5- ما وجه الإبداع في الإرث الصوفي الذي يمثله الحلاّج والسهروردي وغيرهما؟
لقد كان التصوف موجوداً عند كل الأمم الوثنية الضالة ، وكان سبباً في انحطاطها ولقد كان التصوف أحد العوامل التي ساهمت في تغييب العقل الإسلامي ، وفي توريث المجتمع الإسلامي رذائل خلقية ، وفي استلاب نفسية المسلم ، وجعله أنانياً يعيش بذاته ، وجعله يعيش أوهاماً قاتلة حول الاتحاد بذات الله أو الحلول به تعالى أو اكتشاف وحدة الوجود .
6- ترسيخ الشعر الجاهلي :
يرى أدونيس أن ترسيخ الشعر الجاهلي كان عملاً مقصوداً من السلطة الإسلامية بدءاً من الخلافة الأموية (15) وهو واهم في ذلك وتفسير استمراره بدعم المؤسسات الحكومية له تفسير قاصر ، فعلى العكس نجد أن الإسلام حارب كل أركان الجاهلية واستطاع تغييرها ، وكان من ضمن ذلك تغيير بعض مضامين الشعر الجاهلي ، وإن التفسير الأصوب لاستمرار الشعر الجاهلي يجب أن نتلمسه في عوامل ولادة الفنون ، والظروف التي تساعد على نشأتها ، وفي موقف الإسلام من الفنون بشكل عام .
تنطلق الفنون من النفس المأزومة (16) ، وقد استطاع الإسلام أن يحل أزمة هذا الإنسان ، فأدى هذا إلى أن الأشكال القديمة لم تعد ملائمة للتعبير عن لا أزمة الإنسان المسلم ولكن الشعر الجاهلي استمر في صورته القديمة لفنيته العالية التي فرضت نفسها على العصور التالية ، وقد كانت القصة مرشحة بالفعل لأن تكون أبرز شكل فني يناسب التعبير عن الإنسان المسلم غير المأزوم ، وممّا يؤكد ذلك استخدام القرآن الكريم لها في كثير من سوره ، لكن القصة كانت آنذاك غير ناضجة الأبعاد الفنية في العصور السابقة ، ولم تكن متداولة كشكل فني مستقل مما حال بينها وبين القيام بهذا الدور ، ومع ذلك فقد أبرز الكيان الإسلامي بعض الأشكال الفنية للتعبير عن الإنسان المسلم غير المأزوم وأبرزها الخط الذي يجمع بين الجوانب الجمالية والعملية (17).
وبالمناسبة فإن أدونيس خلط بين ترسيخ الشعر الجاهلي وبين ترسيخ اللغة العربية والحرص عليها ، فإن الذي أكده القرآن الكريم والسنة النبوية والفقهاء والأصوليون هو ترسيخ اللغة العربية وليس الشعر الجاهلي نتيجة ارتباط النص القرآني وفهمه باللغة العربية.
والآن بعد أن عرفنا "الثابت والمتحول" : ونقدنا جانباً من مضمونه ، ننتقل للتعرف على ديوان أدونيس الجديد "الكتاب : أمس المكان الآن" فما هي صورته ؟
صورة الديوان "الكتاب : أمس المكان الآن" :
يتألف الديوان من سبعة مقاطع ، وهناك ثلاث ملاحق :
الأول : تحت عنوان "أوراق عثر عليها في أوقات متباعدة ، ألحقت بالمخطوطة" .
والثاني : تحت عنوان "الفوات فيما سبق من الصفحات" .
والثالث : تحت عنوان "توقيعات" .
والمقاطع السبعة تشكل الجسم الرئيسي للديوان ، وجاء كل مقطع من المقاطع السبعة مسلسلاً تسلسلاً أبجدياً ، وكل صفحة مقسمة إلى أربعة أقسام : هامشان على اليمين واليسار ، ووسط الصفحة مقسم إلى قسمين : الأعلى يشمل معظم الصفحة ، والأدنى يشمل مساحة أصغر من الصفحة ، ثم أتبع كل مقطع بهوامش ، واتبع بعضها بمقطع سماه فاصلة استباق .
ما مضمون الديوان ؟
جاء الهامش الذي عن اليمين على لسان راو ينقل التاريخ الإسلامي بدءاً من اجتماع سقيفة بني ساعدة وينتهي في 160 للهجرة ، أما الهامش الأيسر ففيه إشارات وتوضيحات عن أزمان الروايات وأشخاصها ومصادرها بعض الأحيان ، أما وسط الصفحة فقد جاء الحديث فيها عن المتنبي ونشأته وأبويه ، وشيوخه ومعلميه ، وسفره ، وذهابه إلى بادية السماوة ، وارتباطه بالقرامطة ، وسجنه في حمص ، وزيارته لأنطاكية ، ولساحل بلاد الشام إلخ... وغير ذلك من وقائع حياته ، أما الهوامش التي تلي المقاطع فقد تناول في كل هامش شخصية تاريخية وكتب عنها عدة أبيات .
وقبل أن أتجه إلى نقد الديوان سأتناول المقطع الأول وأستعرض مضمونه لكي أعطي القارئ فكرة عن مضمون الديوان ، وفي استعراض المقطع الأول سأبدأ بالهامشين ثم سأنتقل إلى وسط الصفحة ، ثم سأنتقل إلى الهوامش التي جاءت بعد المقطع الأول .
عرض المقطع الأول من الديوان "الكتاب : أمس المكان الآن" :
كرّس الشاعر أدونيس الهامشين للحديث عن التاريخ الإسلامي فتحدث عن سنة إحدى عشرة للهجرة وسمّاها السنة التأسيسية وهي السنة التي وقعت فيها حادثة سقيفة بني ساعدة ، والتي طلب الأنصار فيها تقاسم السلطة مع المهاجرين عندما قالوا : منا أمير ومنكم أمير ، ثم ينسب إلى عمر بن الخطاب t قوله "قتل الله سعداً وسيقتل من لا يبايع من بايعته قريش" .
ثم يزعم أدونيس أن حواراً جرى بين عمر وعلي y يأمر الأول الثاني أن يبايع أبابكر ويرفض الثاني ، ويزعم أدونيس أن علياً رضي الله عنه قال : "وكيف أبايع من قال الله وقال رسول الله بأني أولى منه ؟" .
ثم يصور حرب المرتدين وينقل جانباً من كيفية قتل المسلمين للفجاءة بن عبداليل وطليحة بن خويلد الأسدي ومالك بن نويرة ويبرز زواج خالد بن الوليد t من زوجة الأخير بعد قتله ، ثم ينقل حواراً بين مسيلمة وسجاح بنت المنذر ، ويصور زواجهما ، ويوضّح أن الصداق الذي أعطاه لها هو رفع صلاتي الفجر والعشاء عن أتباعهما المرتدين .
ثم ينقل حواراً بين مُجّاعة بن مُرارة وخالد بن الوليد يزعم فيه أن الأخير طلب الزواج من ابنة المرتد ، ويزعم أن قريشاً طامعة في المال فيصور كيف أنها فرضت الذهب والفضة والكراع ، ثم ينقل قولاً لعفيف الكندي أحد المرتدين يصور فيه أن المشكلة هي قريش وليس الدين الإسلامي فيقول : "تلك قريش : لا مخرج إلاّ الطاعة أو نفنى" ، ثم ينقل أن أبا بكر t مات مسموماً ، ثم بين استلام عمر t الخلافة ويبرز بعض أعماله وأبرزها : معاقبة الشعراء على هجائهم واجلاؤه اليهود عن نجران وخيبر عام 20هـ ومقتله t عام 23هـ .
ثم يبيّن وصية عمر بن الخطاب t في ترشيحه ستة اسماء من الصحابة ، ثم يوضح كيفية فوز عثمان t بها واستئثاره وأقاربه بأموال المسلمين ، ثم يصور المراحل التي مرت بها الفتنة حتى انتهت إلى مقتل عثمان t ، ثم يبين انتقال الخلافة إلى علي t ، ثم يزعم أن لعائشة رضي الله عنها دوراً في قتل عثمان t وفي محاربة علي t ، ثم يصور واقعة الجمل ، ثم ينقل حرب صفين ، ثم يصور كيفية قتل محمد بن أبي بكر t ، وأنهم أخذوا رأسه لمعاوية بن أبي سفيان t بعد أن دكوه في جوف حمار ، وعرّوه وأخذوا قميصه إلى نائلة زوجة عثمان y التي رقصت ابتهاجاً بمقتله ، ويختم المقطع الأول باجتماع الخوارج الثلاثة عبدالرحمن بن ملجم المرادي والبرك التميمي وعمرو التميمي للتآمر على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص y .
أما وسط الصفحة فإن أدونيس يتحدث فيها عن ولادة أبي الطيب المتنبي ، وعن أبويه : أمه الهمذانية ووالده الجُعفي ، ويتحدث عن أمل أبويه به ، ويصور فقر أسرة أبي الطيب المتنبي ، ثم يصور الكتّاب الذي دخله المتنبي وعبثه فيه ، ثم يتحدث عن السواد الذي كانت فيه الكوفة مسقط رأس المتنبي ونشأته ، ثم يتحدث عن الأجناس التي عاشت في الكوفة وعاصرها الشاعر وتآلف معها ، ثم يصور بيت أبي الطيب المتنبي ، ثم يتحدث عن القرامطة الذين كانوا موجودين في الكوفة وفي السواد ، ثم يصور الكوفة والتيارات التي كانت تصطرع فيها، ويبيّن نبوغ المتنبي فيها ، ثم يصور تفاعل المتنبي مع الكوفة وثقافتها وقرامطتها ، ويبرز الفقر في الكوفة خاصة والسواد عامة ، كما يبرز دوره في تشكيل كيان الناس وكآبتهم ، ثم يبين جانب القوة المسيطر في المجتمع ، ثم ينتهي المقطع بذكر انتماء المتنبي إلى الشر والحصاد والرياح .
أما الهوامش التي تلي المقطع الأول فقد بدأها أدونيس بالأبيات التالية :
أتفيأ - أخرج من هذه الذاكرة
من مداراتها ، ودواليبها الدائرة
أتفيأ أسلافي الآخريْن
الذين يضيئون أعلى وأبعدَ
من ظلمة القتل ، من حمأةِ
القاتلين .
يقول الشاعر في المقطع السابق إن له صنفين من الأسلاف : صنفاً عاش في ظلمة القتل والقاتلين ، وصنفاً كان مضيئاً ، ويشير الشاعر إلى أنه سيخرج في هذه الهوامش من أسلاف الصنف الأول إلى أسلاف الصنف الثاني ، وهو قد استعرض جانباً من أسلاف الصنف الأول وقد كانوا كما رأينا أبابكر وعمر وعثمان وعلي y إلخ... أما أسلاف الصنف الثاني في الهوامش التي تلي المقطع الأول فقد كانوا : ابليس ، تميم بن مُقبل (18) ، لبيد ، الشنفري ، عروة بن الورد ، طرفة ، امرؤ القيس ، أبومحجن الثقفي .