طير المحبة مرفأ ذهبي
اسم الدولة : الجزائر
| موضوع: مفهوم التّربيّة النّوعيّة و مميّزاتها عند مالك بن نبي الخميس سبتمبر 03, 2015 6:21 pm | |
| يتحدّد مفهوم التّربيّة البنّبويّة ليدلّ على أنّها "عمليّة إسقاط تثقيفيّة"، ما دامت أنّها ترمي إلى إيجاد واقع مجتمعيّ متحضّر يصل أفراده بالمستقبل الواعد وبشروط الحياة الكريمة. أو هي "عمليّة تثقيف متواصلة". وتتمثّل عمليّة التّثقيف هذه في تلك العمليّة النّفسيّة التي تقوم ـ في أولى مهامها التّاريخيّة المرحليّة ـ بـتركيب عناصر ثقافة المجتمع في بِنيّة شخصيّة الفرد، أي في بنية إنسان ما بعد الموحدين . وكون التّربيّة هي عمليّة تثقيف يكسبها معنى المنهج الذي بواسطته يتمّ تشكيل وحدة الثّقافة التي تعكس حضارة المجتمع، وذلك عبر تشكيل العوالم المؤلّفة لها وتوجيهها نحو الغايّة التي تُرسم لها. ويزيد كسبها لمعنى المنهج وضوحا في تشكيل عوالم الثّقافة هذه وتوجيهها، وذلك من خلال عمليّة التّركيب النّفسيّ لعناصر الثّقافة (المبدأ الأخلاقيّ، المبدأ الجماليّ، البعد العمليّ والجانب الفنّيّ، التي تصبح كلّها أهدافا للفعل التّربويّ، أي لتربيّات نوعيّة) وترتيبها وفق ما ينسجم والوجهة التي يختارها المجتمع لنفسه في شقّ طريقه نحو الحضارة. وعمليّة التّركيب النّفسيّ هذه تدّل على أهميّة الإنسان البالغة بالنّسبة لعمليّة إعادة البناء الحضاريّ. فهي تقوم بتغيير نظرته لنفسه ولأحداث التّاريخ، فيتحدّد بذلك موقفه ومسؤوليّته إزاء وضعه المجتمعيّ ومصيره. وبهذا تصبح هذه العمليّة مرتبطة بنَاتِجها المتمثّل في تغيّر السّلوك. وهذا يوضّح تماما موقف صاحب "شروط النّهضة" الذي يشدّد فيه على أن توجّه المجهودات نحو البحث عن نظرية للثّقافة تتعلّق بسّلوك إنسان ما بعد الموحدين لا بالمعرفة لديه، بمعنى نحو المعرفة الفعّالة التي تجد فيها الأفكار النّظريّة ظلّا ملموسا لها في الواقع الحياتيّ فتربط بذلك بين الصّحة الذّاتيّة للفكرة وصلاحيّتها الموضوعيّة. وباعتبارها عمليّة تثقيف يجعلها تربية شاملة ومتكاملة: شاملة لكافة شرائح المجتمع وفئاته، للمرأة والرجل، للصغير والكبير، للأمّيّ والمتعلّم، للمواطن والمسؤول، للفقير والغنيّ، ... ؛ ولكافة مؤسّساته ؛ ومتكاملة لمختلف جوانب شخصيّة هذا الإنسان بما يحقّق توازنه (روحيّا وأخلاقيّا، وجماليّا، وعقليّا وعمليّا، أي نفسيّا واجتماعيّا وإنسانيّا). وكونها عمليّة متواصلة أو مستمرّة يمنحها صفة الحركة الدّائمة التي لا تنتهي عند مرحلة معيّنة لمجرّد أنّها حقّقت هدفها المرحليّ. وصفة الحركة هذه تكون ملازمة لصفة أخرى تمتاز بها هذه التّربيّة، ألا وهي صفة المرونة التي تأخذ بعين الاعتبار التّغيّرات الحاصلة جرّاء التّأثيرات التّربويّة المتواصلة في الموضوع الذي يؤثر بدوره في المحيط . وعندما يتمّ، في مرحلة لاحقة، تشكّل هذا المحيط، الذي يعدّ إطارا حيويّا يحتضن هذا الإنسان، تكون عندئذ الشّروط الموضوعيّة قد تحقّقت، كما تكون "المقاييس الذّاتيّة" قد اتّضحت، وهو ما يعني أن "مفهوميّة" أو إيديولوجية المجتمع قد أعيد تشكّلها. وبالنّتيجة تكون معالم الأسلوب المميّز لهذا المجتمع "الجديد" (الجديد في ثوبه المتجدّد في دمه) قد ارتُسمت، بحيث يصير ذلك الانسجام والتّوافق بين السّلوك الفرديّ والأسلوب العامّ هما السّمة التي تطبع الحياة فيه. عندئذ تقوم التّربيّة بـتجديد وظيفتها، فتعمل على المحافظة على ما تمّ إنجازه من مكاسب، باعتبار أنّ هذه المكاسب هي مسيرة أجيال ونضال أمّة. ويكون ذلك عن طريق ترسيخ وتكريس هذه المفهوميّة بما يضمن تجدّدها واستمرارها. وهنا تغدو وظيفة التّربيّة "تحصينيّة". والمقصود بالتّحصين هنا هو حماية هذا التّركيب لعناصر ثقافة المجتمع في نّفسيّات الأفراد من التّحلّل والتّذرّر، وكذا حماية ما ينتجه من مكاسب ثمينة، على اعتبار أنّ هذه المكاسب عامّة للجميع وليست خاصّة بيد فئة معيّنة. وليست تعني المفردة السّكون المثبّط للإرادات والدّاعي لإعادة إنتاج ما هو موجود، بل إنّها تحمل معنى إيجابيّا يكمن في تلك اليقظة وتلك الإرادة الدّائمتين، باعتبارهما تدخلان في السّلوك الانعكاسيّ لما يجب أن يكون عليه المسلم الخليفة الحريّ بهذا التّشريف الذي يتماشى مع التّكليف، واللازمتين أيضا للذّود عن هذا الصرح الحضاريّ المُشَيَّد ضدّ "القوارض"، وضدّ كلّ أنواع الأفكار، "المقتولة" منها و"القاتلة"، بحيث تتمّ مواجهتها بفكر نقديّ بنّاء، جريئ ومتفتّح يعرف كيف يستخرج "أفكاره العمليّة" من "أفكاره المطبوعة" لمواجهة مشكلاته الحياتيّة ومن دون أن يخجل بما يصوغ من مصطلحات خاصّة به تكون قريبة من شعوره ومعبّرة عن واقعه، ومن غير أن ينجرف نحو التّرف العقليّ الذي يبتعد به عن الواقع الذي تؤلمنا شدّة وطأته علينا وتهدّد وجودنا. وهذا كلّه يجعل هذه التّربيّة منسجمة مع واقعها المتميّز، لا غريبة عنه لأنّها تنطلق من معرفتها العميقة له. فهي إذن ليست كتلك المحاولات المستوردة التي جاءت لتحلّ مشاكله فزادت من غربته، وبالنّتيجة من تيهه وفوضاه. ويبقى أن نشير أنّه إذا كانت، من جهة، معرفة التّربيّة هذه لحقيقيّة حال إنسان ما بعد الموحّدين وواقعه تجعل منها تربيّة من أجل الوجود، فإنّ غايتها، من جهة أخرى، المتمثّلة في إقامة حضارة ذات رسالة عالميّة مميّزة، تجعل منها تربيّة من أجل الماهيّة. وهكذا تصبح هذه التّربيّة تربيّة وجود وماهيّة معا، أي تربيّة وجود ماهويّ أو ماهيّة وجوديّة. | |
|