فرانز كافكا: عشر قصائد نثر
ترجمها عن الألمانية: صالح كاظم
تقديم: عبدالقادر الجنابي
على عكس صورته المرسومة بنثره ككاتب انطوائي ومستغرق في تأملات ميتافيزيقية وشبه كابوسية، يُجمع كتّاب سيَر فرانز كافكا (1883- 1924)، على أنه كان رجلا عمليا في حياته المهنية (في شركة التأمين الإيطالية والتأمين على مصالح عمال مملكة بوهيميا ضد الحوادث... الخ)، مما حصل على عدة ترقيات، بل حصل على ميدالية عام 1912 كمكافأة لاختراعه خوذة الأمان التي أنقذت عمالا كثيرين من موت محتم في مناجم الفحم في مملكة بوهيميا. على أن الجانب العملي هذا من حياته في وضح النهار لم يكن فقط لسد شظف العيش،
قصيدة النثر الألمانية
خمس قصائد نثر لغونتر كونرت
خمس قصائد نثر لهيلغا نوفاك
غنتر آيش: سبع قصائد نثر
سارة كرش: شعر قبل شروق الشمس
بل كان كذلك محاولة يائسة لنيل رضى أبيه القاسي قسوة اختلط بسببها في ذهن فرانز كافكا مشروع الكتابة كإبداع أدبي محض مع الكتابة كمساءلة سريرية حيث كل جملة تكاد تكون مخططا لعمل إبداعي لا غير، وفي الوقت نفسه قرصا مهدئا لآلام عميقة الغور في الذات... وما "رسالة إلى الأب" سوى مفتاح لفهم كل ما كتبه من قصص، روايات، قطع نثرية، يوميات وانطباعات. بل أن معاملة أبيه القاسية له دفعته، في مطلع شبابه، أن يكتب حتى بيانات اشتراكية ذات نبرة فوضوية احتجاجية على كل تسلط. وبسبب هذا الطغيان الباترياركي، تولّد في كل أعماله برزخ بين جوٍ معطى كحقيقة وبين ما هو كامن ما وراء باب اللغة المسدود، ونثر كافكا يتراوح بين هذين القطبين.
كان كافكا ينظر إلى الكتابة التي اتخذها خلاصا له، كشأن شخصي لا يهم أحدا... وما أن يدون ما ينتابه من مشاعر على الورق، حتى يشعر بحاجة إلى تدمير ما كتبَ... ويقال أن كافكا قد دمر أغلب ما كتبه بين 1904 و1908، وكان معظمه شظايا ونصوصا قصيرة... فلم تمر في خاطره فكرةُ نشرِ ما يكتُب، لو لا صديقه الحميم ماكس برود الذي الحّ عليه أن ينشر هذه القطع النثرية الصغيرة، وبالفعل بدأ اسم كافكا ككاتب يظهر في مجلة "هيبريون" اعتبارا من عام 1908. وماكس برود كان هو أيضا وراء موافقة كافكا على جمع 18 قطعة نثرية تحت عنوان "تأملات" لكي ينشرها الناشر الألماني كورت وولف كتابا. إلا أن كافكا الذي كان يكتب فقط لفهم ظاهرة التسلط المتمثل بأبيه والضعف الإنساني أمام هذا الجدار الغامض، سرعان ما ارتعب من فكرة ظهور كتابٍ له، فكتب إلى الناشر العبارة التالية: "إذا أعدت المخطوطة إلي سأكون شاكرا جدا لك!" استغربَ الناشر... فهذه هي المرة الأولى في حياته يطلب منه كاتبٌ قويٌّ هذا، فلم يستجب لمطلب كافكا. وعندما مرّت فترة على ظهور الكتاب عام 1913، كتب كافكا: "باعت مكتبة اندريه إحدى عشر نسخة. أنا اشتريت عشر نسخ وأحب أن اعرف يا ترى من اشترى النسخة الحادية عشرة؟" وهكذا دخل كتاب "تأملات" التاريخ بصفته الكتاب الوحيد الذي نـُشِـر إبّان حياة كافكا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه نشر عددا قليلا جدا من أعماله النثرية المطولة في الكتاب الدوري مثلا، "أركاديا" الذي كان يصدره صديقه ماكس برود، وفي الحقيقة أن الكتاب الوحيد الذي كان موافقا على صدوره في برلين هو أربع حكايات تحت عنوان "فنان الجوع"، لكنه صدر بعد موته. لقد عانى كافكا طوال حياته، من الصداع، الأرق، السل، القسوة الأبوية، والانهيارات العصبية. في الأيام الأخيرة من حياته وصل داء السل ذروته حد أن حنجرته باتت في وضع جد مؤلم مما منع عليه الأكل تفادي الألم. مات فرانز كافكا في الثالث من حزيران عام 1924، بشهر واحد قبل عيد ميلاده الواحد والأربعين، تاركا رسالة إلى صديقه ماكس برود: "العزيز ماكس، رجائي الأخير: كل ما تجده في إرثي (أعني في دراج الكتب وخزانة الملابس وعلى مكتبتي في البيت وفي المكتب أو في أي مكان آخر) من يوميات ومسودات ورسائل، سواء كانت مني أو من غيري وتخطيطات وغير ذلك ينبغي حرقه بلا استثناء دون أن تقرأه، وكذلك كل ما تركته لك ولغيرك من مخطوطات وكتابات، يجب أن يُحرق وكالة عني. أما الرسائل التي لا يتم تسليمها لك فأرجو أن تطلب بإسمي ممن يمتلكها أن يلزم نفسه بحرقها". (انقر هنا لقراءة رسالتي كافكا الى برود). لكن ماكس برود لم ينفذ وصيته، وإنما عمل على نشر كل ما كتب كافكا مغذيا، بهذا النكث، الأدب العالمي برؤيا لم تُعهد من قبل.
قصيدة النثر وفرانز كافكا
تميّزت كتابات كافكا في فترة شبابه هذه، بقطع نثرية قصيرة تتراوح ما بين بضعة أسطر والثلاث صفحات، وغالبا ما نشرت بعد وفاته إما كقصص قصيرة، او كـ"أمثولات" Parables أو Aphorisms (كلمٌ جامع مقتضب). ومن بين هذه القطع "رسالة الامبراطور" ضـُمّت فيما بعد في الرواية القصيرة "سور الصين العظيم"، و"امام القانون" ضمت كمدخل لروايته الشهيرة: "المحاكمة"، وكأنهما تلخيصان مكثفان أو هامشان ممهدان لهذين العملين الطويلين.
ليست هناك سوى دراسة أكاديمية واحدة بالألمانية تتناول موضوع قصيدة النثر في المانيا أنجزها اولريخ فولبورن (1970)، وكتاب ثان هو الأنثولوجيا التي اصدرها فولبورن بالاشتراك مع كلاوس بيتر دينكر عام 1976 تحت عنوان: "قصيدة النثر الألمانية". وهي محاولة استخراج من بئر النثر الألماني ما يمكن أن يُعتبر، في نظره، قصيدة نثر أو قريبا من النموذج الفرنسي. ربما نجحا في بعض اختياراتهما، لكن الأمور اختلطت عليهما، ففي كتابهما هذا، هناك مثلا قطع نثرية مطولة كنص يان ريدل، ونصوص من النثر الدادائي الذي يتميز عادة بالعاب أسلوبية وهدفية واضحة... ويبدو انهما انطلقا من "أن قصيدة نثر رديئة ما هي سوى سكيتش نثري، وسكيتش نثري معتنى فيه جماليا وفنيا هو دائما قصيدة نثر"، على حد عبارة فولبورن.
يرى بعض النقاد أن هناك عددا من بين هذه القطع النثرية تكاد تكون أشبه بقصائد نثر (بحيث ضمت أشهر ثلاث انثولوجيات أمريكية لقصيدة النثر العالمية بعض القصائد المترجمة أدناه)، بل ذهبت سوزان برنارد إلى أن "رسالة الامبراطور" تنطوي على توتر يكاد لايطاق يلخص الحدث باقتصاد مكثف إلى حد الجنون، وهذا السرد قد أثر على بعض شعراء قصيدة النثر الفرنسيين في ثلاثينات القرن الماضي، خصوصا على ميشو وبيالو. كما يستند هؤلاء النقاد في اعتبارهم هذا، على فكرة وهي أن هناك، في يومياته ورسائله، ما يدل على أن كافكا كان مطلعا على الأدب الفرنسي، وبالأخص على الترجمات الألمانية التي تمت لقصائد بودلير ورامبو النثرية... أنا أؤيد هذا الاعتبار لكن على أسس ثانية أجدها أكثر أهمية في البرهنة على ان قطع نثرية عديدة تعتبر قصائد نثر بامتياز.
يعرف الجميع أن الجنس الأدبي الوحيد الذي كان كافكا واعيا له هو "الأمثولة"، نظرا لانهمامه، كما تؤكد عشرات الصفحات في يومياته، في معرفة انتمائه اليهودي فتبحر في تراث يهود أوروبا الوسطى (المكتوب باللغة الييديشية)، وكتب الـ"قبالاه" Cabale (استشفار التعاليم السرية في التوراة) والتلموديات وتفسير التوراة (المدراش) المليء بالأمثولات، فوجد أن فن الأمثولة هي الأقرب إلى نفسه. بل هناك قطعة نثرية كتبها كافكا عنوانها" "بصدد الأمثولة".
فما هي الأمثولة، وماهو الانزياح اللازم لكي تعود قصيدة نثر؟
1- الـ Parabole لفظ يوناني أصله: Parabolé (يضع جنبا إلى جنب، مقارنة شيء بشيء آخر)، وهي ضرب مثل على شكل حكاية لإعطاء مَوعظة أو إيصال مغزى أخلاقي، أو التعبير عن حقيقة ما بلغة صورية. ففي المزمور الـ78، نقرأ التالي: "أفتحُ فمي بالأمثال وأفيضُ بألغاز الزمن القديم". وأنا أفضل وضع "أمثولة" كمقابل عربي حتى تتميّز عن Proverbe "المثل" السائر. والسيد المسيح كان غالبا مايستخدم الأمثولة في خطبه وفي الأناجيل الأربعة أمثلة كثيرة. غير أن التراث اليهودي وبالأخص التلمود يمتلئ بالأمثولات. وبقيت الأمثولة محصورة في النطاق اللاهوتي وأسيرة تأويلاته، إلى أن جاء أدولف يوليشر بأبحاث (نشرها عام 1888) حول الأمثولات الواردة في مواعظ السيد المسيح، محدثا أكبر ثورة في المقاربة التأويلية للأمثولة؛ محررا إياها من رمزية دينية ومن تأويلات الانجيليين بالأخص الذي يعتبرون الأمثولة استعارة تنطوي على رمز خفي.. بينما برهن يوليشر أن الأمثولة في كلام السيد المسيح ليست سوى مقارنة؛ شكل أدبي محض لإيصال رسالة إلى الجميع، وليست استعارة أي حكاية تستند على بنية خفية، وبالتالي لا يفقهها إلا المتدرجون في الأسرار. وقد ساعد يوليشر بأبحاثه هذه الأدباء لاستخدام الأمثولة شكلا أدبيا. وبالفعل شهد الأدب الألماني، أواخر القرن التاسع ومطلع القرن العشرين، انتشار فن الأمثولة.
والأمثولة تتميز بصفتين هما من الصفات الأساسية لقصيدة النثر: الايجاز والسرد. على أن للأمثولة صفة ثالثة هي أن يكون هناك حقل دلالي غرضي مشترك بين قائل الأمثولة ومتلقيها. فمغزى أمثولة ما يقوم على من قالها، وفي أية حقبة قيلت والظرف الذي فرضها، وإلى مَنْ مُوجّهَـة. وإلا مِن دون هذا تعود مجرد حكايةٍ لا غرضَ لها؛ أي لاجمهورَ مُعيّنا يضطر صاحب الأمثولة إلى اعطائهم مفاتيح بين السطور لفهم المغزى المراد من أمثولته. لكن كافكا ليس صاحب رسالة كالسيد المسيح أو كإمبراطور أو صاحب دعوة له أتباع. لذا فأن بعض ما كان يكتبه من قطع نثرية على طريقة الأمثولة، يُسبّب، على نحو تلقائي، انزياحا؛ عدولا عن الأصل، منتجا المطلب الثالث والأساسي لقصيدة النثر: اللاغرضية؛ المجانية المطلقة.