:
ثقافة حضارة
عمل فكري
عمل مادي
يوم راحة
يوم عمل
وقت الفراغ
عمل
ميدان الحرية
ميدان الضرورة
فكر
طبيعة
تفكير غير عملياتي
تفكير عملياتي
لقد وجدت هذه التفرعات لدى الجامعيين ما يعادلها في التمييز بين العلوم الطبيعية وجميع العلوم الأخرى كالعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، الخ.: إن علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية وحتى العلوم الإنسانية تتقارب في مناهجها ومفاهيمها. ويُسهل هذا التقارب انتشار التجريبية الوضعية، والصراع ضد كل ما يدعى "ميتافريزقية"، وتطبيق " النظرية الخالصة" تطبيقاً مباشراً، وقبول جميع الأنظمة ترتيباً يتفق مع المصالح القومية والنقابية. ويتفق هذا التغيير في التربية مع التغيرات البنيوية التي طرأت على المجتمع الحالي والتي تطرح مشكلة التفرع الثنائي المذكور آنفاً: إن الحضارة التقنية تميل إلى إلغاء أهداف الثقافة المغايرة (للأهداف الاجتماعية القائمة) وأيضاً إلى إلغاء العوامل أو العناصر الثقافية التي تبدو معاكسة لأشكال الحضارة القائمة أو غريبة عنها. ولا تدعو الحاجة هنا إلى تكرار النظرية القائلة بأن دمج العمل مع الراحة، والزهد مع التسلية، والفن مع تدبير المنزل، وعلم النفس مع إدارة المشاريع، يغير عمل هذه العناصر التقليدي: فهي بذلك تتخذ قيمة "إيجابية" (إثباتية)، أي أنها تساعد على تدعيم نفوذ العالم القائم على الفكر (هذا العالم القائم نفسه الذي جعل منافع الثقافة سهلة المنال بالنسبة للإنسان)، كما أنها تساهم في تعزيز موقف ما هو كائن بالنسبة إلى ما يمكن أو يجب أن يكون. وهذه القضية ليست إدانة: إذ ان احتمالات أوسع للوصول إلى الثقافة التقليدية وخاصة إلى أعمالها الأصلية أفضل من التمسك بامتيازات ثقافية تنعم بها دائرة مغلقة مبنية على الغنى والمحتد. ولكن لكي نحفظ القيمة المعرفية لهذه الأعمال لا بد من موهبة ذكاء ووعي فكري لا يرتبطان بصيغ التفكير والسلوك التي تستوجبها حضارة البلدان الصناعية المتقدمة.
إن تقدم الحضارة في شكلها الحالي ونزعاتها، تتطلب وسائل في التفكير عملياتية أو إجرائية (operationalistic) تحول إلى سلوك معين. وهذه الوسائل قادرة على تقبل العقلية المنتجة للأنظمة الاجتماعية القائمة، وعلى الدفاع عنها وتحسينها. ولكنها غير قادرة على دحضها. بيد ان مضمون هذه الثقافة العليا (الذي غالباً ما كان متستراً) يكمن في معظمه في هذا الدحض: فهي كانت تدين التخريب المؤسسي للقدرات البشرية كما كانت مسؤولة عن المحافظة على أمل تعده الحضارة القائمة طوباوياً وترفضه. صحيح ان الثقافة كانت دائماً في أشكالها العليا ذات طابع تأكيدي، نظراً لأنها كانت بعيدة عن ميدان العناء والبؤس اللذين تكبدهما أولئك الذين كانوا يخلقون المجتمع بعلمهم والذين كانت الثقافة ثقافتهم والذين أصبحت الثقافة بهم أيديولوجيا المجتمع. ولكنها كانت منفصلة عن المجتمع لكونها أيديولوجيا. وهذا الانفصال كان يعطيها الحرية في المعارضة والاتهام والرفض. انّ وسائل الاتصال اليوم كثيرة تقنياً وسهلة جداً، وهي غاية في الغزارة، ولكن مضمونها قد تغيّر.
سأحاول الآن، فيما يخص استبعاد مضمون الثقافة الذي كان معارضاً في الماضي، ان أبرهن ان الأمر لا يتعلق بمثل أعلى رومانطيقي (أيا كان) وقع ضحية التقدم، ولا بدمرقطة الثقافة المتزايد، ولا بتعادل الطبقات الاجتماعية، بل على الأغلب بإغلاق الفسحة الحيوية أمام نمو الاستقلال والمعارضة. ولا أستطيع هنا أيضاً إلا أن ارسم الخطوط الكبرى لهذه المسألة، وسأبدأ بالوضع في الميدان الجامعي.
إن التقسيم بين علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية (أو علوم السلوك) والعلوم الإنسانية يبدو سطحياً جداً، خصوصاً أن التفريق بين مواضيعها، وفي أضعف الإيمان بين مواضيع العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، مشكوك في أمره إلى أبعد حد. والمشاكل الجامعية في هذا الميدان ليست إلا مرآة تعكس هذا الوضع العام. فهناك في الواقع تقسيم في المادة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، أو بالأحرى بينها وبين ما كان يجب أن تكون عليه العلوم الإنسانية في السابق: أعني بذلك معرفة ظواهر الطبيعة البشرية (humanities) التي لم تترجم بعد في الواقع. والمقصود بذلك خاصة طرق التفكير والتمثيل والتعبير المفارقة (transcendence) غير العملياتية (non operationalistic). فهل يتطلب تحليل المجتمع والتصرفات الاجتماعية، وحتى الفردية منها، في عصرنا هذا ان نتجاهل الطبيعة البشرية؟ وهل يستبعد وضعنا الثقافي ومجموع تصرفاتنا الاجتماعية علوم الطبيعة وهل تغض من شأنها؟ هل تبعدها إلى مستوى العلوم "التي لا تتعلق بالسلوك"، والتي تكون بذلك "غير علمية"، والتي تخص القيم الشخصية والعاطفية والميتافيزيقية والشعرية، والتي لا تصبح "علمية" إلا إذا دونت بكلمات علمانية؟ ولكن العلوم الإنسانية إذا قامت بمثل هذا العمل تتخلى عن ماهيتها وتترك الحقائق غير العلمانية لتتعلق بالقواعد التي تسوس المجتمع القائم. ذلك لأن المقاييس التي تستعملها علوم السلوك هي ذاتها مقاييس المجتمع الذي ترتبط هذه العلوم بدراسة سلوكه.
ولكي أتجنب أي تفسير رومانطيقي خاطئ، أود أن أكرر أن الثقافة كانت دائماً امتيازاً لأقلية صغيرة كما كانت قضية ثروة ووقت وحظ. أما الكتلة الشعبية المحرومة، فقد كانت "القيم العليا" بالنسبة لها دائماً كلمات فارغة أو مواعظ أو أوهاماً مجردة من المعنى، وكانت في أحسن الحالات أمالاً وأمنيات لم تتحقق. ووضع الثقافة المميز جعل من الحفرة التي تفصل بين الحضارة المادية والثقافة الفكرية، وبين الحرية والحاجة، سبباً لإبقاء الثقافة غير العلمية تحت شعار "الميدان الخاص" (reserve domain). لقد كان بمقدور الأدب والفن ان يصلا في هذا الميدان إلى قيم كانت في الحقيقية مرفوضة أو مكبوتة أو محولة إلى مفاهيم ومقاييس تفيد المجتمع. وكان بمقدورهما أن ينقلا هذه القيم كذلك. من هنا استطاعت الفلسفة، الدين، ان تعبر عن ضرورات أخلاقية عالمية غالباً ما كانت تتناقض بوضوح مع أخلاق المجتمع السائدة. من وجهة النظر هذه نستطيع القول إن الثقافة غير العلمية كانت أقل تسامياً من الشكل الذي أخذته في ترجمتها إلى قيم وتصرفات اجتماعية واقعية. وكانت بالتأكيد أقل تسامياً من الأدب الذي لم يكبته عصرنا. ذلك لأن أسلوب هذه الثقافة العليا الموزون والمصقول كان يعبر سلباً عن حاجات الإنسان وآماله غير المشروطة والتي يجسدها الأدب المعاصر مثلما تتحقق في المجتمع، أي مشبعة بأشكال القمع القائمة.
هذه الثقافة العليا ما زالت موجودة. وهي يسيرة المنال اكثر من أي وقت مضى. وهي الآن يقرأها الناس أو يرونها أو يستمعون إليها اكثر بكثير من السابق. ولكن المجتمع أغلق منذ وقت طويل الميادين الفكرية التي تستطيع هذه الثقافة ان تفهم فيها ضمن محتواها الإدراكي الخاص وحقيقتها الأصلية. ان الميول العملياتية في التفكير والسلوك تُبعد هذه الحقائق إلى دائرة الشخصية والذاتية والانفعالية. وهي في هذه الحالة تستطيع ان تتوافق بسهولة مع العلم القائم: فجانب الثقافة المتعالي والنقدي والنوعي يُلغى، في حين يُدمج الجانب السلبي بالإيجابي. وهكذا تفرغ عناصر الثقافة المعارضة: تأخذ الحضارة الثقافة على عاتقها، فتنظمها وتشتريها وتبيعها؛ وتحول الأفكار غير العملياتية أو المرتبطة بالسلوك إلى أفكارا عملياتية تتبع السلوك. وليس هذا التحول عملاً منهجياً وانما تراتب اجتماعي. ونستطيع التعبير عن فعل هذا التراتب الأساسي بالصيغة التالية: إن دمج قيم الثقافة بالمجتمع القائم يلغي انتماء الحضارة إلى الثقافة ويقلل بذلك من التوتر القائم بين "الواجب" و"الكينونة" (وهو توتر تاريخي واقعي)، وبين الممكن والحاصل، والمستقبل والحاضر، والحرية والضرورة.
وينتج عن ذلك ان مضامين الثقافة المستقلة والنقدية تتحول إلى غايات تربوية بناءة ضمن عناصر الانفراج، وتصبح بذلك وسيلة هذا التكيف.
كل عمل أصيل في الأدب والفن والموسيقى والفلسفة يتكلم لغةً شاملة، تنقل أفعالاً وظروفاً تختلف عن تلك التي تنقلها اللغة المبنية على السلوك؛ وهذا ما يفسر وحدة مادتها واستحالة ترجمتها. بيد أن هذه المادة التي تستحيل ترجمتها أصبحت على ما يبدو في طريقها نحو الزوال. إذ أنها تضيع الآن عبر عملية انتقال وتبديل لا تتعرض "للفوبشري" (superhuman) ولا للفوطبيعي (supernatural) (الدين) فحسب، بل لمضامين الثقافة البشرية والطبيعية كذلك (الأدب، الفن، الفلسفة): ذاك ان الصراع العنيف الشديد بين الحب والكراهية، والأمل والخوف، والحرية والحاجة، والسبب والمسبب، والخير والشر، يصبح الآن صراعاً واضحاً وطبيعياً واكثر مرونة، أي أكثر ملاءمة للسلوك.
وليس الأبطال والآلهة والملوك والفرسان، الذين يبكّون عالمهم من عالم المأساة والرواية والأغاني والأعياد، ليسوا وحدهم الذين اختفوا، بل اختفى أيضاً العديدُ من الألغاز التي لم يستطيعوا حلّها، والمعارك الكثيرة التي خاضوها والقوى المتعددة والأهوال التي خضعوا لها. إن نسبة متزايدة من القوى التي لم تقهر (ولا تقهر) تحدّ منها الآن العقلانية التقنية والعلوم الطبيعية والاجتماعية. وأن عدداً كبيراً من المسائل النموذجية أصبحت اليوم تابعة لميدان تشخيص علماء النفس والاجتماع والسياسة وفي متناول علاجاتهم. وإذا كان تشخيص هذه المسائل وعلاجها سيئين، وإذا كان مضمونها الذي ما يزال يحتفظ بصلاحيته مشوهاً أو محجماً أو مقموعاً، فإن ذلك لا يمنع إمكانية حصول هذا التطور الجذري. وبكلمة مختصرة نستطيع القول ان البشرية وصلت إلى مرحلة تستطيع فيها تقنياً أن تبين عالم السلام، عالماً يخلو من الاستغلال والبؤس والخوف. وعندئذ لا بد أن تصبح الحضارةُ ثقافةً.
إن تفكك مادة الثقافة العليا المفارقة على يد التقنية الحديثة سلب منها وسائل التعبير والاتصال الملائمة، وأدى إلى زوال الأشكال الأدبية والفنية التقليدية، وإلى تعريف جديد وعملياتي للفلسفة وإلى تحول الدين إلى رمز تشريعي. وقد وجدت الثقافة في الوضع القائم تعريفاً جديداً لها: إن كلمات الأعمال (الأدبية) التي صمدت، وأصواتها وألوانها وأشكالها بقيت كما هي ولكن معانيها فقدت من جوهرها وصلاحيتها. فالأعمال التي كان تعارضها مع الوضع القائم يثير فضيحة في الماضي أفقدها تأثيرها اتخاذها شكلاً تقليدياً. ولم تحتفظ بطابعها الغريب عن المجتمع لوقت طويل. فالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع تسيطر فيها تجريبية مزيفة تردّ مفاهيمها ومناهجها إلى تجربة الإنسان المحدودة والمقموعة في عالم مشوش، وتنتقص من المفاهيم التي لا تقتفي السلوك وتردها إلى مستوى البلبلة الميتافيزيقية. وهكذا فإن أفكاراً مثل الحرية والمساواة والعدل والفردية كانت قيمتها التاريخية، طيلة الوقت الذي لم تزل فيه مضموناً غير محقق، تكمن في كونها لا تستطيع ان تتناسب مع الواقع القائم. وهذا الواقع لم يكن قادراً على تأييدها لأنها كانت تتنافى مع عمل المؤسسات المنوط بها تحقيقها.