المرأة في شعر ناظم حكمت
.نجاح العطار
الحوار المتمدن - العدد: 2671 - 2009 / 6 / 8
المرأة في شعر ناظم حكمت ـــ د.نجاح العطار
هل تعاملتم1 يوماً مع الحنين في غربة أو سجن أو فراق؟
هل اتقد في صدوركم شيء ما، وذات كقطرات شمعة تشتعل في معبد؟
وهل اكتمل في بهمة الليل الحفل الذي أنتم حضوره وشهوده، لذلك الشوق إلى الآخر: الحبيبة، الزوجة، الولد، الأهل والوطن، واستضفتم كل أولئك، على أجنحة حلم اليقظة، وأنتم منقطعون عن العالم، بين أربعة جدران؟
ناظم حكمت، في سجنه الذي امتد دفعة واحدة ثلاثة عشر عاماً. كان يقيم كل ليلة هذه الحفلات الغربية للحنين والشوق والحلم، في زنزانته التي أرضها من الإسمنت، والتي كانت تزوره فيها زوجته في رقة خيال فتورق الجدران ويخضر الإسمنت.
ويقف ناظم بين يدي الزائرة، السلطانة، كما كان يسميها، معقود اليدين، أو يركع على روحه البائسة، ويمد يديه إلى الطيف، لكن الطيف يظل طيفاً، يختفي أو يبتعد، وعندئذ يشرع بحفر اسم منور بظفره على سوار قيده، مردداً كلماتها الخالدة خلود الزمن، الكلمات المشعشعة كالنجوم، الكلمات الحزينة والشجاعة والبطلة.
وكذلك يبدأ يناجيها:
"أنا يا منور لا أعلم عدد الذين يعيشون معي في نفس البناء –أنا وحدي بعيد عنهم- وهم جميعاً بعيدون عني- ولا يسمح لي إلا بالتكلم مع نفسي، وهذا ما أعمل –أنا أثرثر، وأجد ثرثرتي تافهة فأغني-إيه يا امرأتي!- أغني هل تصدقين؟ صوتي المنكر-الخالي من الطرب- يتغلغل في نفسي حتى لتفطر قلبي- وكاليتيم في القصص الباكية-اليتيم الحافي على ثلج الدروب، يود قلبي أن يبكي –أن يمسح عينيه الزرقاوين- وأنفه الصغير الصَغير-.. ولكن أن يبكي، فليس لإيقاف الفارس المسافر- الممتطي جواداً عندمياً على الدرب-أن يبكي فليس تهرباً من سماع صرخات الطيور الجائعة-أن يبكي ويرتعد في الريح-أن يبكي وحيداً، ولنفسه-يا للغرابة! أنا لا أخجل من حالة قلبي هذه-أنا لا أحمر خجلاً-من رؤيته ينطوي على نفسه-منكس الرأس-ومن الإحساس به ضعيفاً هكذا-وأنانياً هكذا- وأنانياً هكذا-وإنسانياً بكل هذه البساطة".
ويظل ناظم يناجي منور.. يقول لها كل الكلمات التي تهمس على شفتيه نجوى قلبه، في بوح هو العمق الإنساني في امتداده، وصراحة هي الاعتراف الكامل بخلجات النفس، وراحة كالتي في وضع زوج رأسه على كبد زوجه، وفرح كالذي للطفل وقد عنق أمه قبل أن يغمض جفنيه للنوم.
وستتكرر هذه الحفلات الليلية للحنين ولاستقبال الزوجة والحبيبة. ففي السجن يبدأ الليل قبل هبوط الليل. إنها العزلة التي هي الحياة كلها بالنسبة للسجين، وهي القاعدة، أما التنفس فهو الاستثناء، ومنذ الساعة الخامسة تغلق أبواب الزنزانات والقواويش، فاصلة السجناء عن العالم الخارجي "بكل عطشه وهمسه الغريب، وسطحه الترابي، وجداره الهزيل، الساكن أبداً وسط اللا نهايات، كما يقول ناظم، العالم الخارجي بكل مستحدثاته وغرائبه، وبكل ما يلزم لدفع الإنسان إلى الجنون".
وبعد قليل من إغلاق الأبواب يقبل الليل فجأة "ويأتي ضياء ليحيط بالجواد الهزيل، والطبيعة التي فقدت رجاءها في الخريف، والتي تستلقي هناك مثل ميت ذي وجه قاس، ستمتلئ سماؤها بالنجوم بغتة، وعندئذ ستكون النهاية المعلومة للنهار، يعني أنه مع الليل سيكون كل شيء جاهزاً، وسيكتمل الحفل لبعث الحنين المهيب".
وأخطر ما في هذا الحنين المهيب، أن تتولد عنه حسرة قاتلة للنفس، أن يتلف السجين أعصابه في التفكير بما هو خارج السجن، ليس بما هو خارجه من قضايا الناس، فهذه تعد قضيته ذاتها بالقوة، إذا عرف كيف يربطها بها، ولكن أن يفكر بأن الناس أحرار وهو مقيد، وأنهم سعداء وهو تعس، وتغيم في ناظريه الرؤية الصحيحة للوضع الذي هو فيه، ويقع في اليأس فيروح يعد الأيام في قلق مدمر، ويحمل السجن في نفسه فيصير قدره المعذب.
بتعبير آخر، أن يقع في شرك الوحدة، هو الوحيد وحدة كاملة. ذلك أن ناظم أمضى أكثر أيام سجنه في زنزانة منفردة، وراح لشدة حاجته إلى الأنس يكلم نفسه حتى صارت لديه عادة لازمته إلى آخر عمره.
ولئن كان شعور الإنسان بالوحدة ليس مقتصراً على المكان الذي هو فيه، فقد يتوحد الإنسان ويعاني من الوحشة وهو في بيته وبين أهله، لكن هذا الشعور، إذا سمح له أن ينب في النفس داخل زنزانة، فإن وقعه المؤلم يكون مضاعفاً، ولهذا فإن علماء النفس يقولون إن السجن الانفرادي أقسى من التعذيب بالنسبة للسجين. لكن ناظم حكمت أفلت من شدقي رحى الوحدة. ولم يجعل نفسه حبة قمح تدور في فلكها.
كان يستشعر أنه بين الناس، ويدعو طيوفهم إلى زنزانته، ويتحدث إليهم ومعهم. وكان طيف المرأة، زوجته وحبيبته ورفيقته كما كان يدعوها، في مقدمة الزائرين، يسامره ويناجيه ويعاوده بغير انقطاع.
كذلك كان يعمل في سجنه ويعلم الآخرين أن يعملوا، وقد ذكر "كلودروا" في مقالة عنوانها "رجل الجبهات جميعها"، نشرها في مجلة "فرانس أوبزرفاتور" أن ناظم حكمت تحمل في سجنه وحدة الزنزانات، لكنه رفض أن يتقبل شعور الوحدة، فقد كان يكتب إلى صديقه كمال طاهر، المعتقل في سجن آخر، رسالة كل أسبوع، ويبعث إليه بنصائحه عن العمل والتفكير، وكتباً ومالاً وثياباً، وكان يكتب إليه بخط صغير لأنه لا يملك مالاً كافياً لإرسال رسالة ثقيلة من سجن لآخر. وقد كتب هو نفسه قصائد رائعة في السجن، كانت بساطاً مديداً موشى بالرجال المشهورين بغير اسم، من الفلاحين والعمال والسائقين والزجاجين والأطباء والطلاب والشعراء، هؤلاء هم الذين كانوا رفاقه، وكان يقول لهم في قصائده: "إنني أحس بأوجاعكم، مثلما تحسون بها تماماً، وأن الدمع ليتحير في المآقي، فأتمالك نفسي مثلكم وبنفس الحزم، ثم يقول لهم، والحكم بالإعدام مصلت فوق رأسه، "إذا بقيت سالماً، سأكتب على الجدران وفوق الأرصفة، في الساحات العامة، أشعاري، وسأعزف على الكمان في ليالي العيد، لمن يبقون من المعركة الأخيرة، وكذلك سأعزف على الأرصفة المغمورة بضياء ليلة رائعة، للذين يغنون أغاني جديدة. للناس الجدد، والخطوات الجديدة".
وخلال سجنه الطويل كله، أصغى إلى اللصوص والقتلة والمهربين الذين كانوا زملاءه، واعتبر نفسه سعيداً برغم المحنة التي هو فيها، وكان يقول إن شيئاً لن يمنعه من إنجاز عمله كثوري وشاعر، وإن مساعدة الناس على التشكل والتحقق هي قضيته، وعندما التقى شاباً ينظم الشعر دون أن يحقق مستوى مرضياً من الجودة، جعله "قضيته"، وأصبح هذا الشاعر الشاب بعد ذلك، الروائي الكبير، أورخان كمال"، الذي كتب رائعته: "فوق الأرض الخصبة"، ثم عندما التقى فلاحاً سجيناً كان يأتي ليشاهده وهو يرسم خلال أوقات التنفس، ساعده ناظم في تعلم الرسم، وانتهى إلى إعطائه الأقلام والألوان والكرتون، فأسهم في ولادة أشهر رسام شعبي في تركيا هو بلابان.
هكذا عرف كيف يكون مفيداً. غرس قدميه في تربة وطنه، وهذا هو سر قوته، فعجز جلادوه عن اقتلاعه من هذه التربة، لأنهم وقد سجنون، اكتشفوا أن الشاعر أقام الصلة مع الذين هم في الخارج فأسقط في يدهم، ولم يأتهم السجن المنفرد بفائدة، لأن هذه الصلة استمرت، باعتبارها فكرة، والأفكار لا تحتجزها الحدود ولا جدران السجون.
أقول أقام الصلة، ولم يجعلها أحادية الجانب. كان يتكلم إلى شعبه عبر قصائده، وكان يصغي إلى هذا الشعب عبر الأنباء التي تصله عنه، بل لقد كان يتكلم إلى الشعوب ويصغي إليها، ويطوف العالم، ويتحدث إلى الأصدقاء، ويرد على الأعداء، ويعلن أنه مسرور جداً بمقدمة إلى الدنيا ويقول: "أحب ترابها وضياءها ومعاركها وخبزها. الدنيا كبيرة عندي إلى حد لا يصدق، ولكم وددت لو سحت فيها، فأرى ما لم أره من شمسها وخضرتها ونجومها. والواقع أنني طفت أوروبا كلها في الكتب والصور، ولي في كل ميل، من الصين إلى إسبانيا، من رأس الرجاء الصالح حتى آلاسكا، أصدقاء وأعداء، أصدقاء لم يصافحوني مرة واحدة، ولكننا قادرون على الموت لأجل الخبز ذاته، والحرية ذاتها، والأماني ذاتها".
وفي قصيدته "معارفي هناك"، يستحضر هؤلاء المعارف إلى السجن، ويستحضرهم إلى الذاكرة بعد السجن، ويروي على لسان أحدهم أنه قال: "أريد ناظم أن يغني أطفالنا، حين يعودون متشابكي الأيدي من الحدائق الأطفال، الأغاني التي أغنيها لنفسي. إن أجمل ما سمعته من أصوات سؤال طفلي عن النجوم، وهو ينام على ركبتي في ليلة صيف". ويقول آخر: "يا رفيقي ناظم، ابنتي في الخامسة من عمرها، وقد تزوجت أمها عام 1922، وسمعت ابنتي أغنية أول معمار ونحن نشيد البناء، وكبر البناء، وكبرت ابنتي، وكبرت أنا أيضاً".
ويروح هذا السجين يقص عن عائلته إلى ناظم، ويروح ناظم يقص عن الدنيا إلى هذا السجين، وهكذا لا تنقطع الصلة بين الشاعر وشعبه، الشاعر الذي يكشف لهذا الشعب مضامين رسالته ويبلغها، جاعلاً الأصوات تغني، وكذلك الصمت، وهو يواجه بعناد الوزراء ورجال الشرطة والحراس والمتنفذين والأسياد, ويكتب إلى صديقه كمال قائلاً: "أشعر أنني بكامل استعدادي، كما لو كنت ملاكماً، مصارعاً، لاعب كرة قدم، طياراً، فكم أنا إنسان سعيد".
إنسان سعيد؟ إن سجيناً بلغ مجموع الأحكام الصادرة بحقه أربعة وخمسين عاماً من السجن، قضى منها ثلاثة عشر عاماً في سجن متواصل، يقول عن نفسه أنه سعيد، وأنه بكامل استعداده كما لو كان ملاكماً أو مصارعاً، لا بد أن يرتكز في هذا الوثوق والتحدي، إلى إرادة بالغة الصلابة، ترتكز بدورها على إيمان وطيد بالقضية التي يناضل لأجلها.
وهذه القضية هي الإنسانية. لقد كان ناظم عميق الحب للإنسانية، عاملاً على تغيير حياتها الفاجعة في وطنه وفي العالم، مناضلاً ضد الاستعمار والاستغلال والاستعباد وكل صنوف الشقاء في المجتمعات الطبقية وأجوائها الفاسدة التي تستلب إنسانية الإنسان وتهدر حريته وكرامته وتبقيه فقيراً جاهلاً متخلفاً.
رأى ناظم عند أحد الأطباء في بودابست قلباً إنسانياً في وعاء زجاجي، فكتب في ذلك المساء: "هل جاءه الموت من انسداد شريان أم من الحب؟" وظل الجواب معلقاً، لكن الذين يقرؤون رسائله وهو السجن، أو قصائده المكتوبة في تلك الحقبة، رسائله المكتوبة إلى كل واحد منا، وكذلك قصائده المكتوبة من أجل كل واحد منا، لن يتساءلوا مم مات ناظم بعد ذلك في الثالث من حزيران 1963، إنه لم يمت إلا من الحب، حب الإنسانية التي قال عنها: