§ هيجل :
الفكر الغامض هو ما لا يقبل التعبير عنه
لنتناول بداية نقيض ما أتينا على ذكره وقراءته ؛ فهيجل (1770 ـ 1831) على غرار كل العقلانيين ، يرفض رفضا قاطعا فكرة أنه تظل وراء الكلمات حميمية ما لا يمكن التعبير عنها ، ضرب من الفكر ، إن لم يكن تأثر أولي لا تستطيع اللغة صياغته أو التعبير عنه. “إن ما نفكر بداخله هو الكلمات ؛ كما قال هيجل ، […] إن الصوت المنطوق ، أو الكلمة ، هو وحده ما يمنحنا وجودا يكون فيه الداخلي والخارجي مترابطين بشكل حميمي إلى حد كبير . وبناء على ذلك فإن الرغبة في التفكير بمعزل عن الكلمات لا تعد إلا محاولة لا معنى لها . إننا نعتقد عادة ، وهذا صحيح ، أن ما هو أسمى هو ما لا يقبل التعبير عنه ، إلا أن هذا اعتقاد سطحي و لا أساس له ؛ وذلك لأن ما لا يقبل التعبير عنه في الواقع هو الفكر الغامض أو الفكر في حالة اختمار والذي لا يصير واضحا إلا عندما يعثر على الكلمة المعبرة عنه . وهكذا ، فإن الكلمة تمنح للفكر وجوده الأكثر سموا والأكثر صحة” (”فلسفة الروح”، 1817).
§ ميرلو بونتي :
ليس هناك فكر بدون لغة
إن هيجل كما رأينا ينفي على العكس من ذلك ،أن يكون الفكر بدون شيئا آخر غير فكر غامض ، كما ألح على ميرلو بونتي بقوة من خلال نقده لأطروحات برجسون على أن “الكلام لا يصاحب فكرة صنعت مسبقا ، وإنما ينجزها” ويحيلها فعلية (”فينومينولوجيا الإدراك” 1945).
التمفصل المزدوج للغة
§ تنوع اللغات الإنسانية
“إن ما يثير أولا عند دراستنا للغات” كما كتب فرديناند دو سوسور ، مؤسس علم اللسان المعاصر”هو تنوعها ، هو الألسن المختلفة التي نكتشفها حالما ننتقل من بلد لآخر” (”دروس في اللسانيات العامة” 1916).
إن لكل لغة بنياتها وطرق تعبيرها الخاصة و “عبقريتها” ، كل لغة تقبل التشبيه بمنظار يقدم حول العالم وجهة نظر معينة : “في لغة منطقة بريتانيي وبلاد الغال ، كما لاحظ اللساني أندريه مارتينيه ، تنطبق كلمة واحدة على جزء من الطيف الذي يغطي المناطق الفرنسية بالأزرق والأخضر ، وكثيرا ما نرى ما نسميه نحن اللون الأخضر مشتركا في ما بين الوحدتين اللتين تغطي إحداهما جزءا مما نعتبره نحن أزرقا ، وتغطي الأخرى الجزء الأكبر من الأصفر لدينا” (”عناصر اللسانيات العامة” 1960 ).
وعلى الأقل فقد أكد جورج مونان ذلك عندما قال : “إن عقليتنا ليست مسجونة إلى الأبد داخل عبقرية لغتنا ، أي داخل التقطيع اللساني الذي تقترحه علينا لغتنا عن تجربتنا عن العالم “( مفاتيح اللسانيات ، 1968 ) .
§ التمفصل المزدوج للغات الإنسانية :
المونيمات والفونيمات
ما الذي يشكل إذن السمة الخاصة للغات الإنسانية ؟ .. وما هي الخصائص التي تمتلكها جميع اللغات ، والتي تمكن من تمييزها عن العديد من أنظمة التواصل الأخرى ( لغة النحل ، قانون السير . . . الخ ) ؟ .. إن هذه الخصائص لا تتمثل لا في وظيفة التواصل ( التي تتقاسمها مع كل أنظمة الترميز الأخرى ) ، و لا في الخاصية الاعتباطية للعلامات التي تستخدمها ( استخدام اللون الأحمر والأخضر على سبيل المثال هو اعتباطي بشكل كلي في العلامات الضوئية المحددة من طرف قانون السير ) . إن هذه الخاصية التي نبحث عنها تتمثل في التمفصل المزدوج العجيب الذي أشار كل من سوسور ثم مارتينيه المزداد سنة 1908 إلى أهميته البالغة . لنأخذ الكلمة الفرنسية : Réembarquons .
- إننا نلاحظ أنها تقبل التفكيك بادئ ذي بدء إلى وحدات نسميها وحدات التمفصل الأول أو المونيمات والتي هي وحدات صغرى للمعنى : réem-barqu-ons .
- ويمكن أن ندفع بالقسمة بعيدا إلى الأمام ، إلا أننا سنحصل حينها على مقاطع لم يعد لها أي معنى في اللغة ؛ إننا سنحصل بذلك على الوحدات الصغرى للتمفصل الثاني أو الفونيمات والتي هي وحدات صوتية صغيرة لا تحمل أي معنى : [ em/b/a/r/qu/ons ].
“التمفصل الأول في اللغة [ كتب اللساني أندريه مارتينيه ] هو ذاك الذي تنحل وفقه كل واقعة من وقائع التجربة يراد تبليغها ، وكل رغبة يراد جعل الآخر يعرفها إلى متوالية كل منها مزودة بصورة صوتية ومعنى” ( عناصر اللسانيات العامة ، 1980 ) ، وهكذا ففي الجملة برأسي ألم يمكنني أن أميز ثلاث وحدات أولية للمعنى أو مونيمات [ ب ـ رأسي ـ ألم ] ، لكن الصورة الصوتية ذاتها تقبل التحليل بدورها إلى تعاقب من الوحدات يسهم كل منها في تمييز كلمة رأس على سبيل المثال من وحدات أخرى مثل بأس ، كأس ، فأس ( نفس المرجع ) .أما وحدات التمفصل الثاني ، والتي هي ( ر/ب/ك/ . . الخ ) فتسمى فونيمات وهي كما نرى وحدات أولية للصوت.
§ الوظيفة الاقتصادية للتمفصل المزدوج
إن هذه التركيبات والتنضيدات للمونيمات والفونيمات هو ما يعطي للغة القدرة على فعل الكثير عن طريق القليل ( إ . بنفينست : مشاكل اللسانيات العامة ، 1966 )، والتي بدونها سيكون أي تواصل ورطة لا خلاص منها :
- فإذا كان اللسان لا يتضمن إلا الفونيمات فإن رسالة مفردة حينها ستتطلب صرخة خاصة ؛
- وإذا لم تكن هناك إلا المونيمات ، فستتطلب اللغة عدة آلاف من الإنتاجات الصوتية الصغرى والمتميزة ، وهو ما يتجاوز بطبيعة الحال الإمكانيات الصوتية للحنجرة الإنسانية.
“إننا لا نستطيع فقط التعبير عن مجموع تجربتنا عن العالم عبر بضعة آلاف من المونيمات وحدها ، وإنما هذه الآلاف من المونيمات هي مشكلة بذاتها انطلاقا من ثلاثين أو خمسين علامة صوتية أولية ـ تبعا للغات ـ؛ أي تبعا لفونيمات كل لغة على حدة” ( جورج مونان ، مفاتيح اللسانيات 1968 ) .
ملخص :
ليس التواصل الحيواني لغة لأنه محدود وبدون حوار و لا تاريخ ، واللغة الحقيقية تتطلب إرسالا اجتماعيا عن طريق الثقافة ، لا نظاما فطريا موروثا منذ الولادة. إن التمفصل المزدوج للغات الإنسانية ( مونيمات / فونيمات ) يمكن من إجراء تركيبات تمكن من قول كل شيء من خلال عدد قليل من العلامات