
كانت بيوتنا من خارجها كانها مستودعات بضاعة أو مخازن تبن , فإذا دخلت فتح لك باب إلى الجنة , بهاؤها لأهلها , لا نافذة تفتح على طريق , بل لقد ادركت عهداً في الشام : الدار التي يفتح بابها على الجادة يقل ثمنها , لأن الدار المرغوب فيها التي يكون بابها في ( دخلة ) أو ( حارة ) .

وكانت نساؤنا كمنازلنا , يسترها عن العيون الحجاب السابغ , فلا يبدو جمالها إلا لمن يحل له النظر إليها , فهتكت الأستار عن المرأة والدار , هذه هي الدور الشامية التي انتقل طرازها , لا إلى جيرانها , بل إلى الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط ( الذي كان يوماً بحيرة عربية ولا تزال شواطئه أكثرها عربي وغالبها مسلم ) .

إنها قفزت البحر بطوله لا بعرضه , إلى الأندلس ثم إلى المغرب .

ما الذي أريد ان أقوله بعد هذه المقدمة التي نويت ان أجعلها سطوراً فصارت صفحات وغدت مقالة كاملة ؟

أريد ان أقول إن المدرسة التي انتقلت إليها بعد تلك الساعات المعدودة في ذلك الكتّاب المرعب , كانت في هذه الدار .

هذه هي إحدى دور أسرة مردم بك , ما زهد فيها أهلها حتى جعلوها خراباً , بل إن صاحبها تنبه إلى سقف القاعة , وكان كأمثاله من السقوف القديمة , فيه أبرع النقوش وأحلاها , بأثبت الألوان وأبقاها , أدرك قيمته ففكّه قبل أن يتخلى عن الدار , وباعه لمديرية الآثار وهو محفوظ الآن في متحف الفنون الشعبية في دمشق .

وهذا المتحف أقيم في أكمل نموذج للدور الشامية , وهو ( دار العظم ) فإن زرتم دمشق فستزورونه وترونه .
ومن أصحاب هذه الدور من نقل القاعة بحجارة جدرانها وسقفها المنقوش إلى عمارته الجديدة , فجعلها في غرفة فيها , صنع ذلك ( لطفي الحفار ) رحمه الله من قدماء السياسيين ومن رؤساء الوزارات .


موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 6:01 pm


الحلقة 3

من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية


تركتكم عند باب الدار قبل أن ندخل إليها ، فهل أتبع معكم سنة نسائنا عند باب الدار قبل أن يخرجن منها ؟ من سننهنّ في الشام أنها مهما طالت الزيارة و مهما امتدّ الحديث فلا بدّ للزائرات من وقفة وراء الباب للدّردجة ، فهل تقفون معي أمام باب لمثلها ؟

أقف لأشكر و لأشكو ، " فاعجب لشاكٍ منهُ شاكرٍ " كما قال البهاء زهير . أشكر الأستاذيين الناشرين و الأستاذ رئيس التحرير ، و الأستاذ إبراهيم سرسيق على ما كتب في جريدة المدينة ، فقد ألبسوني من ثنائهم ثوباً أطول من جسدي و أعرض فجعلوني أتعثّر بذيوله إن مشيت ، لذا اضطررت إلى الوقوف .

و هذا الذي أشكوه :

يا إخوتي ، إن مَثَلَي و مثلكم مثل رجل غنّى لنفسه في الحمّام ( كما غنى جحا ) فأعجبه صوته ، فغنّى لنفر من أصدقائه الأدنَين فأطربهم غناؤه ، فلما طربوا طلبوا إليه أن يعود فيغني لهم ، و هو يتشجع و يزيد . فقام واحد منهم على المنبر في مجمع الناس فقال لهم : أعرّفكم بمغنٍّ ما سمع السامعون أندى منه صوتاً و لا أطيب حنجرة ، و لا أبصر بالألحان و لا أعرف بالأنغام . فهل تعرفون ماذا كان بعد ؟

الذي كان أنه لم يَعد يحسن شيئاً . إن النتيجة تُعلن بعد الامتحان ، فما لكم تعلونها قبله ؟ ألا تخافون أن أسقط فيه ؟ ألا تعلمون أنكم بما رفعتموني فوق منزلتي ( في صدر العدد الرابع من مجلة " المسلمون " ستجعلون سقطتي أشدّ لأن الذي يقع من فوق النضد أو الكرسي ليس كمن يقع من فوق المنارة ؟

و لماذا وضعتم صورتي على الغلاف ؟ إننا نسمع أن " فتاة الغلاف " لا تكون إلاّ من ذوات الصبا و الجمال فماذا يصنع القرّاء بصورة شيخ مثلي ؟ ثم إنكم اخترتم صورة لي كبّرتني و جعلتني أبدو أكبر من سنّي . إن الذي يراها يظنها صورة ( عجوز ) في السادسة و السبعين مع أني في الخامسة و السبعين فقط لا غير .

قال الأستاذ زهير إنه أقنعني بأن أكتب بعد جهود استمرّت أكثر من ثمانية شهور ، فظنّ القرّاء أنها كانت مفاوضات مالية و مساومات على نشر المذكّرات ، و لم يعلموا أننا لم نذكر فيها قطّ المال و لا حق النشر ، و إنما كانت حرصاً منه ( أحسن الله إليه ) على إخراجي من المحبَس الذي حبست فيه نفسي و ظناً منه أنه سيأتي " بما عَجَزَت عنه الأوائلُ " فيعيد الشباب إلى ذهن قد دبّ إليه المشيب ، يريد أن أصف عرس الربيع و أنا في مأتم الشتاء .

إن إخواني في المملكة العربية السعودية لا يعرفون ما الربيع ، و لو كانوا في الشام و رأوا الغوطة حين تشم روائح آذار ، فتنبثق فيه الزهور من الحطب حتى تصير الشجرة بيضاء كالألماس ثم تتناثر الزهور و ينبت مكانها الورق فتغدوا خضراء كالزبرجد ثم تحبل الشجرة فتلد الثمار حتى تميل إلى الأغصان .

و لكن ما لي أترك سماء الواقع و أنزل إلى حضيض التشابيه ؟

ما لي و للألماس و الزبرجد ؟ تلك حجارة ميتة و أنا أصف الزهر الحيّ . إن أشجار الغوطة في الربيع كالعرائس في ليالي الزفاف و لكن لا ، أتريدون أن أشبّه العروس بتمثال الشمع في المتحف أو في مخازن الثياب عند عارضي الأزياء كما كان يصنع ابن المعتز ؟ لست في سوق الصاغة و لكني في معرض الأذواق .

و ينتهي الصيف و يأتي الخريف فيصفّر الورق و يسّاقط و ترجع الشجرة حطباً و تصير أيام الربيع ذكرى و لكن الشجرة يتجدد ربيعها . إن شتاءها يلد ربيعاً جديداً و ربيع حياتي الذي ولّى لا يتجدد .

ودّعت أحلامي بطرف باكي

و لممتُ من طُرُق الملاح شِباكي

و إن لم أنصُب في عمري شبكة لفتاة ( صدقوني ) و لا أوقعت حسناء يوماً في شرَك .

كان لي بالأمس قلبٌ فقضى

و أراحَ الناس َمنه و استراح

لقد قضى فهل رأيت ميتاً عاد بعدما مات ؟ هل أبصرت في سنة واحدة تعاقب ربيعين ؟ هل سمعت بإنسان عاش شبابه مرّتين ؟

كنتُ إن برقَت لي بارقة من جمال في وجوه البشر أو صفحات الكون أحسست بالعاطفة تشتعل في صدري و المشاعر تلعب بشغاف قلبي فأفزع إلى القلم لأسجّل ما أحسست به فيسابق قلمي فكري . و إن قرأت أخبار الوفاء أو الغدر أو سمعت أنباء الخبر أو الشرّ شعرت بالأفكار تقرع جوانب رأسي فأسارع إلى القلم لأقيّدها فأسكنّها . و إن صافح سمعي أبياتٌ من شاعر ينظم حبّات قلبه عقودَ بيان ( لا كشعر هذا الزمان ) أو نغمات من مغنٍّ يصوغ عواطفه طاقات من ألحان هزّتني فهززت قلمي .
أسمع المغني في هدآت الليل يقول آه فأحسّ أنه يوقظ نائم الأشجان في كل قلب عاشق هيمان ، أو مفجوع أسيان ، حتى يقول معه " آه " يقتلعها من أعماق فؤاده و إن نادى " يا ليل يا ليل " أصغى إليه الليل و توقّف يستمع فما يسير ، و تأخر الفجر و استمهل حتى يفرغ من نداء الليل .

كان كل ما أرى و كل ما أسمع يجعلني أكتب ؛ أقوم من منامي و أكتب ، و أقف على جانب الرصيف لأكتب ، و لطالما كتبت المقالات و القصص على حواشي الجرائد و على كيس البقّال ! لقد قرأت مرة ما كتبه الأستاذ محمد نمر الخطيب عن " بنات العرب في إسرائيل " و أنا على قوس المحكمة بعدما فرغت من المحاكمات فكتبتها على كل قطعة ورق تحت يدي لم أنتظر حتى أنزل عن القوس إلى غرفتي و لم أنزل حتى كتبت القصة كلها في جلسة واحدة .

لذلك بلغ المطبوع ممّا كتبت إلى الآن أكثرَ من أحد عشر ألف صفحة ، و ما ضاع منه كثير . فلماذا لم تلقني يا أستاذ زهير في تلك الأيام ؟ يا أسفي على تلك الأيام ! لماذا لم تأتني و قلبي شاب ، و ذهني حاد ، و ذاكرتي قوية و همّتي لا يقف أمامها شيء ؟ لماذا ؟

آلآن يا أستاذ ، آلآن ؟ بعدما جف القلم و طُويت الصحف و نُسيت الوقائع و خمدت نار الحماسة و سكنتُ إلى عزلتي ...

جئت تدعوني أن أملأ بالمداد قلماً ما عاد يصلح للكتابة و أنشر صحفاً بليت و اصفّرت من طول الإهمال ؟ و لئن قدرت على هذا ففعلته فمن لي بأن تتقد بين جوانحي النار التي خمدت ، و تُبعث في نفسي الحماسة التي ماتت ؟

أبعدما ولّى الربيع و صوّح النبت جئت تطلب مني الزهر ؟ من أين آتيك باللبن و شاتي قد جف ضرعها ؟ أين مني الزهر و روضتي قد يبس زرعها ؟

على أني لا أيأس فلا يكلّف الله نفساً إلا وسعها فاقبل مني ما عندي فهذا هو اليوم غاية جهدي .


و تعليق آخر :

قال الأخوان الأستاذان الناشران إني لو أعلنت رقم هاتفي لما تركني السائلون ساعة في الأربع و العشرين ساعة .

يا سيديّ الكريمين ، إني لم أعلن رقم الهاتف و لكن قد كان الذي صوّرتماه و طالما رجوت أن ينحصر سؤال السائلين بين العصر و المغرب فما استُجيب رجائي . إني لا أكتم شيئاً من علمي القليل و لا أضنّ بمشورة على من يثق بي و يستشيرني و لكن طاقة المرء محدودة " و الصبر له حدود " كما تقول الأغنية .

و بعد فلقد طال الوقوف على الباب فتفضّلوا بالدخول لا إلى الأطلال التي وصفتها في الحلقة التي مضت بل إلى الدار أيام عزّها أترون جلالها و تحسّون جمالها ؟

هنا كانت المدرسة الأولى التي دخلتها في حياتي . لا تعجلوا عليّ فتغبطوني أن انتقلت من ذلك الكُتّاب المُعتم إلى هذه المدرسة المشرقة و من ضيقه إلى سعتها ، فقد يعيش المرء سعيداً في الكوخ و قد يشقى في القصر . أما أنا فقد استهللت دراستي شقياً في الكُتّاب و شقياً في المدرسة . هذه المدرسة الكبيرة ، التي كانت تسمى " اتحاد و ترقي مكتبي إعدادي سي " و التي اختصر الناس اسمها و عرّبوه فقالوا " المدرسة التجارية " لأن الذي فتحها جماعة من التجار .

و كانت مدرسة جامعة ، فيها قسم للحضانة و قسم للابتدائي و قسم للإعدادي و الثانوي ، و مجموع سنوات الدراسة فيها اثنتا عشرة سنة و منها إلى الطب أو السفر لإسطمبول و هي إحدى مدارس أهلية ثلاث : " الكاملية " التي أنشأها الشيخ كامل القصاب ، العالم الوطني السياسي و من مؤسسي " المعارف " في المملكة و " الكلية العلمية الوطنية " و هذه ( المدرسة التجارية )

و مدارس حكومية أنشئت في أواخر القرن الثالث عشر الهجري مع مدارس البنات التي فُتحت بسعي المصلح الموجّه المعلم الشيخ طاهر الجزائري و لي عمة كانت رحمها الله من أوائل من تعلّم في هذه المدارس و أخذت منها الشهادة " الرشدية " ( و هي بين الابتدائية و المتوسطة ) سنة 1300 هـ و كانت الشهادة عندي فضاعت من عهد قريب .

و مدارس نصرانية أقيمت في الأصل للنصارى و لكن كان يدخلها بعض المسلمين بحجة تعلم اللغة الأجنبية ( الحجة الواهية الباقية إلى الآن ) و من أعجب العجب أن شيخنا عالم الشام السلفي الجليل منشئ دار التوحيد في الطائف و عضو المجمع العلمي في دمشق ( و هو أقدم المجامع العربية أنشئ سنة 1920 ) شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار درس مدة في المدرسة العازارية النصرانية و فيها تعلم اللسان الفرنسي . و لا أقول هذا ليكون حجّة لمن يُدخل ولده إليها فقد كان دخول شيخنا إليها " فتنة وقى الله شرّها " كما قال عمر رضي الله عنه .

كان المدير العام لهذه المدرسة ( المدرسة التجارية ) هو أبي الشيخ مصطفى بن أحمد بن علي بن مصطفى الطنطاوي و هذا كل ما أعرف من نسبي أما الباقي فاسألوا عنه أهل طنطا فإنه هناك و لن يعرفه أحد لأن لقب الطنطاوي أخذناه في الشام فماذا كان لقب أسرتنا هناك ؟

كان المدير هو أبي فهل تحسبون أني كنت مدللاً مكرّماً لأني ابن المدير ؟ لا و الله و لقد رأيت أول عهدي بها ما كرّه إليّ العلم و أهله و لولا أن الله تداركني بغير معلمي الأول لما قرأتم لي صفحة كتبتها و لا سمعتم مني حديثاً أو خطاباً ألقيته بل لما قرأت أنا كتاباً .

هذه القاعة التي وصفتها لكم بأنها من روائع فنّ العمارة و التي يأتي السياح للتفرّج برؤيتها لبثت حيناً من دهري أرتجف من النظر إليها أو التفكر فيها . وكَلوا بنا معلماً شيخاً كبيراً لا أسميه فقد ذهب إلى رحمة الله فكان يحبسنا فيها و نحن أطفال لا يدعنا نخرج منها حتى نكتب " ألف باء " كلها في ألواحنا الحجرية أربعاً و عشرين مرة نكتبها ليراها و ليمحوها ثم نكتبها ليراها و يمحوها إلاّ أن يُضطرّ أحدنا ( أو يزعم أنه مضطر ) إلى الخروج إلى المرحاض فيسمح له بدقائق ، إن زاد عليها ازدادت عليه ضربات الخيزران ، كنّا نكذب ، نعم ! أفليسوا هم الذين دفعونا إلى الكذب ؟

كنت أنظر من شبّاك القاعة إلى التلاميذ يلعبون في الساحة الداخلية و الطلاب الكبار يمشون في الصحن الكبير كما ينظر السجين إلى الطلقاء من طاقة السجن .


كانت هذه بدايتي ، أنا ابن المدير العام ، فهل يحمد الله تلاميذُ المدارس اليوم على ما يتمتعون به من النعم ؟

و غاب الشيخ يوماً و جاؤونا بطالب كبير من طلاّب الفصول العالية فوجدنا ( للمرة الأولى ) مدرّساً من بني آدم يكلّمنا و نكلمه و يضحك في وجوهنا و ما كنت أعلم أن المعلم يستطيع أن يضحك !

هذا الطالب الشاب الذي عرفته و لم يعرفني لأن التلاميذ يعرفون معلمهم و لا يعرفهم كلهم ، مرت عليّ و عليه الأيام و صار صاحب مكتبة و لم ينقطع عن العلم فوضع معجماً لألفاظ القرآن اسمه " المرشد " ثم وضع معجماً للموضوعات مع صديق له من نوادر المكفوفين من الرجال ، حافظ لكتاب الله أديب ، ينظم الشعر ارتجالاً عارف بالموسيقى ملحّن ، يقرأ الكتابة الموسيقية ( بالحروف البارزة ) و يعزفها و أمامه في مجلسه خرز صغير من كل الألوان في علب صغار يؤلف منه بالإبرة و الخيط صوراً على القماش لو حاولها مبصر بعينيه و هو متفرغ لها لما استطاعها يصنعها و هو يتكلم معك أو يناقشك أو يُنشدك الشعر و هو أعمى !

و هو من نوادر العميان و اسمه الشيخ عارف القلطقجي و هو قريب في هذه المزايا من الرجل العجيب المشهور الشيخ عثمان الموصلي رحمهما الله .

و هذا كله استطراد و قد أنذرتكم به من أول الحديث و سأعود إلى الكلام الأصلي :

كنت أتكلم عن هذا الطالب الذي كان أول من ردّ إلى ثقتي بالله ثم بنفسي و حبي للدراسة و قلت إنه وضع مع الشيخ عارف هذا معجماً آخر لموضوعات القرآن و كلّفني أن أكتب مقدمة له فذكرت هذه القصة التي لم يكن يعرفها في مقدمة الكتاب .

ثم انتقلت إلى معلم آخر فيه أنس و فيه إنسانية فزاد من تقربي من العلم و الدراسة اسمه الشيخ كامل البغال ، عُمّر حتى ناهز المئة أو زاد عليها رحمه الله .

و لم أكن أمتاز من التلاميذ إلا بأني كنت آكُلُ أحياناً في غرفة في مدخل المدرسة هي غرفة الفراشين و كنت يوماً آكلُ رغيفاً وسطه لحم مشوي أمر لي به أبي و كان في غرفة الإدارة ولد رجلاه في الفلق و الخيزران ينزل عليهما فدعا بي و أخذت من وسط طعامي و رُبطت بالفلق و كانت علقة أقسم بالله إني لم أعرف سببها إلى الآن و قد مضى على ذلك أكثر من سبعين سنة !

هكذا كان أسلوب التعليم ! أفترونني حين أعيبه أعيب أبي ؟
لا و لكن أصف ما كان ليعرف التلاميذ ما هم فيه من النعم الآن .



موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 6:02 pm


الحلقة 4

من ذكريات الطفولة
ذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى



بقيت في هذه المدرسة إلى سنة 1918 فماذا بقي لدي من ذكرياتي الشخصية فيها ؟ لقد قلبت جيوبي , ونفضت ثوبي , وفتشت كل زاوية من ذاكرتي , وبحثت في كل ركن , فلم أجد إلا القليل الذي سأجلوه لكم .

أما الذكريات العامة فقد كان منها الكثير , وإن لم أدرك منها يوم حدوثها إلا ما يدركه ذلك الولد الصغير .

وكانت أياماً عشتها , ورأيت أحداثها ولكني لم أستوعبها , وأحس الآن وأنا أتحدث عنها كأني أسرد قصة حلم من الأحلام أو رؤيا منام صحا من رآها فلم يجد في يده شيئاً منها .

أشعر كأني ألخص صفحات من تاريخ قديم , قديم جداً , إي والله , لقد تبدلت حياتنا كلها من سنة 1914 إلى سنة 1981 .

لم يبق شيء على ما كان عليه , وأنا إنما أعني هنا أوضاع الدنيا , أما الدين فلم يتبدل لأن الذي أنزله هو حافظه .

من هذه الأوضاع ما صار إلى أحسن مما كان عليه , ومنها ما ساء وفسد .

لقد استمتعنا بثمرات الحضارة , ورأينا من جديدها ما كنا نظنه من المستحيلات , ولقد ازددنا علماً بالأرض وقوانين الله فيها , وضاقت مسافة الخلف بيننا وبين من كنا نراهم وحدهم المتمدنين من أهل أوروبا وأمريكا , وصارت لنا جامعات كجامعاتهم , وقام فينا ومنا علماء مثل علمائهم , ومن ينطق بألسنهم ( اللسان بمعنى اللغة جمع ألسن , أما العضو فجمعه ألسنة ) ويعرف آدابها مثلهم بل ربما فاقهم .

كل هذا وأكثر منه قد كان , ولكن تعالوا فكروا معي ما هو ثمنها الذي دفعناه فيها ؟ لقد ربحنا هذا كله فماذا خسرنا فيه من عقيدتنا ومن أخلاقنا ومن كريم سجايانا ؟ .

أخشى أن ياتي يوم نقول فيه ونحن نعض بنان الندم , حين لا ينفع الندم :

خذوا هذا كله , لا نريده , وردوا علينا ديننا وخلائقنا .

كنا نعيش على شط بحر الحياة , نائمين على لجه , ما غصنا على لآلئه , ولا تعرضنا لعض كلابه , ولا لخطر الغرق فيه .

كنا ( أعني الطبقة التي أنا منها من العلماء المستورين , لا أعني الأغنياء ولا الموسرين ) كنا نحيا حياة ضيقة محدودة , ولكنها سعيدة مجدودة ( أي محظوظة ) , كانت تسلياتنا قليلة ولكنها نبيلة , ليس عندنا إذاعات ولم تكن قد اخترعت , ولا كان الرائي ولا السينمات , إلا سينما واحدة أخذونا إليها , فأرونا ( فلماً ) صامتاً ( إذ لم تكن السينما قد نطقت ) عن معركة ( جنان قلعة ) وكانت هذه (السِنما) في موضع المجلس النيابي , احترقت وبقيت أنقاضها سنين طويلة , حتى أقيم المجلس مكانها ببنائه الجميل وما فيه من الخشب المحفور (( من جنس الذي في مكة وجدة في واجهات العمارات , ورواشن الشبابيك , ولكنه أجمل وأكمل , وقد دعوت في حلقة الجمعة 25 المحرم 1402 هـ من - نور وهداية – إلى حفظ ما في مكة وصيانته ولكن كان العمال يكسرونه ويلقونه مع الأنقاض في الساعة التي كنت أتكلم فيها ... فإذا نتاج تلك الأيدي الماهرة وبقايا ذلك الفن البديع قد صار حطاماً تطؤه الأقدام مع انقاض الدور بل القصور التي هدمت في أجياد لتوسعة الشارع )) الذي أتقن صناعته أبوسليمان الخياط (( وهو الأخ الأكبر لشيخ أطباء الشام الدكتور حمدي الخياط أول متخصص في البكتريا والجراثيم , كان أستاذاً في كلية الطب في دمشق من سنة 1920 وهو أحد مؤلفي معجم المصطلحات الطبية , يحسن علوم العربية كما يحسن الفرنسية والإنكليزية والألمانية واليونانية واللاتينية , توفي رحمه الله سنة 1400 هـ , وابنه الدكتور هيثم من انبغ شباب العصر )) وصنع بعده خشب ( دار عين الفيجة ) ثم دار ( بيت الدين ) في لبنان .

ما كانت عندنا سيارات ولا شوارع يمكن أن تمشي فيها السيارات إنما كانت عندنا العربات الجميلة , تجرها الخيول الأصيلة .

وأنا أذكر أن أول سيارة وصلت إلينا , وصلت سنة 1916 وخرج الناس ينظرون إليها , فلما رأوها تمشي وحدها لا يسحبها حصان , قال قائل من العوام : إن الجن تسيرها , فتدافع ضعاف القلوب هاربين , وهربنا نحن الصغار معهم وضاعت حقيبة كتبي ونلت على ذلك جزائي .

أم الطيارة فقد جاءتنا قبل سنة 1915 , سمعت بذلك ولم أره لأني كنت صغيراً , وكانت قصة عجباً , تحدث الناس عنها طويلاً مع أن الطيران إنما ابتدأ سنة 1903 , يقودها طياران تركيان مسلمان . فتحي وآخر نسيت اسمه ( ذكرني ولدي النابغة زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي أن اسمه صادق ) , واستقبلت في المرج الأخضر وهو الملعب البلدي اليوم , وفيه معرض دمشق الدائم , وهو وقف إسلامي , استقبلت استقبالاً عظيماً وكان يوماً ( كما قالوا ) مشهوداً , وطارت بسلام وودع الطياران باحترام ولكنها سقطت عند طبرية , ودفن الطياران في صحن مدفن بطل الإسلام وفاتح القدس صلاح الدين الأيوبي وراء الجدار الشمالي للجامع الأموي .

وأول شارع فتح في دمشق هو شارع جمال باشا من رأس سوق الحميدية إلى محطة الحجاز , التي يبدأ منها خط القطار وينتهي عند محطة باب العنبرية في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم , والخط وقف إسلامي ثابت بصكوك قضائية وقرارات دولية , وهو من آثار السلطان عبدالحميد ( انتهى مدهُ سنة 1908 قبل مولدي بسنة وخربناه نحن , نحن العرب , بأيدينا وأيدي لورنس وجماعته سنة 1918 ).

هذا أول شارع عرفناه وكان عريضاً جداً , وسطه ممر حوله الحدائق وأغراس المرجان وفتح معه شارع من محطة الحجاز إلى نهر بردى , ومن أقدم عماراته ( العباسية ) نسبة إلى رجل بيروتي يقال له أبوعباس وكانت طابقين من الخشب واللبن فيها مقهى ( كلمة مقهى فصيحة وأقهى أي أدام شرب القهوة ) وملهى .

ومن طريف أخبار ذوي الغفلة من الوعاظ ( أذكره ولو لم يكن هذا مكانه ) أن أحد مشايخنا جاءه من يقول له إن منيرة المهدية تغني وترقص في ( العباسية ) فأعلن غضبه في درسه في ( الأموي ) وقال كيف ترقص هذه المرأة أمام الرجال وهي كاشفة جسدها , مبدية مفاتنها ؟ أين الدين وأين النخوة ؟
قالوا : نعوذ بالله , وكيف يكون هذا وأين يا سيدنا ومتى ؟
قال : في العباسية في الليل بعد صلاة العشاء .
وكان نصف المقاعد خالياً , فامتلأت تلك الليلة المقاعد كلها . فلينتبه الواعظون فكثيراً ما تكون المبالغة في وصف المنكر دعاية له .
****

وجمال باشا , كان قائد الجيش الرابع العثماني وأحد أركان جمعية الاتحاد والترقي وهم : قائد الجيش أنور باشا , ووزير الداخلية طلعت باشا , وجاويد ( دافيد-داود ) وزير المالية ومترجم كتاب ( شارل جيد ) في الاقتصاد ( وكنا ندرسه معرباً في معهد –أي كلية – الحقوق سنة 1931 لما كنا طلاباً فيها ) إلى التركية ثم جاء من بعدهم مصطفى كمال –أتاتورك- .

وأصل أكثرهم من يهود الأندلس ممن يدعون ( الدونمة ) أضاعوا الدولة العثمانية التي كانت ثالثة الدولتين العظيمتين : الأموية والعباسية والتي عاشت المدة الطويلة وفتحت بالإسلام وللإسلام الفتوح الجليلة , وكانت يوماً أقوى دول الأرض وملكها أكبر ملوكها .

فهدم هؤلاء ما بنى بنو عثمان , ونسوا ( أو لم يعلموا ) أن الإسلام لا يفرق الناس للألسن ولا للألوان , فأرادوا ( تتريك ) العناصر العثمانية , فبدؤوا , بهذا , الفتنة التي جعلت الأمة الواحدة ( أمة محمد ) هيئة أمم , حين قالوا : ترك , فقال ناس منا : عرب , وقال الفرس , وقال الأكراد , وكانت عودة إلى الجاهلية , مع أننا ما كنا نفرق في معلمينا وفي رفاقنا بين عربي وتركي وكردي , ولا الإسلام يسمح لنا أن نفرق , وقد ماتت الآن هذه الفتنة أو هي على سرير الاحتضار , وستلحق بها إن شاء الله أخواتها ولا تبقى إلا دعوة الإسلام .

كانت مدرستنا أهلية ولكنا ذقنا مع هذا الكثير من الثمر المّر لهذه الدعوة , كان عندنا معلمون من الأتراك , أما الديّنُ التّقي منهم فينكر هذه التفرقة الجاهلية وأما من كان غير ذلك فكان يؤيدها .

حتى قواعد اللغة العربية ( النحو والصرف ) فقد درسناها آخر المدة على معلم تركي , فكان يسأل الواحد منا : فاعل ندر ؟ أي ما هو الفاعل , وأنتقل خوف جمال باشا من الكبار إلينا , فكان عندنا معلم للموسيقى قالوا إنه نسيب الباشا , فكنا نخشى أن نكلمه .
****

كان هذا كله استطراداً , وسبقاً للحوادث , فلنعد إلى سنة 1914 , إلى السنة التي اشتعلت فيها نيران أول حرب عالمية في تاريخ البشر , ولكن لا تنتظروا مني أن أحدثكم عنها حديث المؤرخ المحقّق , فإني أدون ذكريات إنسان كان طفلاً في تلك الأيام , لا انقل عن ابن خلدون ولا عن شارل سنيوبوس ( مؤلف - تاريخ الحضارة – الذي ترجمه أستاذنا محمد كرد علي ودرسناه في الثانوية )
****

مرّ عليّ في هذه المدرسة شهور , لم أخالط فيها أحد من الأولاد , ولم أكلمهم إلا الكلمة التي لا بدّ منها , فقد نشات أول ما نشأت على الوحدة , لم ألعب يوماً مع الأولاد في الحارة ولا زرت أحداً من لداتي ولا زارني , فكنت ( طول عمري عائشاً وحدي .... ) أنيسي كتابي , وإن زرت فالكبار من تلاميذ إبي أو إخوانه , كان يصحبني أحياناً معه , فأستمع ولا أتكلم لأن الصغار لا يتكلمون في مجالس الكبار .

لذلك كنت في المدرسة متوحداً منفرداً , حتى كان يوم رأيت فيه سماء ( الصحن ) الواسع مغطاة بسحابة سوداء , دانية منا ليست بعيدة عنا , وكان يتساقط شيء منها على رؤوسنا ....

...... لا لم تكن قطرات المطر , فلم تكن سحابة ممطرة , وإنما كانت رجِلاً من الجراد , ملأ سماء الشام وأرضها , وأتى على الأخضر واليابس من زرعها وكان شيئاً رهيباً .

ولم تكن يومئذ هذه المبيدات ولم يكن شيء من هذه الوسائل التي قضت اليوم أو كادت على الجراد .

فبدأ القحط في البلد .

ثم سمعنا من أفواه الكبار كلاماً لم ندرك غوره , ولكن فهمنا من لهجة كلامهم ومن ملامح وجوههم ومن جزعهم أنه شيء مكروه مخيف .

فهمنا انها قامت حرب في مكان بعيد عنا , ليست كحرب البسوس التي دامت ( كما قالوا ) أربعين سنة , ولم تقع فيها إلا أربعون معركة ما زادت المعركة منها عن مناوشة خفيفة بين فصيلين من الجنود .

وأن هذه الحرب يموت في المعركة الواحدة منها , ما يزيد مئة مرة عن كل الذين ماتوا في معارك الجاهلية كلها , بل والذين ماتوا في (بدر) و ( أحد ) و( القادسية) و( اليرموك) .

سمعنا هذا فلم نبال به , ما لنا ولقوم لا نعرفهم , ليسوا منا ولا نحن منهم , يتقاتلون في مكان لا نعرفه ولم نسمع به .
حريق ولكن لم تمتد إلينا ناره , ولم يلذعنا أواره , ولكنا ما لبثنا إلاّ قليلاً حتى بلغنا شراره , وروّعتنا أخباره , حين كنت أمشي إلى المدرسة من داري في العقيبة , فأرى ( الفرن ) مسدودة واجهته بالخشب , ما فيها إلا طاقة صغيرة , والناس يسدّون نصف عرض الطريق , يطلبون أرغفة من الخبز الأسود , فلا يكادون يصلون إليها .

كانت الشام أرض الخيرات , وكانت تسمى قديماً ( أنبار روما ) فأين ذهب قمحها , حتى صرنا نطلب الخبز المخلوط بالشعير والذرة وبأشياء لا تبلغ قدر الذرة ولا الشعير فلا نصل إليه .

كان عهدنا بالخبز معروضاً بأثمان لا يتصورها القارئ اليوم من شدة الرخص , وكان منه المشروح والتنوري وخبز الصاج والمصنوع من خالص القمح , والمعمول من الدقيق الأبيض المنخول .

فأين ذهب هذا كله ؟

ذهب ببعضه الجراد وبباقيه حلفاؤنا ( بل حلفاء الحكام الاتحاديين ) من الألمان .

ثم خلت الشام إلا من الشيوخ والنساء والأطفال , أما الشبان فقد ساقوهم ( مشاة على أقدامهم ) إلى حرب ترعة السويس أولاً , التي عدنا منها بالهزيمة , وإلى معركة ( جناق قلعة ) لمحاربة أعداء الألمان .

وكان الضابط الذي يتعقب الفُرّار يلبس لبادة , لذلك يدعونه بـ ( أبو لبادة ) , وإذا رأوه نادوا ( عباية) ليهرب من ليس معه وثيقة إجازة من الجندية , وكان كلما أبصر شاباً أمسك به أعوانه وقال له : ( نرده وثيقة ؟ ) أين وثيقتك , فإن لم يجدها جره إلى السوقيات في البناءين القائمين إلى الآن في سوق صاروجا , حيث فتح مرة الشيخ أحمد كفتارو ( مدرسة الأنصار ) .

ثم رأينا الناس ( ونحن في طريقنا إلى المدرسة ) ينبشون أكوام القمامة لعلهم يجدون بقايا طعام .

وعزّ السكر حتى صارت الأوقية ( 200 جرام ) بريال مجيدي , وقد كان المجيدي قبل الحرب يكفي لوليمة ضخمة , أي أن الكيلو بليرة ( أي بجنية ذهبي ) .

وقل الكاز ( البترول ) وفقدت أشياء كثيرة مما كنا نستورده , وما كان منه عند التجار قبضوا عليه بأيديهم , وأخفوه في مستودعاتهم وكانت أيام شداد .

ولكن الأتراك مسلمون , وإن كان حكامنا وحكامهم يومئذ من الاتحاديين أعداء العربية , وكدت أقول أعداء الدين , فقد عزّ عليهم أن يجوع علماء المسلمين , فخصّصوا لهم جرايات من القمح , تسد حاجة بطونهم وتصون ماء وجوههم .

وكان والدي – وقد نسيت أن أقول لكم – قد ترك إدارة المدرسة وصار ( أمين الفتوى ) عند المفتي الشيخ أبي الخير عابدين , والد شيخنا الشيخ أبي اليسر عابدين مفتي الشام ( الطبيب الذي نال شهادة الطب على كبر ) والذي صار أستاذاً في كلية الحقوق ( وكانت تدعى معهد الحقوق وكانت هي وكلية الطب نواة جامعة دمشق ) .
كان والدي هو الذي يتولى إعداد قوائم بأسماء العلماء وطلبة العلم لينالوا أنصباءهم من القمح .



موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 6:06 pm


الحلقة 5

من ذكريات الطفولة أيضاً


و كان من المناظر المألوفة أيضاً أن نرى جنود " أبي لبّادة " يمسكون بجماعة من الشبان الفُرّار ( و كانوا يدعونهم الفرّارية ) مربوطين يُساقون و حراب البنادق في ظهورهم إلى حيث لا ندري . فلماذا يفرّون من الجيش ؟ و متى كان العربي المسلم ، بل متى كان المسلم ـ عربياً كان أم تركياً أم كردياً ـ يهرب من مقارعة الأعداء و مقابلة الخصوم ؟

إنه يستحيل أن يكون اليهودي شجاعاً أو نبيلاً ، و لو قاتل بالسلاح الكثير الذي جاء به من يضعه في يده و يسلّطه به على الناس . و يستحيل أن يكون المسلم جباناً أو نذلاً ، و لو أعوزه البارود أو فقد الرغيف . إنه يقاتل بالبندقية القديمة و يقاتل بالسيف و يقاتل بالحجارة ، و لو كان خصمه أقوى دول الأرض . و يقاتل جائعاً أو يصبر يومه على تمرة أو يأكل الكلأ .

لا ، ما هذه قصيدة فخر و حماسة بل هي حقيقة واقعة . أما ترون ما يصنع المسلمون الأفغان أمام المعتدين الشيوعيين ، و دولتُهم إحدى الدولتين الكبرَيين في عالم اليوم ؟ أليست هذه الوقفة إعادة كريمة ماجدة لموقف المسلمين الأوّلين ، يوم نازلوا الدولتين الكبريين في عالم الأمس في اليرموك و القادسية ؟
إن الإسلام صبّ البطولة صباً في أعصاب المسلمين و أجراها في دمائهم ، فمهما حاقت بهم الشدائد و توالت المحن فلن تتبدل طبيعة البطولة فيهم و العاقبة لهم إن كانوا مع الله لأن الله سيكون حينئذ ٍ معهم و من كان الله معه لا يغلبه مخلوق .

أتذكرون يوم عادوا من معركة الأحزاب و قد نفدت منهم آخر قطرة من الطاقة البشرية ، استنفدها ما قاسوا من الشدة و الامتحان في ذلك اليوم حتى لم يبقَ لأحدهم أمنيّة إلا أن يأكل لُقيمات ثم يطرح نفسه على الأرض يستسلم إلى نومة مريحة .

فجاءهم الأمر من القائد العام من الذي لا ينطق عن الهوى من الذي يأتيه " البريد الخاص ّ " من السماء . جاء الأمر بالمسير إلى الناقضي العهد إلى حثالة البشر و زبالة بني آدم إلى اليهود ، إلى بني قريظة . أما مسحوا النوم من عيونهم و استلّوا بعزائمهم ( بل بإيمانهم ) التعب من أجسادهم و امتثلوا الأمر و ساروا ؟
لقد دُعوا بعدها إلى الجهاد ، إلى التضحية ، إلى بذل الروح مئة مرة ، فما تقاعسوا و لا ترددوا . لقد لبّوا دوماً و ما أبوا يوماً و لا يزالون حاضرين ليلبّوا إن دُعوا من جديد . على أن يدعوهم الداعي بلسانهم لا بلسان غريب عنهم لا يفهمونه و لا يعرفونه يدعوهم باسم الدين جهاداً في سبيل الله و إعلاءً لكلمة الله لا باسم الوطنية و لا القومية و لا التقدمية . إن الله يعطي الشهيد الذي يموت في سبيله جنة عرضها السموات و الأرض ، يعيطه حياة مدتها مليار مليار قرن ، بل إن مدتها لا تحيط بها الأرقام لأنها لا نهاية لها ، حياة ما فيها إلا السعادة و كل لذيذ مشتهى بدل حياة على الأرض مهما طالت فإن نهايتها الموت و فيها ما فيها من المتاعب و الآلام .

هذا جزاء من يقاتل في سبيل الله . فماذا تعطي القومية و تعطي التقدمية و تعطي الوطنية من يموت في سبيلها ؟ هل عندها ما تعطيه ؟ بل قولوا ما هي ؟ هل هي شيء له وجود أم أسماء سميناها نحن ( لا آباؤنا ) ما أنزل الله بها من سلطان ؟ فما لنا ندع شرعة الإسلام إلى نظام أساسه أوهام ، و نتائجه أحلام ، و لن يكون له ( كما لم يُكن لأمثاله ) دوام ؟

فإذا كنا نحن أبناء الحرب ، و إذا كنا أبطال القتال ، و إذا كنا نحن ، " نحن المسلمين " أحفاد من خاضوا عشرة آلاف معركة مظفرة ، و من أزاحوا عن صدر البشر كابوس الدولتين الظالميتن الروم و الفرس ، و من فتحوا بالحق و العدل و للعدل و الحق ما بين قلب فرنسا و قلب الهند .. فكيف كنا نفرّ من الجيش العثماني أيام الحرب الأولى ؟

نفرّ لأننا كنا نُساق إلى حرب لم تكُن جهاداً في سبيل الله فنرجوا فيها الأجر من الله ، و لم تكن حرباً اضطُررنا إليها فلم يكُن لنا بدّ من خوضها و لا كان لنا فيها مصلحة ظاهرة فندخلها لتحقيق مصلحتنا .
حرب كان قادتها من غيرنا ، لا أقصد أنهم من غير العرب فإن الله قال : ( إنّما المؤمنون إخوةٌ ) لم يقل : " إنما العرب " ؛ بل لأنّي أشكّ في صدق إسلام أكثر أولئك القادة من الاتحاديين و لا أشكّ أن أيدي غيرنا هي التي كانت تحرّكهم .

و لما انجلى غبار المعركة و وضح الأمر عرفنا حقيقتهم مما صنع أتاتورك ، و قد كان واحداً منهم . و ليس الضمير راجعاً إلى الأتراك ، لا و الله ، فالشعب التركي ما عدل بالإسلام شيئاً من يوم دخل فيه مختاراً ، و السلاطين الأوّلون كانوا من أحاسن الملوك ، فتحوا للإسلام أوربا . و لو مدّ الله في عمر محمد الفاتح ، و لو استمر الخير في أحفاده ، و لو لم تفتنهم و تُعشِ أبصارهم بهارجُ هذه الحضارة لكان لهم تاريخ آخر .
و استمرّت الحرب و كان الكبار لا يعرفون من أخبارها شيئاً فيكف بنا نحن الصغار ؟ و لم نكُن نقرأ الجرائد لأنها لم تكُن عندنا جرائد كجرائد اليوم و لم نكن نسمع أخبار الإذاعات لأنها لم تكُن قد اخترعت الإذاعات ؛ كانت حياتنا قبل الحرب كالبركة الساكنة ، و إن كانت مياهها آسنة . كنا في عزلة عن الدنيا : عزلة مادية و فكرية ، أضعنا ثمرات حضارتنا الأولى التي قَبست منها أوربا في عصر نهضتها و لم نأخذ إلا القليل من نتاج الحضارة الجديدة .

و لكن كانت في حياتنا فضائل و كانت لها مزايا ، إن فتحتُ بابَ الحديث عنها الآن لم أستطع أن أغقله و إن دخلت فيه لم أقدر أن أخرج منه فأوالي طريقي . و لقد كتبت عن دمشق التي عرفتها و أنا صغير فصولاً و مقالات كثيرة في " رسالة " الزيات رحمه الله و في غيرها من الصحف و المجلات و أودعت بعضها كتابي " دمشق " و كتابي " من حديث النفس " و " صور و خواطر " و " قصص من الحياة " و كل هذه الكتب مطبوع مرّات تتداوله أيدي القرّاء .

أما موقفنا من هذه الحضارة فقد ألقيت فيه محاضرة جامعة في " ندوة الشباب العالمية " من نحو عشر سنين في الرياض ، طبعتها الندوة طبعة غاب عنها المصحّح فامتلأت بأخطاء الطبع التي كان يدعوها صديقنا أديب العربية إسعاف النشاشيبي رحمه الله " التطبيعات " .

لذلك أدعها الآن و أرجع فأقتصر على حديث الذكريات ، إلاّ وقفات و لفتات ؛ أقف قليلاً أو ألتفت يميناً أو شمالاً ثم أمضي في طريقي .

قلت لكم إني كنت أرى الجياع ينبشون أكوام القمامة علّهم يجدون ما يؤكل ، و ما جاعت دمشق قط في عمرها الطويل إلاّ تلك الأيام .

و كانت دمشق ـ مذ كانت ـ أرخص بلاد الله و أكثرها خيرات ، كان ثمن رطل الخبز ( و الرطل كيلان و نصف ) ما يعادل ثلاثة قروش سعودية ، فصار رطل الخبز الأسود الذي فيه كلّ ما يُطحن دقيقاً إلا دقيق القمح ، صار بستين قرشاً ، و لو وُجدت القروش الستون ( على صعوبة إيجادها ) لم يوجد الخبز و صار كيلو السكر بدينار ( أي جنيه ذهبي ) و صار النفط ( زيت الكاز ) أغلى من عطر الورد الأصلي الذي يُستخرج من ورد مسرابا في الغوطة ، و وردها الجوري ّ أعطر الأوراد .

و ازدادت مناظر الجياع و الهاربين من الجندية لأن مدرستنا قد انتقلت إلى سوق صاروجا إلى دار هولو باشا العابد بجوار السويقات ، و ترك والدي المدرسة و جاء مدير جديد اسمه شكري بك عابدين .

و كانت دمشق في التقسيم الرسمي ثمانية " أثمان " أي أحياء ، فأحياء " العمارة " و " باب السلام " يسكنها في الغالب العلماء ، و " القيمرية " للتجار ، و " القنوات " للوجهاء أما سوق صاروجا الذي يمتد من " العقيبة " إلى بوابة الصالحية فلكبار الموظفين و للأتراك ، و أما حي الميدان و حي الصالحية و حي الأكراد فكانت في الغالب مفلَقة على أهلها .

و هولو باشا والد أقوى و أشهر عربي كان على عهد السلطان عبد الحميد و كان كاتبه بمثابة أمين الدولة و هو أحمد عزت باشا العابد . و من آثاره " بناية العابد " في المرجة ، و هي أول عمارة حديثة ضخمة أقيمت في دمشق على النمط الإفرنجي و هي أربعة طوابق من الحجر لا تزال من أضخم العمارات .
أما سبب ترك والدي إدارة المدرسة و انتقاله إلى دائرة المفتي " أميناً للفتوى " و هو بمثابة مساعد للمفتي فإني لا أعرفه .

وصلت سنة 1918 إلى الصف الخامس الابتدائي و كانت مدرستنا الأهلية تتبع منهج مديرية المعارف و تزيد عليه العناية بالعلوم الإسلامية ، و لكن تدريسها سيء الأسلوب معوجّ الطريقة و لا أذكر لمدرّس من مدرّسيها أثراً في نفسي فكأني كنت أنتقل من سنة إلى سنة و أرتقي من فصل إلى فصل و أنا نائم .

و وصلَت إلى أسماعنا أطرافٌ من أحاديث الكبار عن ثورة قام بها شريف مكة على الدولة العثمانية . و كنا قد شهدنا من قبل شنق جماعة من كبار الناس في المرجة ، دعاهم الناس " الشهداء " و سمّوا ـ من بعد ـ " المرجة " من أجلهم " ساحة الشهداء " و بقينا سنين طوالاً نحتفل كل سنة في اليوم السادس من أيار ( مايو) بذكراهم و لقد كتبت في مطلع شبابي كما كتب غيري في رثائهم و تمجيد أسمائهم و دعوا جمال باشا ـ لما صنع بهم ـ " جمال السفاح "

ثم حصص الحق و شهد مؤرخو النصارى في لبنان و فتحت مجلاتهم ملفات عنهم ، فتبين أنهم إلا قليلاً منهم ( نحو الخُمس منهم ) تبين أنهم كانوا خونة للدولة جواسيس لأعدائها عليها و أن الدولة العثمانية ـ لمّا وضعت يدها على قنصليتي فرنسا و إنكلترا أيام الحرب ـ وجدت الأدلّة القاطعة و البراهين الدامغة على خيانة أكثرهم و تجسسهم .

( علق الأستاذ مجاهد هنا قائلاً : في آخر الجزء الرابع من الطبعة الأولى من هذه الذكريات التي نشرتها دار المنارة سنة 1986 أضاف جدي رحمه الله تعليقاً استحسنتُ نقله إلى هذا الموضع للمناسبة و هو : " كتب إليّ الأخ الكريم الأستاذ الكبير أكرم زعيتر يقول إن الذي جاء في هذه الذكريات عن الذين شنقهم جمال باشا لا ينطبق عليهم كلهم و إن فيهم صالحين مصلحين عاشوا فضلاء و ماتوا شهداء و هذا الذي قاله حقٌ أوافقه فيه و أشكره عليه " مجاهد " )

و استيقظنا يوماً من أيام سنة 1918 المحرم 1337 على صوت رعد شديد و لكن السماء ما فيها قطعة من غمام و رجّات هائلة كأنها زلزال و لكن ما اهتزّت الدار فصعدنا نحاول أن نرى من سطوح المنازل فشاهدنا نوراً يسطع ثم يخمد و ناراً تتفجّر في الجو ثم تهمد و انتظرنا فجاء من يخبرنا بأن " الجبخانة " في " القدم " أي مستودع الذخائر قد فُجّر ! و سألنا : لماذا ؟ فلم يعرف أحد لماذا .

فلما أصبحنا قالوا إن الجيش التركي قد انسحب في ظلام الليل و خرج من دمشق و إن الشريف فيصل بن الحسين قادم إلى دمشق و كانت رجة في البلد و كانت مظاهرات و ما كنا نعرف ما المظاهرات إنما نعرف " العرضة " في زفة العريس أو في مثلها من المناسبات .

و كنا نهتف في المدرسة كل صباح بالتركية " باديشاهم جوق يشا " و معناها " يعيش سطاننا طويلاً " فسمعنا هتافاً جديداً ما كان لنا بمثله عهد هو " يعيش الاستقلال العربي " و رأيناه مطبوعاً في أوراق ليُعلّق على الجدران لا أدري متى طبع و لعلهم طبعوه و حملوه معهم .

و رأينا العلم الأحمر ذا الهلال و النجم الذي عشنا إلى ذلك اليوم تحته قد نزل و رأينا في مكانه علماً جديداً فيه الألوان الأربعة : الأبيض للأمويين و الأسود للعباسيين و الأخضر للهاشميين و الأحمر ما أدري لمن هو ... فكأنه يقول مع صفي الدين :
بيضٌ صنائعنا ، سودٌ وقائعنا خضرٌ مرابعنا ، حمرٌ مواضينا


موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 6:07 pm


الحلقة 6 :

من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانية
ومن العهد التركي إلى العهد العربي


لبثنا ننتظر حتى إذا سكنت هزة المفاجأة , ورجعت الحياة تسير مسارها , وبدأ الناس يألفون العهد الجديد ... أخذنا كتبنا ودفاترنا وذهبنا إلى مدرستنا , فوجدنا المدرسة قد أغلقت , لقد جنى عليها اسمها وما كان لها من صلة بجمعية الاتحاد والترقي إلا صلة هذا الاسم , كما أن الجمعية لم يكن لها مما يدل عليه اسمها إلاّ نصيب المدّعي الكاذب في الدعوى الباطلة . اسمها جمعية الاتحاد وهي التي جّرت علينا الانقسام , كانت الدول العثمانية جسداً واحداً , العرب أعضاء فيه والترك والكرد , فقطعوا الخيط الذي كان يربط أجزاءه ويؤلف بينها , وهو الإسلام , فصار كل جزء جسداً مستقلاً أي أنه صار مسخاً زرياً لا إنساناً سويّاً .

وكانوا في أوروبا يشبهون الدولة بـ ( الرجل المريض ) , مريض ؟ نعم , إن المريض يشفى والمرض ليس عيباً ولكنه باعترافهم رجل .

وكان السلطان عبدالحميد رجلاً حقاً , استطاع بدولة هرمة وجيش هزيل أن يحجز دول أوروبا عن بلاده , وكان يضرب بدهائه بعضَها ببعض .

كان ( رجلاً ) يلعب بالرجال , فلما جاء ( صبيان ) الاتحاديين وأمسكوا هم الزمام , لعبت بهم الرجال وأشباه الرجال .

واسمها جمعية الترقي , وهي التي سببت لنا التدني , فبعد أن كانت الدولة على عهد السلاطين العظام أقوى دول الأرض , صارت بهم دويلات لا وزن لها في الأرض , يحكمها حكام من غير أبنائها بقوانينهم لا بشريعتها , ذلك لما خاضت بحماقتها وجهلها وخبث سرائرها وقبح نياتها , حرباً لا ناقة لها فيها ولا جمل , ولا شاة ... فانتهت بها وبنا جميعاً إلى الضياع .


وبدأت دمشق تعيش كأنها في بهجة العرس وقد كانت قبل شهر واحد في كربة كأنها كَمْدَة المأتم , وحل الوجدان محل الحرمان , فالخبز مبسوط أمام الشارين من كل نوع , وفي كل مكان , كما كان , وكثر السكر والبن والرز و( الكاز ) وكل ما كان مفقوداً صار موجوداً .

والأعلام الجديدة ترفرف على الدكاكين وعلى أبواب المنازل , والأناشيد التركية ذات الألحان القوية العبقرية , بُدّلت أناشيد عربية , صيغت كلماتها على عجل , وركب اللحن التركي القديم على النشيد العربي الجديد , وكان الناس في الشام ( كما كانوا في أكثر بلاد الشرق ) لا يهتم جمهورهم بسياسة ولا رياسة , همهم أداء فرضهم , وحفظ عيالهم , وتسلية أنفسهم بما لم يحرمه عليهم دينهم , لذلك فرحوا بما جاءهم من السعة بعد الضيق , والسلام بعد الحرب , لم يستطيعوا أن يزِنُوا ما كان بميزان الربح والخسارة , ولا أن يتبينوا هل كان خيره أكبر أم شره , ولم ينتبهوا إلى أن عهداً قد انتهى , وأن عهداً آخر قد بدأ .

سقوط روما كان نهاية القرون الأولى , وبداية القرون الوسطى , ولكن هل معنى هذا , أنه إذا كان سقوطها يوم الخميس كان الأربعاء من القرون الأولى والجمعة من الوسطى ؟

وإذا انتهى العصر الأموي بمقتل مروان وولاية السفاح , فهل القصيدة التي نظمت قبل موته بيوم لها مزايا وخصائص الشعر الأموي والتي نظمت بعده بيوم لها خصائص ومزايا الشعر العباسي ؟

التبدل الآني ليس من سنن الله في هذا الوجود , الليل يكون أسود حالكاً ثم يكون بعده النهار أبيض مشرقاً , فهل تحول الظلام نوراً في لحظة ؟ أم الله يولج الليل في النهار .

وكنت طفلاً ثم صرت شيخاً , فهل انتقلت في ساعة واحدة من الطفولة إلى الشباب أو من الشباب إلى الشيخوخة ؟ وهل أحسست بهذا التبدل ؟

راقب العقرب الصغير في الساعة , إنك لا تراه يتحرك , ولكنه مع سكونه الظاهر , يدور ( دائرة ) الساعة كلها .
وكذلك كنا ونحن نشهد ميلاد عهد جديد , العهد كان مخاضه عند بداية الحرب الأولى وولادته عند نهاية الحرب العالمية الثانية , ولكنا لم نحسّ بذلك لأننا كنا نعيش فيه .

إذا كنت في ( المصعد ) وهو مغلق عليك , فهل تحسّ بانه ينزل أو يصعد ؟ إنك تدرك حركته بعد أن تخرج منه , وتقف فتنظر إليه , ونحن نستطيع الآن أن ندرك حقيقة الذي كان , ونزنه بميزان الربح والخسران .

*****

وقبل أن أودع المدرسة التجارية , أذكر أنها خرّجت طبقة من المثقفين كانت سبّاقة , وكانت رائدة , أتمنى لو كانت أسماؤهم عندي , لكني أسمّي من يخطر على بالي , فمنهم خالد بك العظم السياسي المعروف رئيس وزراء سورية , وقد درس فيها حيناً وإن لم يتخرج منها , ومنهم صبحي بك القوتلي الرئيس الثاني لمحكمة النقض , وفؤاد بك المحاسني النائب العام , وممن تخرج منها وحمل شهادتها , الأطباء : طاهر ... الطنطاوي , وقد دخل بعدها مدرسة الطب وخرج منها طبيباً سنة 1920 , ورفاقه الدكتور محمد سالم , والدكتور سهيل الخياط وهو لا يزال حيّاَ مدّ الله في عمره , ورحم الباقين .

وقد كان يدرس فيها أكابر المشايخ الدروس الدينية , وقادة الجيش العثماني العلوم الرياضية والطبيعية , وحسبكم أن من مدرسيها مدير معارف سورية هاشم بك يوم كانت ولاية سورية تشمل البقاع وبعلبك وطرابلس والأردن إلى معان .

ومن مآثر المدرسة عنايتها المبكرة بالألعاب الرياضية , ولقد كان الدكتور محمد سالم من أوائل المعنيين بكرة القدم ومن قدماء لاعبيها , ولقد أنشأ ابن عمي الدكتور طاهر الطنطاوي الذي توفي السنة الماضية ( 1400هـ ) , أنشأ في بستان داره في الصالحية ملعباً كاملاً لنفسه ولإخوانه ...

أغلقت هذه المدرسة فتفرق تلاميذها في المدارس , وأدخلني أبي المدرسة السلطانية الثانية , وكانت في القسم الشمالي من جامع يلبغا في المرجة في صحنه الواسع , وفي الغرف التي بنيت على جوانب الصحن , أما البركة الكبيرة فقد أقيم عليها حاجز من الخشب , يقسمها قسمين متساوين , قسم بقي في حيّز المسجد وقسم في حيّز المدرسة .

وقد كان موضع المسجد تلاً يشنق عليه المجرمون , فأخذه والي الشام سيف الدين يلبغا سنة 847هـ وأنشأ عليه هذا المسجد .
*****

يا لله كم في حياتي من منعطفات , وكلما انعطف بي الطريق مرة في وادي العمر , تبدلت المناظر من حولي .

كنا في المدرسة التجارية نتعلم اللغة التركية , فصرنا هنا ندرس العربية , وكنا نهتف في الصباح ( باديشاهم جوق يشا ) فصرنا نهتف ( ليحيا الاستقلال العربي ) , وكنا قد بدأنا نتلقى مبادئ اللغة الفرنسية , فصرنا نتلقى مبادئ الإنكليزية .

على أن من الإنصاف أن أقول تدليلاً على إسلامية الشعب التركي التي لا تحتاج إلى دليل , إن تعليم التركية كان يبدأ باسم الله , كنا نقرأ التركية ونكتبها بالحروف العربية , لم يكن قد نجم فينا ( أعني الأمة الإسلامية ) من يحارب ديننا , بإضعاف لساننا , فيستبدل بالحروف العربية الحروف اللاتينية , كما فعلوا ( من بعد ) باللغة الأندونيسية وكانت تكتب بالحروف العربية , كنا نبدأ بحفظ كتاب صغير اسمه ( أسماء التركية ) أوله : تنري الله جل شأنه , بيغمبر النبي , إبدست الوضوء , نماز الصلاة ...

لا أزال أحفظه إلى الآن وكانت كلمة ( تنري ) تكتب تكري كما تكتب كلمة بينباشي ( أي رئيس الألف ) بكباشي .
ولعل المؤرخ المصري ابن تغري بردي , كان اسمه ( تنري ويردي ) أي عطاء الله , أقول هذا من عندي , ما عندي فيه نص .
*****

وكان في دمشق مدرسة سلطانية واحدة , هي مكتب عنبر , ثم فتحت في أواخر حكم الأتراك مدرسة أخرى , وكنا نسمي المدرسة المكتب , والسلطاني معناها ثانوي , وهذه المدرسة هي ( المكتب السلطاني العربي ) وقد كانت في طريق ( ستي زيتونة ) , وممن أعرفه درس فيها أستاذنا الشيخ زين العابدين التونسي , والشيخ عصام الدين الحسني وهو ابن الشيخ بدر الدين الحسني والأخ الأكبر للشيخ تاج الدين الذي صار رئيس الجمهورية السورية , ووالد الصديق الشيخ فخر الدين مدير دائرة الافتاء في سورية ( سابقاً ) .

أما هذه الزيتونة فقد كانت شجرة هرمة , أمامها قفص حديد تربط النساء به الخرق , وتحتها قبر , وعندها ( شيخ) دجال , قد جعل مرتزقه سدانة هذا الوثن .

أما قصتها فعجيبة حقاً , هي أن قاسم الأحمد ( جد صديقنا وزميلنا نهاد القاسم الأخ الوفي والوزير المستقيم رحمة الله على روحه ) لما ثار على ابراهيم باشا أيام حكمه الشام , قبض عليه بعد معارك طويلة , فشنقه مع خمسة من رفاقه تحت زيتونة كانت هنا , فقال الناس ( الستة الزيتونة ) ثم نسوا القصة , فقدسوا الشجرة وسمّوها ( ستي زيتونة ) .
*****

أما السلطانية الثانية التي دخلتها فقد فتحت بعد دخول الشريف فيصل بن الحسين ولورانس الانكليزي دمشق , وكانت ابتدائية , وسلطانية ( أي ثانوية ) , مدير القسم الابتدائي الأستاذ شريف آقبيق وقد سمعت أنه لا يزال حيّاً قواه الله , ومدير الثانوي ( والمدير العام ) هو شيخ المعلمين الرسميين في الشام الأستاذ سعيد مراد .

وكان من معلمينا فيها شاب ( أعني أنه كان يومئذ شاباً ) من نابلس وهو أول من علمني الإنشاء العربي , كان يأخذ مقالات المنفلوطي , فيجعلها بحيث نفهمها ثم يكلفنا أن نكتب مثلها , وكانت مزيته الأولى صوته , فما عرفت على كثرة ما سمعت من الأصوات , ما هو أحلى منه وأطرب , وقد أنشد يوماً في اجتماع عام نشيد ( ويلي على اوطاني من غارة العدواني ) أمام الشريف فيصل , فأعجب به فجعله مدرس الموسيقى في السلطانية الأولى , ثم صار مدرساً سياراً لها , يدور على المدارس , فيكون يوم وصوله فرحة للمدرسة , وكان ممن ينظم الأناشيد العربية , أو يترجمها عن التركية ويلبسها النغمة الأصيلة , وهو الأستاذ حسني كنعان وسأعود إلى الكلام عنه , فقد استمرت اتصالاتنا حتى توفاه الله سنة 1980 رحمه الله .

*****

أما رفاقي فيها فلست أذكر منهم إلاّ المهندس صلاح شيخ الأرض , وقد كان هنا منذ سنوات , والمحامي الشاعر عبدالحكيم مراد , ولم أره من ثلاثين سنة وأحسب أنه في الكويت , والأستاذ حسن السقا الكيميائي ولست أدري ما فعل الله به .

ومن ذكريات هذه المدرسة الباقية في نفسي أن حاكم دمشق العسكري الجديد , وهو رضا باشا الركابي الذي كان أعلى عربي رتبة في الجيش العثماني , زار المدرسة يوماً فدخل علينا الفصل , ووراءه وزير المعارف ورؤساء التعليم ومدير المدرسة , وكان يلبس ( الجنرال ) العسكري , والشارات على كتفيه , والأوسمة على صدره .
وكان الأستاذ حسني قد حفظنا قصيدة الحلّي : سَلِ الرماح العوالي عن معالينا , ولكنه بدل البيت الثاني فجعله : وسائل العرب والألبان ما فعلت *** بعسكر الترك والألمان أيدينا
وكان حسن السقا يلقيها بصوت عال وحماسة بالغة , فقاطعه الباشا وسأله : من علمك هذا ؟
فارتعب وأشار إلى الأستاذ , فمد الباشا يده إلى الأستاذ , ولكن الأستاذ كان قد أصفر لونه , ولولا أنه استند إلى المقعد لهوى ... وإذ الباشا يصافحه .
ولما خرج الباشا , ومن معه , قال الأستاذ : أرأيتم يا أولادي ؟ هكذا تكون الشجاعة .
وأستدار لئلا نرى البلل في بنطاله .
ولا تظنوا أني اكتب هذا بعد ما توفاه الله لأني لا أقدره ولا أحترمه , لا والله , ولو علمت أنه كان يسوؤه ما رويته , ولقد كتبته في حياته , وضحك لما قرأه , ثم كتب القصة بقلمه , وروى عن نفسه أشياء أبلغ في بابها منها رحمة الله عليه .

*****

ومن ذكريات هذه المدرسة فيضان بردى , بردى الذي كتبت عنه الكثير والذي يصل ( المرجة ) بعدما انشق عن أبناؤه الستة : ( يزيد , وتورا وباناس والقنوات والقناة والديراني ) ولم يبق من مائه ما يبلل ظهر قط مشى فيه , بردى الذي لا تذهب منه قطرة هدراً على حين تذهب مياه الأنهار الكبار إلى البحر , فلا هي حفظت ماءها ولا البحر امتلأ منها , بردى الذي قال كاتب شوقي لما زار دمشق فرآه بعدما سمع من شوقي أشعاره فيه , قال متعجباً : أهو ده بردى ؟

بردى هذا إذا وصل إلى مرجة وأردنا أن نسلبه حريته في جريه , وأن نسجنه تحت القناطر , فيدوس عليه الماشون في المرجة , ثار .... وإذا ثار أغرق المرجة وما فيها , ومما كان فيها مدرستنا ( السلطانية الثانية ) , إني لأذكر ذلك الفيضان سنة 1918 واستحضره في ذهني حتى أرى المدرسة كلها قد صارت بركة واحدة , والمقاعد قد طفت على وجه الماء كالزوارق , وتصايح التلاميذ , واستدعيت الشرطة , وأسرع المدرسون إلى إنقاذ الصغار .... وكان يوماً لا ينسى .
*****



موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 6:10 pm


الحلقة 7

في المدرسة السلطانية


اذهب إلى المرجة اليوم ، و استقبل جهة الجامع الأموي و انظر إلى يسارك ، لا تبصر إلا برحة واسعة ما فيها بنيان . ارجع إلى العهد الذي أخبر عن ذكرياته الآن لترى بناء من طبقتين ، الداخلون إليه كثير و الخارجون منه كثير .

هذا يدخل و الحديد في يديه فيخرج طليقاً ، أو يدخل طليقاً فيخرجون به إلى السجن ( في القلعة ) ، و هذا يدخل مدّعياً آملاً الربح فيخرج خائباً خاسراً دعواه ، و ذاك يخرج فَرِحاً رابحاً الدعوى .

هنا كانت " العدلية " و إلى شرقها بناء أصغر هو " البريد " ، و البريد " مصلحة " القلوب و الجيوب ، و حقيبة ساعي البريد فيها البشائر و فيها النذُر ، يترقبه العاشق و ينتظره التاجر ، و الأم التي غاب عنها ولدها تعدّ الدقائق لتأخذ رسالة منه تطفئ أو تخفف من نار الشوق في صدرها ، و الطالب يقف على الباب و بصره على أول الشارع ليرى ما يحمل إليه موزّع البريد ، هل يحمل خبر النجاح في الامتحان أو نبأ السقوط و الخسران ؟

و إلى قربها عمارات تطلّ على بردى ، يقابلها من هناك " السراي " و قد كانت في ذلك العهد ( بل إلى ما بعده بربع قرن ) تجمع ـ وحدها ـ وزارات الدولة كلها و معها مجلس الوزراء ، و بجنبها البلدية . و وراء العدلية و البريد جامع يَلبُغا ، له باب من الشرق يطل على سوق الخيل و باب من الغرب يخرج إلى " البحصة " و مدرستنا في صحنه من ورائه ، و مئذنته وراء المدرسة تطلّ على الشارع الخلفي .

فماذا فعل ذلك كله ؟ لقد ذهب !

أما هذه العمارات فقد أودت بها إحدى الحرائق الهائلة التي كانت تشهدها دمشق ، ( و حريقة ) أخرى ذهبت بالدور المقابلة و كشفت جامع تِنْكِز فقام هنا " فندق أمية " و قامت هناك عمارات حديثة . و أمّا البلدية فقد هُدمت و بيعت للسيد الشربتلي ( المعروف ) فأقام في موضعها عمارة كبيرة ! و بنت البلدية لنفسها بناء ضخماً .

أمّا بردى فقد دفنوه حياً و جعلوا قبره شارعاً تطؤه الأقدام ، و قد كانوا يدوسون فوقه من قبلُ حين ألزموه أن يمشي في " المرجة " تحت الأرض ليمشوا هم فوقها . و كانت المرجة في طرف البلد ، تلتقي فيها خطوط الترام الذي جاءت شركة بلجيكية به و بالكهرباء سنة 1898 كما سمعت . و قد أُلغي في الشام من أكثر من ربع قرن ، و لكني رأيته بذاته في بروكسل سنة 1970 لمّا زرتها .

و ذهبت مدرستنا مع ما ذهب و ذهبت معها قطعة من حياتي . و كم كانت لنا فيها آمال و كم حملنا فيها من آلام ، فأين آمالنا فيها و أين آلامنا ؟

لقد كانت دنيانا كلها مختصرة فيها ، كما يُختصر الكتاب في صفحات و كما تقطر قارورة العطر في قطرات ، فأين دنيانا من تلك يا ناس ؟

أين من كانوا يقعدون فيها على المقعد الواحد ؟ لقد رفع الدهر منهم قوماً و وضع آخرين ، اغتنى ناس و افتقر ناس ، و ربما صار ( بل لقد رأينا بأعيننا ) ابن الآذن ( الفرّاش ) قد صار هو الرئيس ، و ابن الرئيس قد أمسى فراشاً أو مثل الفرّاش !

هذه هي الدنيا ، فالأحمق من اطمئنّ إليها ، و وثق بدوامها ، و لم يحسب حساباً لتداول الدول و تبدّل الأحوال ، و ظنّ أن ما نال منها من مال و مجد وسلطان باقٍ له ما علم أنه لو دام على من قبله ما وصل إليه .

ثم مضى أكثر رفاقنا إلى حيث من مضى لا يؤوب ؛ مضوا ليجدوا ما قدّموا مُحضراً ، فإمّا إلى جنة و إما إلى نار . فاللهم يا عفوُّ يا من تحب العفو اعفُ عنّا ، و اختم بالحسنى لنا و لمن صفّى قلبه مع الله ، و مدّ يديه خاشعاً و قال : آمين .

و أرجو لكل من دعا لي بخير مثلَ ما دعا لي به ، هذا و الله ما أريده و هذا ما أحتاج إليه . لا أحتاج مالاً و لا منزلة و لا شهرة في الناس ، كل ذلك لدّي منه الكثير و كل ذلك سراب ، تحسبه من بعيد ماء فإذا جئته لم تجد إلا التراب . ما أريد إلا دعوة صالحة من مسلم صالح ، تبقى سراً بينه و بين الله .

لقد قارعت هذه المدرسة دهرها ، فنزلت حتى صارت مدرسة ابتدائية ثم أدركها ما يدرك كلَّ ما سوى الله : من إنسان و حيوان و نبات . أدركها الأجل الذي ـ مهما تأخر ـ فإنه آت فماتت و لم تجد قبراً يدلّ عليها أو لوحة تشير إلى وجودها .

لمّا دخلت هذه المدرسة كنت قد ارتقيت أيام الأتراك إلى السنة الخامسة الابتدائية فردّوني لمّا تبدلت المناهج إلى الرابعة . و مرّت السنة و نجحت مرة ثانية إلى الخامسة و كنت الثاني بين رفاقي و تجدون في قسم الصور في آخر الكتاب صورة " جلاء " فيه درجاتي و إثبات نجاحي .

و انتقلت المدرسة لسبب لا أدريه إلى البناء الذي أقامه أحد الولاة الأتراك على بردى بين التكية السليمانية و الأخرى التي أنشأها قبلها السلطان سليم . و الذي يشبه في طراز بنائه أبنية القرون الوسطى : برجان من الجانبين و فوقهما سقف هرمي من القرميد و الباب الكبير بينهما و قد كانت فوقه لوحة من الحجر مكتوب عليها " مدرسة دار المعلمين " فانتقلت مدرستنا إليه . ثم صار كلية الحقوق ( و كانت تسمى معهد الحقوق ) و قد تخرجت فيها و نلت شهادتها سنة 1933 ثم صار وزارة المعارف و هو اليوم إدارة التعليم في دمشق .

ما لي أستبق الأيام ؟ و لِمَ لا أنتظر حتى يصل بي ـ إلى ذلك ـ الكلام ؟

انتقلنا إليها ، و صار مديرنا الدكتور كامل نصري ، و من مدرّسينا فيها الشيخ زين العابدين التونسي ، و هو الأخ الأصغر لشيخ مشايخنا السيد الخضر حسين الذي صار ـ من بعدُ ـ شيخَ الجامع الأزهر ، و أستاذ الأساتذة مصطفى تمر الذي كان المفتش الوحيد لمدارس سوريا ، و الشيخ أبو الخير القواس الذي اخترع الطريقة المنسوبة إليه في تدريس قواعد اللغة العربية ( النحو و الصرف ) ، و جعل للأمثلة لوحات كبيرة حروف الزوائد في كلماتها ملوّنة ، و رتب عليها أسئلة ، ثم صغّرها في سلسلة كتب كنا ندرسها اسمها " دروس القوّاس " ، و أشهد الآن أنها كانت أفضل الطرق . و كان يدرّسنا اللغة الفرنسية الأستاذ علي الجزائري .

و خرجنا مع أول مظاهرة مشينا فيها يتقدمنا طالب كبير ، يسأل : ماذا تريدون ؟ فنجيب بصوت واحد : ياسين باشا .

من ياسين باشا ؟ ماذا نريد منه ؟ لم أكن يومئذ أدري ! لكني علمت بعد ذلك أن الإنكليز ـ كما قال الناس ـ قد اختطفوه ، فخرجنا نطالب بإرجاعه .

و في تلك السنة قرر المؤتمر السوري ، الذي كان يمثل سوريا و لبنان و فلسطين ، نصب الأمير فيصل ملكاً ن و كان تتويجه يوم 8 آذار 1920 . و طالما كتبت بعد ذلك في ذكرى هذا اليوم . و دُعيت إلى حفلة التتويج و حضرتها مع رفاقي في المدرسة ، و لكن " من برّا " وقفونا صفاً أمام السراي ثلاث ساعات على أقدامنا بلا طعام و لا شراب !

كذلك كانت مشاركتنا في الاحتفال و كذلك كانت معرفتنا بعهد الشريف ؛ نعيش فيه و لكن لا نرى منه إلا الظواهر ، و ما أبعدَ ما بين ظواهر الأحداث العامّة و حقائقها !

الذي رأيته في هاتين السنتين بقيت حلاوة طعمه تحت لساني . كنت أظن أن دمشق في فرحة متصلة ، في عرس لا ينتهي ؛ المظاهرات مظاهرات الفرح ، و الحماسة التي عمّت الجميع ، و سوق عكاظ للخطب في " النادي العربي " . و كان في الركن الغربي من ملتقى طريق الصالحية و الطريق إلى بيروت ، أمام فندق فكتوريا ، و لقد كتبت عنه كثيراً و حدّثت عنه أكثر ، و كان أبرز خطبائه ـ كما أذكر ـ الدكتور عبد الرحمن شهبندر ، كان يخطب كأنه يتحدث ، لا ينفعل و لكن يفعل بالسامعين ما يشاء ، يُقيمهم و يُقعدهم و يلعب بمشاعرهم و بقلوبهم . و من خطبائه شيخنا الشيخ عبد الرحمن سلام و سيأتي عنه الكلام ، و رجل نصراني كان اسمه حبيب أسطفان ، خطيب نادر المثال .

و كانت نهضة عظيمة في الأناشيد ، أشهرها : " أيّها المولى العظيمُ .. فخرَ كلِّ العرب " و " سيروا للمجدِ ، سيروا للحرب " و " صليلُ الظُّبا و صرير القلم .. لفكِّ القيود و قشع الظُّلم " و " افتحوا لنا الطريق " و عشرات لا أزال أحفظ الكثير منها و أحفظ ألحانها .

و لمّا تكلمت في الرائي عن نشيد " بلادي بلادي منار الهدى " و قلت إن لحنه قديم أحفظه من صغري و أنا أؤكد ذلك هنا تأكيداً جازماً ، تعجّب الناس مني : من أين لشيخ مثلي المعرفة بالألحان ؟ معرفتي بها من حفظي أولاً للأناشيد التركية ، و أناشيد هذا العهد الذي أتحدث عنه . و الثالثة أن معلمينا من المشايخ كانوا يأخذون كل لحن يسمعونه ، و لو كان لأغنية غرام مبتذلة فيؤلفون كلاماً سخيفاً يزعمون أنه في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم و يُنزلونه على اللحن . و قد أنكرت هذا في الصحف و في الإذاعة و على المنابر من أكثر من أربعين سنة و أنكره الآن ، و لكني أُقّر أني حفظت بسببه أكثر ألحان عبده الحامولي و محمد عثمان و داود حسني ( اليهودي ) و أمين حسنين و الشيخ أبي العلا و سيد درويش و زكريا أحمد .

و نشيد بلادي ( السعودي ) نُظم معارضة لنشيد الرافعي :

بلادي بلادي هواك دمي جعلتُ حياتي فدى فاعلمي
غرامُك أوّل ُ ما في الفؤاد و ذكرك آخرُ ما في فمي

و لحنه جاء من هنا مشوباً بشيء من لحن القصيدة التي كانت تغنيها أم كلثوم : " مصر التي في خاطري وفي فمي " لا من نشيد سيد درويش : " بلادي بلادي بلادي .. لك حبي و فؤادي "

و لأنهم علّمونا في المدرسة " النوتة الموسيقية " مفصّلة غاية التفصيل و إن كنت لم أمسك بيدي آلة موسيقية فضلاً عن العزف عليها و إنما هو علم نظري بها . كما أعرف ( نظرياً أيضاً ) المقامات و الأنغام العربية و أنواع الضروب و الإيقاعات على مبدأ " تعلم السحر و لا تعمل به " و إن لم يكن حديثاً .

و كان لي مع الشيخ زين العابدين التونسي ( رحمة الله عليه و على أساتذتنا جميعاً ) موقف أسأت فيه إليه و أنا لا أدري ، و كان ذلك سنة 1919 . و قد زرته آخر مرة ذهبت فيها إلى دمشق و قلت له : أنت أستاذي .. و بدأت أذكّره بتلك الأيام فبان على وجهه الغضب المكتوم و قال : دع هذا الآن . قلت متعجباً : ولِمَ يا سيدي ؟ قال : أنسيت أنك كنت تكذّبني و أنا ألقي الدرس ؟
قلت : يا سيدي أبعد أربع و خمسين سنة ؟ و الله إني مظلوم و بريء ( كما يقولون في المسرحيات ) .
لقد كانت القصة أن الشيخ كان يدرّسنا التوحيد و كانوا يبدؤون عادة بذكر الواجب و المستحيل و الممكن ، فجعل يضرب أمثلة على المستحيل و يسألنا : من يدّعي هذا ماذا نقول له ؟ فنقول : كذّاب . و شرد ذهني و لم أنتبه إلى أنه انتقل إلى كلام آخر فكنت كلما أكمل الجملة أقول : " كذّاب " .

رحمه الله ؛ لقد كان مدرساً نافعاً ، و كان مؤلفاً يصنّف للطلاب الكتب التي توافق مداركهم و تسيغها عقولهم ، ألف " المعجم المدرسي " ثم ألف رسالة ما سبقه أحد فيما أعلم إلى موضوعها هي " المعجم في النحو و الصرف " و جعله مرتباً على الحروف . و أنا اقترح على الأستاذ الكبير عبد الرحمن التونسي ( و الشيخ هو عمّ أمه ) أن يعيد طبعه و أن يسعى لتعممه وزارة المعارف على جميع التلاميذ ، فإني لا أعرف كتاباً في حجمه يحوي مثل علمه و يفهمه التلاميذ مثل فهمه . و هذا شيء خطر على بالي الآن و أنا أكتب هذا الفصل ، ما فكّرت فيه من قبل و لكن أرجو أن يكون خدمة لذكرى أستاذي و منفعة لأبناء بلدي و أنا أعد هذا البلد بلدي و بلد كل مسلم يتوجه في صلاته إليه .

و هنا جاء في طريق حياتي منعطف آخر .

كنت من أصغر تلاميذ صفي ( أو فصلي كما تقولون ) ، و كان عبد الحكيم مراد في مثل سني . و كنا لا نتكلم إلا الفصحى فكان التلاميذ الكبار يسخرون منّا و ربما آذونا ، و علم أبي بذلك فأخرجني منها و أدخلني المدرسة الجَقمقيّة عند الشيخ عيد السفرجلاني .

و منعطف أكبر منه كان في حياة سوريا كلها ، هو موقعة " ميسلون " و انتهاء الحكم العربي و بداية الانتداب الفرنسي .



موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Fati
المديــــر العــام
المديــــر العــام
Fati


اسم الدولة : فرنسا

رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .   رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى . Icon_minitimeالإثنين أغسطس 04, 2008 6:11 pm


الحلقة 8

منعطف خطير في تاريخ سوريا

وقفت بكم أمام منعطفين واحد منهما في طريق حياتي أنا و واحد في طريق تاريخ بلدي بل و البلدان التي تجاوره و تجمعها به جوامع العقيدة و المصلحة و اللسان و هو منعطف معركة ميسلون .

لا أكتب عنها بقلم المؤرخ الذي يجمع الروايات و يصفّيها و يصنفها ثم يؤلف بينها و يستخرج العبرة منها فقد كتب عنها كثير و لعلّ أحسن ما كُتب فيها كتاب الأستاذ ساطع الحصري .

و هذا الرجل سابق من السابقين من الموجّهين و المربّين من العرب و إن عاش حياته الطويلة جداً و مات و هو لا يحسن العربية لا نطقاً و لا كتابة . مفكّر ممتاز ، كان شيخ المشتغلين بالتربية من عام 1908 في تركيا ثم في الشام على العهد الذي أتحدّث الآن حديث ذكرياته ثم في العراق . و قد تسلّم " المعارف " من بابها إلى محرابها و أصدر يومئذ مجلة كانت أولى مجلاتها ثم أشرف على " المعارف " في سوريا بعد الاستقلال و هو نسيب الزعيم سعد الله الجابري ثم عمل في مصر في جامعة الدول العربية .

هذه مزاياه ، أما : هل أحسن أم قد أساء ؟ و ماذا كان موقفه من الإسلام ؟ الجواب لا يرضيه لو كان حياً و لا يرضي تلاميذه و محبّيه ، و لكنّه الحق و لا يضرّ الحق أن كَثُرَ أعداؤه و كارهوه . كان العقل المفكر لفتنة القومية التي لم يأت منها إلا أننا كنا أمة واحدة هي " أمة محمد " فصرنا جمعية أمم و كنا إخوة يجمعنا الحب في ظلال الإيمان فصرنا أعداء تفرقنا هذه الدعوة الجاهلية . و لقد أفسد مناهج سوريا لمّا دعا بعد الاستقلال إلى إصلاحها . و لقد كان لنا ( أنا و نهاد القاسم رحمه الله ) مجلس معه في مصر سنة 1947 استمر ساعات .

و لكن لماذا أقف عنده الآن ؟ إنه داء الاستطراد و الخروج عن الجادة فلنعد إليها و لنتابع طريقنا فيها .

لقد كانت معركة ميسلون منعطفاً خطيراً في تاريخ بلادي و ما أكثر المنعطفات في قصة حياتي ! ذلك لتعلموا أن حياة الإنسان لا تقاس بطول السنين بل بـ عرض الأحداث ، فلقد بلغ عمري في التاريخ الذي أكتب عنه اثنتي عشرة سنة فقط و لكني رأيت فيها حكم الأتراك و حكم العرب و من ورائهم الإنكليز مستخفين بأشخاصهم ظاهرين بأعمالهم كالوسواس الخنّاس مع الناس . و سأشهد قريباً حكم الفرنسيين و هم ظاهرون ظهوراً قوياً و لكن أثرهم ـ إن قيس بأثر أولئك ـ كان ضعيفاً .

أتعرفون القصة الرمزية عن الريح و الشمس لمّا تراهنتا على أيهما يقدر أن ينزع عن الفلاح معطفه فعصفت الريح و اضطربت حركة الهواء فبرد فلبس فوق المعطف عباءة و جاءت الشمس فوجّهت أشعتها إليه فأحسّ بالحر و سال من جسده العرق فنزع المعطف ؟ هذا هو مثال الإنكليز و الفرنسيين كما رأيناهم في الشام ، و هما ـ بعد ذلك ـ كحماري العبادي ( من سكان الحيرة ) قيل له : أيّ حماريك أسوأ من صاحبه ؟ قال : هذا و أشار إليهما معاً .

و كانت ميسلون و أنا أصف منها ما رأيت و ما يمكن أن يراه مثلي .

كنا في جنة ( أو فيما نتوهمه جنة ) فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت و كنا في قصر فيه كل ما نطلب و ما نتمنى فأتاه زلزال مدمّر فتركه خراباً . كنا نعيش ( أو نظنّ أننا نعيش ) في عرس دائم ابتهاج و حماسة و عودة الخير و السعة بعد الضيق و الحرية ( أو ما حسبناه حرية ) بعد أن كنا في سجن كبير .

أصبحنا و إذا الأخبار تتوارد عن مسير الفرنسيين إلينا و أن الأعور الدجال قادم علينا ... إنه الجنرال غورو .

لم ندر أنهم تقاسمونا و نحن نيام و أن " سايكس و بيكو " وزّعونا غنائم حرب كما توزّع المواشي التي أخذها الجيش الغالب من الجيش المغلوب و أن إنذاراً قد وجّه بحل الجيش و أن الملك وافق عليه و سرّح الجيش كل ذلك لم يعلم به عامة الكبار ، فما بالك بالتلاميذ الصغار ؟

و سرت أقوال أن مدير البريد العام حسن بك الحكيم قد أخّر برقية الملك لأنه لم يرضَ أن يكون شريكاً في هذا الموقف الذليل ثم تبين أن ذلك لا أصل له و حسن بك السياسي النظيف رئيس الوزارة مرات رجل الاستقامة و الإصلاح لا يزال حياً ، يعيش على راتب تقاعدي لا يعدل راتب معلم ابتدائي ، و هو أحد الأعلام في تاريخنا الحديث ، و لو شاء لكان كما كان غيره من أصحاب الملايين فيا أسفي ! أهكذا يُعامل شرفاء الرجال ؟

و اشتعلت البلد بنار الحماسة و كان الوطني المخلص و أحد أركان التعليم الشيخ كامل القصاب يُذكي هذه النار و يضرمها و تألفت اللجان الشعبية لجمع المال و هجم الناس على الثكنة الحميدية ( القشلة و هي تشبه أختها في مكة و هي اليوم جزء من جامعة دمشق ) و خطفوا ما وجدوا من السلاح و منهم من أخذ بندقية فرنسية و رصاصاً ألمانيا فانفجرت به .

و ظنوا بأن الحرب تُكتسب بالخطب كما ظن ذلك الأستاذ أحمد الشقيري رحمه الله ( و أبوه الشيخ أسعد من قبله ، و كان خطيباً مثله ) و كما يظن كثيرون ، و خرجوا بالأهازيج و الأناشيد يتسابقون إلى ساحة المعركة .

و كان من المتحمسين القائد الشاب يوسف بك العظمة شهيد ميسلون و قبره فيها . و لم يستمع أحد لنصح كبار العسكريين كرضا باشا الركابي و كانوا يظنون أن جماهير ما عندها من أدوات الحرب إلا الحماسة تستطيع أن تردّ جيشاً فرنسياً يقوده جنرال ! فكانت الهزيمة المرتقبة بعد قتال قصير و دُفن الاستقلال و هو لم يتم ساعة الرضاعة و بدأ حكم الأجنبي للشام .

أما المنعطف الصغير في حياتي أنا فهو نقلي من المدرسة السلطانية الثانية ( الرسمية ) إلى مدرسة الشيخ عيد السفرجلاني ( الأهلية ) و كانت في الجقمقية .

أما الجقمقية فقد بناها جقمق المتوفى في سنة 824 هـ و هي في جوار قبر صلاح الدين الأيوبي و مثلها المدرسة السُّميساطية التي كانت يوماً دار عمر ابن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين و المدرسة الإخنائية و قريب منها العادلية التي بناها العادل الأيوبي و فيها اليوم مجمع اللغة العربية و كانت يوماً دار الإفتاء و كان المؤرخ ابن خلكان ينام فيها . و أمامها الظاهرية أغنى المكتبات في الدنيا بالمخطوطات في علوم الحديث و قد صنع لها المحدّث الشيخ ناصر الألباني فهرساً .

و هذه المحلة من دمشق ممتلئة بالمدارس القديمة حتى إنك لتلقى داراً مملوكة على بابها لوحةٌ باسم المدرسة و واقفها و ما وقفه عليها و هذا من العجب . و أعجب منه أن جدار الأموي الشمالي ( و عرضه نحو المترين أو قريب منهما ) فيه نافذة أرضها ملحقة بدار مملوكة مُسجّلة في السجل العقاري و هي من جدار الجامع !

و محلّة أخرى كان فيها سلسلة متصلة من المدارس هي ضفّة نهر يزيد من غرب دمشق على سفح قاسيون إلى حارة الأكراد لم يبق منها إلا أنقاض مدرسة في أعلى شارع المالكي و عدة مدارس في الصالحية و مدرسة ركن الدين و مجموعة من المدارس في طريق لا يزال اسمه " بين المدارس " و يقولون إن ذلك العصر كان عصر الجهل و الانحطاط !

و الجقمقية قد جددتها وزارة الأوقاف بإشراف إدارة الآثار و أعادتها كما كانت و هي من أجمل المباني المملوكية .

أما الشيخ عيد فهو معلم الشام حقيقة لا مجازاً و لقد كتبت عنه كثيراً و في كتبي كلام طويل عنه فقد لبث يعلّم أكثر من ست و ستين سنة . و لقد كان أبي تلميذاً لديه ثم صار معلماً عنده و لقد رأيت في سجلات مدرسته اسم التلميذ ثم اسم ابنه ثم اسم حفيده ثم اسم ابن الحفيد ! علّم أربعة بطون . و ابنه الأستاذ عبد الرحمن كان شيخ المعلمين الرسميين بعد الأستاذ سعيد مراد و الشيخ محيي الدين الخاني ، و سيأتي الكلام عنه .

في هذه المدرسة بدأ التأثير الباقي في نفسي للأساتذة الذين حضرت دروسهم أما الشيخ عيد فكان له أبقى الأثر فيها و ما كان يعلّمنا و لا يلقي علينا دروساً بل كان يلقي الكلمة فيصيب حبّات القلوب مناّ . و أنا قد نسيت أكثر ما سمعت من دروس المدرسة و لكن أمثال هذه الكلمات التي تأتي في موضعها و تقترن بمناسبتها لا تزال في أذني و في قلبي .

كان شيخاً كبيراً و كنا نتكوّم حول مكتبه يبري لنا أقلام القصب و يُهدي إلينا رسائل عليها خطّه ( و كان يُحسن الخط ) و يحدّثنا فإذا أراد أن يؤدّب واحداً منّا أخذ برأسه فحناه على صدره ( صدر الشيخ ) ثم أمسك بالعصا بجمع يده إبهامه إلى أعلى ثم ضربه على ظهره ضربات لا تؤذي .

و كان إذا شتم قال للمذنب : ( يحرق بدنك ) و يضرب لنا الأمثال فيقول : كونوا مستقيمين و لكن استقامة الحورة لا استقامة عود الكهرباء ، الحورة تميل قليلاً مع الريح و تبقى على استقامتها أما العمود ( و كان يومئذ من الخشب ) فإنه يعاند حتى ينكسر .

و لطالما حفظت أحاديث صحيحة و أحكاماً فقهية و وعيت نصائح و حِكماً انتفعت منها في حياتي كل ذلك من هذه الكلمات فإذا دخل الغرفة المراقب ( و كنا نسميه الناظر ، و هو موظف لديه و تابع له ) قال ضاحكاً : لقد جاء فاهربوا .

و من هو الناظر ؟ هو الشيخ محمود العقاد أحد تلاميذ أبي و أقربهم منه صلة ، و كان حسن الصوت مجوّد القراءة يُتقن الأناشيد فإذا انتهى الدرس بعثتني جدّتي إليه لأقول له : يا شيخ محمود اقرأ لنا أو اسمعنا نشيداً و كان يفعل .

و جئت المدرسة و هذا نظري إليه و حكمي عليه . و إذا هو في المدرسة رجل آخر غير الذي عرفته في الدار لا ينشد و لكن يشدّ أرجلنا في الفلق و يقرعها بالعصا . كان مخيفاً ، و كان التلاميذ إذا خرج عليهم و هم في الفرصة و هم يصرخون و يصيحون صمتوا فجأة و كمت أفواههم . و لمّا صرفه الشيخ عيد ( أو انصرف هو ) جاء يودّعنا يرتقب منا أن نبكي حزناً للفراق ففرحنا من الأعماق .

أقول هذا بلسان ذلك التلميذ و أشهد ـ و قد استمرّت صلتي به إلى أن توفّاه الله من سنوات ـ أنه كان يحب الخير للتلاميذ و يريد لهم الكمال ، أمّا الشدة فقد كانت ( موضة ) المعلمين في تلك الأيام .

في هذه المدرسة اتضح لي طريق الجمع بين القراءة على المشايخ على الأسلوب الأزهري القديم و الدراسة في المدارس على الأسلوب الجديد .

و لقد كنت ـ منذ وعيت ـ أجد إذا أصبحت مشايخ بعمائم و لحى يقرؤون على أبي و كنت أدخل بالماء أو بالشاي فألتقط كلمة بعد كلمة لا أفهم معناها و لكن تبقى في نفسي ذكراها . ثم صار أبي يأمرني أن أناوله الجزء الأول من حاشية ابن عابدين أو الثاني من الفتاوى الهندية أو جزءاً من القاموس أو تنقيح الحامدية ... فعرفت بعض أسماء الكتب .

و لكن لم يَضِح لي الطريق إلا في هذه المدرسة إذ كان بين مدرّسينا شيخ جليل و لكنه شديد كنا ـ مع الأسف ـ نحترمه و لا نحبه ، و كنت أحضر دروسه في الأموي يوم كان في الأموي أكثر من عشرين حلقة دائمة و كانت حلقته متميزة تجمع العلم و الأدب و الفقه و الشعر يتكلم بلهجة تونسية يلقي جُملاً مسجَّعة كثيرة الترادف مزينة بالشواهد كأنه يقرؤها من كتاب مطبوع هو الشيخ صالح التونسي .

لهذا الشيخ و لصديقه الشيخ الكافي ( و سأتكلم عنه ) أثر بالغ في نفسي ، ذلك أنه كان صديق أبي و كانت له غرفة في المدرسة البادرائية فألزمني أبي بأن أحضر عليه في غرفته دروساً إضافية فوق دروسه التي ضقت بها في المدرسة و كنت أتمنى الخلاص منها و لكن أمر الأب لا يُرد .

و لقد أدركت بعده مبلغ ما استفدت منه حين حفّظني ألفية ابن مالك و الجوهر المكنون في البلاغة و متوناً أخرى نُقِشت في خاطري في الصغر و انتفعت بها في الكبر .


موقعي في الحوار المتمدن - عربي
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2548

موقعي في تويتر
https://twitter.com/Fatiaa_F

موقعي في الحوار المتمدن - إنجليزي
http://www.ahewar.org/eng/search.asp?


مدونة موسوعة شارع المتنبي
https://shar3-almoutanabi.blogspot.com/
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رحلة عبر ذكريات الطنطاوي ..أبو خيثمة ، أبو محمد ، قطر الندى .
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سعد بن خيثمة ابن الحارث
» خيثمة بن عبد الرحمن
» ذكريات
» الشاعر محمد حلمي الريشة في حوار خاص - حاوره: محمد ديبو
» رحلة مجانية في دقائق الى المغرب

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ليـــــــــــــل الغربــــــــــــــــــــــــــة :: الموسوعــــات :: موسوعـــــة المفكــــرين والعلمـــاء-
انتقل الى: