من آثار العرب والحضارة العربية الإسلامية في منطقة حوض نهر النيجر (( مــالي )) :
كل الفاتحين عبر التاريخ كانت لهم آثارهم وبصماتهم التي تظل زمنا - يطول أو يقصر - ماثلة أمام الأعين في البلاد التي تفتح بحسب قوة تأثير أولئك الفاتحين في مختلف مناحي حياة الناس في المناطق المفتوحة ، ويلاحظ أنه كلما ارتبط الأمر بالعقيدة أو الدين كان التأثير أكثر تجذرا ، وأعمق أثرا ، وأطول بقاءً .
ومن حسن حظ العرب أن المولى - تبارك وتعالى - أختار لغتهم العربية لتكون وسيلة ووعاء لوحيه الخاتم وكتابه المحفوظ - القرآن الكريم - وأختارهم هم واصطفاهم وأعدهم أفرادا وجماعات لحمل خاتمة رسالاته إلى العالم أجمع .
وبعد أن كانت الرسالات السماوية السابقة تتوجه لأقوام وشعوب بصورة خاصة ؛ فتكون الرسالة لأناس مخصوصين في مكان مخصوص وزمن مخصوص إلاَّ أن رسالة الإسلام العظيم جاءت لتكون موجهة للناس كافة ، وصالحة في كل مكان ، وممتدة عبر الأزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولتكون المنقذ والمخلص للبشرية جمعاء وتخرج الناس من ظلمات الجهالة والتخلف وحيف الأديان وجورهم إلى نور العلم والإيمان والرحمة والتسامح والمحبة والإيثار والعدل والمساواة ، تلك القيم والأخلاق المفعمة بالنبل والسمو التي ما تجسدت في دعوة قط أرضية أو سماوية مثلما تجسدت في دعوة الإسلام الحنيف .
وقد تلقف الحيارى والمهمشون والمستضعفون في الأرض هذه الدعوة منذ الوهلة الأولى وكأنها هدية السماء إليهم ، واعتنقوها بقناعة وإيمان عميقين ، واحتضنوها بمودة ورفق ومحبة وحملوا هديها النير إلى جهات الكون الأربع ، يبذلون المهج والأنفس الغالية في سبيل نشرها والدعوة لمبادئها الراقية ، حتى كادت تعم دعوة الإسلام أرجاء العالم القديم في زمن قياسي وجيز ، حيث نودي بكلمة الحق : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " من سهول بلاد الصين شرقا إلى ضفاف نهر اللوار في بلاد الغاليين ( فرنسا ) غربا في أقل من قرن من تاريخ هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
ولعل من مفارقات التاريخ الملفتة والعجيبة أن دعوة الإسلام وصلت إلى القارة الإفريقية السمراء في وقت مبكر جدا حتى قبل أن تصل إلى يثرب - المدينة المنورة - أهم حاضرة تقع بالقرب من شريان الحياة التجاري الرابط بين حاضرة قريش مكة المكرمة وبلاد الشام ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قدم العلاقة ودوام الإتصال والتواصل بين عرب شبه الجزيرة العربية والقارة الإفريقية ، بل وأهمية هذه القارة في المنظور القريب والبعيد بالنسبة لدعوة الإسلام .
فماذا إذن عن قدم هذا الإتصال بين القارة الإفريقية وشبه الجزيرة العربية ؟
تؤكد مصادر تاريخ العرب القديم أن الهجرات العربية الأولى إلى افريقيا بدأت منذ الألف الرابع قبل الميلاد عبر منفذين اثنين : فالهجرات المنطلقة من جنوب شبه الجزيرة العربية ( بلاد اليمن السعيد ) اجتازت أخدود بحر القلزم ( البحر الأحمر ) من مضيق باب المندب - حيث يضيق المجرى المائي وتتقارب العدوتان لإفريقيا وآسيا - إلى المنطقة التي تقع فيها الآن المناطق المعروفة بالقرن الإفريقي ، وبلاد الحبشة ، ودولة السودان وما جاورها ، ثم اتجهت إلى وسط القارة وشرقها بعد أن اتخذت من المراكز القائمة على السواحل محطات أولية قبل الإنسياب والإنتشار في الداخل .
وأما الهجرات الأخرى التي انطلقت من شمال شبه الجزيرة العربية فكانت لها شبه جزيرة سيناء معبرا وجسرا طبيعيا انسابت من خلاله إلى أرض الكنانة ومنطقة الشمال الإفريقي والصحراء الكبرى إلى سواحل بحر الظلمات ( المحيط الأطلسي ) .
وقد أصبح هذا المعبر - الأخير - سبيلا سالكا فيما بعد عبرت منه أغلب الغزوات والفتوحات إلى مناطق حوض المتوسط خاصة من الناحية الغربية الجنوبية ، كما عبرته الهجرات العربية الصنهاجية القديمة إلى أعماق الصحراء الكبرى قبل ظهور الإسلام بقرون عديدة أي منذ أنهيار سد مأرب وتفرق العرب أيدي سبأ - كما يقولون - وفي مراحل تاريخية لاحقة عبره الإسلام الفاتح إلى شمال القارة أولا ثم إلى غربها وجنوبها .
ويذكر أن دخول الجمل مع أولئك الأقوام - والذي تؤكد مصادر التاريخ القديم أنه حيوان آسيوي - في مجال النقل في الصحراء الإفريقية الكبرى أحدث نقلة نوعية وثورة إيجابية في حركة الإتصال والمواصلات في المنطقة برمتها بحيث شكل استخدامه وسيلة للنقل في الألف الأول قبل الميلاد قفزة حقيقية لقهر صعوبات اجتياز فيافي الصحراء ودروبها الخطرة وأمن استمرار التواصل بين مراكزها التجارية المتباعدة فكان بحق الوسيلة المتميزة التي قربت المسافات وساعدت في اتصال وتواصل الشعوب والأقوام القاطنين على ضفتيْ الصحراء الكبرى ، وسهلت في نفس الآن انتقال السلع والبضائع والأفكار بين الجهتين .
فما هي إذن منافذ تسرب مؤثرات الحضارة العربية الإسلامية إلى ثنية النهر وبلاد السودان ؟
لاشك أن بلاد المغرب لعبت دورا أساسيا في نقل مؤثرات حوض المتوسط ابتداءً وكذلك مؤثرات الحضارة العربية الإسلامية لاحقا إلى المناطق الواقعة جنوب الصحراء الكبرى وحوض نهر النيجر .
وكان لتجارة القوافل الفضل الكبير في عبور هذه المؤثرات إلى هذه البلاد بسلاسة ويسر ، تلك القوافل التي كانت السباقة في عبور وتعبيد دروب ومسالك الصحراء الكبرى منذ عصور تاريخية موغلة في القدم جيئة وذهابا ، في حركة تبادلية جميلة ومطردة بين الشمال والجنوب لسلعتين رئيسيتين كانتا المحور والعصب الأساس لهذه التجارة منذ فجر التاريخ وأعني بالسلعتين تحديدا ملـــح الشمال وذهـــب الجنوب .
وفي هذا السياق أسوق إشارة بسيطة للباحث المغربي / محمد زنيبر في بحث له بعنوان : " تجارة القوافل في المغرب " وهي برغم بساطتها وعدم توغلها في التحليل والتنظير إلاَّ أنها ذات مدلول عميق على أهمية عملية التبادل بين ضفتيْ الصحراء الكبرى بعد الفتح العربي الإسلامي للمنطقة يقول الباحث : " ... من أهم النتائج الإيجابية لدخول الإسلام إلى بلاد افريقيا والمغرب ما حدث من توسيع لشبكة الاتصالات الإنسانية والاقتصادية داخل القارة السمراء ، فأتيحت بفضل ذلك لبقية العالم شرقا وغربا فرصة الإستفادة منها وتنمية ثروته ، وموارده .. " .
وهذا يقودنا إلى الحديث عن الطرق والسبل التي انسابت عبرها هذه المؤثرات الحضارية - تجارة وعقيدة ومنهجا وسلوكا - إلى جنوب الصحراء ، وهي في الحقيقة برغم كثرتها إلاَّ أنه يمكن إجمالها في ثلاث طرق رئيسية :
1 - الطريق الممتد من بلاد السوس ( جنوب المملكة المغربية ) إلى ثنية أو عقفة نهر النيجر ، حيث تقع المدن التاريخية الثلاث ذات الشهرة والصيت الواسعين في تاريخ الفكر والثقافة والحضارة العربية الإسلامية أعني مدن : تِمْبُكْتُو .. وجِنَّيْ .. وقَاوَه ( شمال جمهورية مـــالي ) .
2 - والطريق الممتد من القيروان في ( الجنوب التونسي ) مرورا بمدينة غــدامس في ( ليبيا ) إلى المنطقة الواقعة بين نهر النيجر وبحيــرة تشــاد ، وفي هذه المنطقة تقع مــدن تاريخية مهمة هي مدن : تَقَدَّه .. وبَلْمَه .. وأَقَدَزْ في ( جمهـورية النيجر ) .
3 - والطريق من طرابلس الغرب ( ليبيا ) إلى المنطقة المحيطة ببحيرة تشــاد ، ثم إلى مراكز تجارية مهمة واقعة الآن في ( دولة نيجيريا الفيدرالية ) .
كانت تلك إذن هي الطرق الكبرى الثلاث التي ظلت عامرة بقوافل المسافرين والتجار طوال فصول العام وتتفرع منها العديد من السبل الفرعية الموسمية وقصدنا عدم التطرق لها خشية الإطالة والإطناب .
ويلاحظ أن من أهم وأبرز ما ميز الحركة التجارية في العهد الإسلامي أن قوافل التجارة هذه لم تجلب معها السلع والبضائع المصنعة أو المستخرجة في الشمال فحسب بل حملت وجلبت معها مجموعة من المؤثرات والأفكار .. والعقائد .. والمفاهيم الحضارية السائدة في المواطن التي قدمت منها ، من قيم وتقاليد وأعراف ، وتطور تقني وصناعي وتراكم معرفي وحضاري كانت تزخر به بلاد الشرق ، الأمر الذي دفع بشكل ملحوظ إلى تطور الحياة الإقتصادية والثقافية والسياسية والإجتماعية في منطقة ثنية النهــر بل وفي الغرب الإفريقي عموما بفعل هذا التلاقح والاتصال بالحضارة العربيةالإسلامية القادمة من شمال القارة .