الحديث عن الفنانة الكبيرة الراحلة زهور حسين حديث يجلب الاسى والحزن لفقدان هذا الصوت العراقي الاصيل والممتلك لكل مقومات الجمال والرقة والعذوبة .. انه صوت زهور حسين أو زهرة عبد الحسين . هذه الزهرة التي تفتحت منذ بواكير طفولتها وصباها، وكانت نهايتها التفتت على اسفلت شارع له كل قساوة الدنيا.
تركت المرحومة زهور حسين آثارها الطيبة على خارطة الغناء العراقي بما تحتويها تلك الخارطة من كنوز يتضاءل امامها كل اكداس المال.
وعندما انتشر صيتها في خمسينيات القرن الماضي، وصار القاصي والداني يعرف زهور، ويعي مدى استقرار صوتها الشجي في آذانهم، تشوقوا لرؤيتها، وكانت تقصد اذاعة بغداد في الصالحية، للغناء لتلبية طلبات المستمعين ، مرددين لها كلمات الحب والاحترام والاعجاب غير المحدود، .. أحبوها وأحبوا صوتها الذي يفيض عذوبة .
كل لي شلك غايه زعلان ويّايه
يا اسمر يبو الدكات يلْ مثلك هوايه
و يذكر اخاها من امها السيد قادر ناصر بعض تفاصيل حياتها فيقول: ولدت زهور حسين في منطقة الكاظمية ببغداد عام 1924 ولم يتهيأ لها دراسة الموسيقى او بعض الطرائق الغنائية اذ لم يكن في الاربعينات و ما تلاها مدارس غنائية و انما هناك الموهبة والممارسة مع من يسبقها من المطربات و لكنها كانت ميالة للغناء الشعبي الذي كان يعرف خلال مناسبات الزواج و القبولات و غيرها و قد كان ابي المرحوم (ناصر) يحب الغناء و كان يشتري العديد من الاسطوانات الخاصة بجهاز (الكراموفون ذي البوق) و كان يستمع لقارئ المقام نجم الشيخلي و رشيد القندرجي و حسن خيوكة و من العرب فريد الاطرش و اسمهان و ام كلثوم ... و هو الذي انتبه لحلاوة صوت زهرة (و هو اسمها الحقيقي) و اول من شجعها على الغناء و كان يجد في صوتها البحة المميزة و الرائعة حتى اتخذت طريقها لاذاعة بغداد اللاسلكية عام 1947 . و تتميز اختي زهور عن سواها من المطربات بأنها تغني بأحساس صادق مبتعدة عن النمطية و لا تتصنع في ادائها و لها قدرة كبيرة على الحفظ و كثير ممن لحنوا لها اكدوا ذلك الامر . و كذلك صوتها قوي لا توجد فيه حشرجة و هي تغني بحرقة غير مفتعلة و تندمج بأجواء الاغنية و لذلك اقبل الناس على سماع صوتها الجميل. و من المقربون لها من الفنانين المطربة سليمة مراد و عفيفة اسكندر و نرجس شوقي و صديقة الملاية و الفنان حضيري ابو عزيز و داخل حسن و رضا علي و عباس جميل و الشاعر سيف الدين الولائي و عبد الكريم العلاف و محمد العصري و اخرون .
وقد تزوجت زهور سرا من رجل احبته واحبها وهو من عائلة معروفة لم تشأ ان تعرضه للاحراج امام عائلته ومجتمعه باعلان الزواج فالمجتمع العراقي المحافظ يعد الزواج من فنانة تعمل في ملهى (كارثة خلقية واجتماعية) وقد ورثها ذلك الرجل عند وفاتها حسب وصيتها.
وسجلت زهور حسين عدة اسطوانات لشركات انجليزية والمانية غنت فيها نماذج من الفولكلور العراقي فضلا عن الالحان البغدادية التي قدمها لها عدد من الملحنين البغداديين المعروفين الذين برزوا في الخمسينيات في اروقة الاذاعة امثال عباس جميل ومحمد نوشي و سعيد العجلاوي و خضير الياس و كذلك الشعراء امثال : سبتي طاهر و جبوري النجار و عبد الكريم العلاف و غيرهم .
وتعد زهور حسين واحدة من المع نجوم الغناء البغدادي وكان رصيدها من الاسطوانات عاليا في شركة جقماقجي البغدادية وهي الشركة العراقية الاولى التي ابدعت في تسجيل اصوات الفنانين الرواد في العراق مثل حضيري ابو عزيز وناصر حكيم بالنسبة للغناء الريفي وقراء المقام العراقي محمد القبانجي ويوسف عمر ومازالت في موقعها القديم في مدخل شارع الرشيد من ناحية الباب الشرقي الا ان اوضاعها وطبيعة عملها تغيرت الآن.
كما كان لزهور حضور قوي في اذاعة بغداد، ولها رصيد عال من الاغاني المسجلة والاسطوانات في ارشيف الاذاعة و كانت تغني في ملهى (أبي نؤاس) الواقع في ساحة التحرير ببغداد انذاك خلال فترة الخمسينات و الستينات حيث كان المعجبون يزدحمون في هذا الملهى لسماع اغانيها .
ومن اغانيها بالفصحى قصيدة للشاعر الاحوص ومن مقام الدشت وقد برعت في ادائه بما أيقظ حسد بعض المقاميين و هي اول اغنية لها و كان ذلك في ملهى الفارابي عام 1938 و مطلعها :
اذا أنت تعشق ولم تدر ما الهوى
فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
واخرى للشاعر محمد سعيد الحبوبي:
لحْ كوكباً وأمش غصنا والتفتْ ريما
فان عداك اسمها لم تعدك السيما
* ومن أغانيها الشعبية الكثير مما يصعب حصره ، منها :يادمعة سيلي—غريبة من بعد عينج يا يمة (و هي من كلمات عباس العزاوي و الحان المرحوم عباس جميل)-- الهجع-- ومنانه بعد لا تكول نتلاقة --، وجيت لاهل الهوى --آه من هذا الوقت --تضحكون اضحك الكم-- صلوات الحلو فات –يام عيون حراقة –سلمة يا سلامة—سودة شلهاني يا يمة (و هي اغنية للفنانة مسعودة العمارتلي)—يا بنية عليج الله--خالة شكو و بعض من الابوذيات منها: لو صار دولاب الهوة—لولا الغرام—لقد سار الحبيب—ايها الساقي رحيقا—اشكو الغرام—بعدة قلبي—شيفيد الموادع—جفاني طير سعدي—يا عزيز الروح—هلة و مية هلة –بعدكم الدهر علية و غيرها كما غنت للشاعر بشارة الخوري (اترى يذكرونه ام نسوه ؟ ).
* يقول عنها الرائد الغنائي المرحوم عباس جميل :
- لحنت لها أكثر من ثمانين أغنية، وقرأت مقام الدشت. في صوتها بحة تسيل رقة وحناناً وشجى، تلامس بها ارق عواطف الانسان. حوربت كثيراً رحمها الله، من قبل بعضهن بمختلف الحجج والبعض الاخر من الفنانات حاولن منافستها في طورها فلم يلحقن بها ويلامسن جرفها ، كانت متفردة رحمها الله وقد شكلنا معا ثنايئا كبيرا و كانت تربطني بها علاقة روحية حميمة و هذا ما جعلني انسجم معها في اللحن الذي اقدمه لها و لا انسى انها بكت بكاءا مرا حينما غنت (غريبة من بعد عينج يا يمة) اول مرة و كذلك في اغنية (جيت لاهل الهوى) لقد كانت رحمها الله تتفاعل مع اللحن والكلمة بشكل يمنحني القدرة على العطاء اكثر و هي مطربة كبيرة بكل المقاييس .
ويقول عنها الناقد الموسيقي والصحفي المخضرم عبد الوهاب الشيخلي :
- عرفني بها العلامة الراحل ابراهيم الدروبي مطلع اربعينيات القرن الماضي، عندما كانت تغني في اذاعة بغداد . اثبتت زهور انها تمتلك حنجرة نادرة بين المطربات العراقيات والعربيات حيث تمكنت خلال سنوات قلائل من الاستحواذ على اهتمام الكثير من المستمعين على اختلاف شرائحهم الاجتماعية. ولو تهيأ لزهور ما تهيأ لاسمهان من الملحنين لكان لها شان آخر غير ما نحن فيه ومع هذا فزهور لها تلك القامة الساحقة في ساحة الغناء.
و في التعريف عن زهور حسين في فهرس الفنانات العراقيات وفي ما كتبه الفنان رضا علي، بأن الفنان في وقتنا اي اثناء ما كان يُلحن ويغني وتغني زهور كان لا يركز على فنه وصوته، وبسبب غياب النظريات والنقاد الذين يرشدون الفنان. لذلك اجتهدت زهور حسين بحسب ثقافتها الريفية، فكانت تغني بعفوية، وبرزت شعبيتها من ادائها الاغاني الشائعة. غير انها عندما بدأت تغني من الحان عباس جميل وألحاني (رضا علي) صارت تحسب لأهمية حفظ الكلمات وإتقان اللحن. مع ذلك ظلت بصمتها هي تلك البحة والفطرة في الغناء، وسماعها في اي وقت، يبعث الطرب في النفس.
مع ذلك ايضا، ورغم اغانيها الناجحة فقد بقيت نبراتها الريفية تصفو تارة وتعكرها العفوية تارة اخرى. ويرجع هذا الاختلال في سوية الغناء الى ضبابية الطبقة التي تغنيها على الرغم مما اجتمع في صوتها من قوة وشجو وبان على معدن نفيس، فيغشاه في احيان رخص وتنعدم فيه الروح التعبيرية. وهو يتألق " بالجوابات العالية "، ويبدو ضعفه في " القرار " او في الطبقة الصوتية المنخفضة.
* رحلت هذه الفنانة الكبيرة وهي في قمة عطائها، الى عالم الخلود يوم 24/12/1964 ولها من العمر بحدود الاربعين عاماً. وخلفت ثروة غنائية ستبقى ذخراً في الغناء العراقي. رحم الله زهور التي تفتت أوراقها على شارع صلد (يربط بغداد بالحلة وهي في زيارة لزوج اختها في الحلة و بسبب الامطار انزلقت السيارة التي كانت تركبها عن الطريق العام و قد بقيت زهور فاقدة الوعي لمدة 10 ايام و بسبب رداءة الاوضاع الصحية انذاك رحلت هذه الفنانة القديرة) . فليتك أجلت هذه الزيارة لفرصة اخرى، ولكنه الموت الذي يقول فيه الشاعر:
واذا المنية انشبت اظفارها
ألفيت كل تميمة ما تنفع