ايات بالقَدَر , بالتنبُّؤ , بالصُّدفة !- فصل من كتاب (*) - سامي العامري
( أمرَ سيف الدولة غلمانه أن يلبسوا وقصدَ ميَّافارقين في خمسة آلاف من الجند وألفين من غلمانهِ ليزور
قبرَ والدته فقال المتنبي في ذلك قصيدته التي مطلعها :
إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المُقدَّمُ
أكلُّ فصيحٍ قال شِعراً مُتيَّمُ ؟
الى أن وصل الى القول :
ولو زحَمتْها بالمناكب زحمةً
دَرَتْ أيّ سورَيها الضعيفُ المهدَّمُ
يقول لو أن هذه الخيل زحمت ميافارقين بمناكبها لعلمتْ هذه البلدة أي سورَيها سيكون الضعيف المهدم وأراد بالسور الآخر الخيل نفسَها أي لو أحاطت بها حتى صارت كالسور حولها لم يثبت سور البناء أمام سور الخيل . قال إبن جنيّ : ومن طريف ما جرى هناك أنّ المتنبي أنشدَ هذه القصيدة العصر وسقط سورُ المدينة في الليل وكان جاهلياً .) ! (**)
التنبُّؤ غِلالةٌ ضبابية فوق مسالك القَدر , تَحَكُّمٌ به , تخديرٌ له , التنبؤ رجلٌ ذو بصيرة .
الصدفةٌ مشيئةٌ لاهيةٌ وراء منطق الأحداث , الصدفة فتاة ذات دلال .
قَدَري إمرأة نَيِّقةٌ
تقترف الخطايا العشر
على أنغام العود !
وحكمةٌ تبايعني على كلِّ شيءٍ
إلاّ الجدوى !
قدري أن تعاصرني ألسنةُ النيران
وتعصرني أطواقها الثعبانيةُ
بكلِّ لذةٍ وانخطافٍ
قالوا : ليست نيران هذه
إنما نجمةُ الصباح
قلتُ : حتى أنت يا نجوم !؟
******
فرانكفورت 1993
ما هو القدَر ؟
القدر صخرة قلقة في علو جبلٍ ينحتُها المطر والعواصفُ ببطءٍ
حتى تنضج للسقوط
وهي إذا سقطتْ فقد تنتهي الى فراغٍ
او قد تقتل بشراً او حيواناً
او قد تُفَجِّر ينبوعاً ,
وجميع البشر ينتظرون انفجارَ ينبوع !
هكذا ضد الرتابة ,
ضد المألوف ,
هناك يُحسُّ الفرد بتدفُّق أوقاته كتوليفات من الموسيقى المتجانسة المتصلة لفترة قد تطول او تقصر .
ولكن هل يستطيع الإنسان أن يصنع قدرَهُ بيده ؟
الحياة تقدَّم للإنسان العديد من المقترحات التي يجد نفسَه ملزَماً بتداولها
فإذا انتهى رأيه عند مقترحٍ ما
فعليهِ حملُ الفأس !
ولكن أنت شرقيّ , نصفك مصنوع من الخجل والتردُّد فلا تتوهَّمْ .
قالت ذلك .
قال : إذاً ما العمل ؟
أجابتْ : أظن أن الشفافية خير وسيلة .
قال : ولكن العالَم لا يمكن الوثوق به .
قالت : وما شأنك بالعالم ؟ أنت اخترتَ طريقاً واحداً والغَيتَ ما سِواه
فالطريق الذي تسلكه الى قدرك , الى هدفك لا يعني أبداً أن طريقك هذا ممّا يمكن حسابُهُ من الخسائر او أنه خالٍ من المعنى , من الجمال كي تتغاضى عنه او لا تعيشه بنفس القوة التي تسعى بها الى قدرك الذي اخترته , عليك أن تحسَّه عميقاً , أن تُضفي عليه هويتك , كيانك بينما أنت تواصل السير نحو مرماك النهائي .
قال : يبدو أن تصوركِ صحيح فانا لا أريد أن أكون كذاك الرجل الذي أمضى حياته في العمل حتى إذا جمعَ ثروة كبيرة اكتشفَ أنه لم تبقَ في عمره بقية ليستمتع بهذه الثروة فنَثَرَها على أرضية الغرفة وراح يتقلَّبُ عليها وهو يقهقه !
ثروتي أن أبقى أعوم في نهر ذهبي إسمه الحب
وأحسبُني سَبّاحاً ماهراً
فقد تعلمتُ السباحة أولاً في ترعةٍ قربَ تمثال عباس بن فرناس !
وكنتُ وقتها في الرابعة عشر ...
وبعد هذه المرحلة العمرية بسنوات قليلة تلقَّفَني المجهول !
ثروتي أن أبقى سائراً باطمئنان كالفرات
وهي سائرة باطمئنان كدجلة :
حوّاءُ يا دجلةٌ
فراتُ يا آدمْ
مَن في جراحيَ القى السرَّ كالخاتَمْ ؟
فصرتُ من طينِ
أُلَقِّنُ الطيرَ إنشادي فيرويني
مِن آخر الصينِ حتى آخر الصينِ !
------------------
(*) فصل من كتاب قصصي نثري شعري بعنوان : النهرُ الأول قبل الميلاد .
(**) منقول عن ( ديوان المتنبي , الشيخ ناصيف اليازجي ) مع قليل من التصرف .
(-) أعرق الحضارات هي تلك التي أقامها الإنسان على ضفاف الأنهار ويكفي أن نذكر حضارة وادي الرافدين ووادي النيل حتى نتبيَّن ذلك وأمّا عنوان الكتاب فهو الذي فرضَ نفسهُ او فاض بنفسه ِ !
-----------------------
كولونيا
2009
alamiri84_(at)_yahoo.de