لشعرُ مُحدث، والغناءُ قديم
الموسيقي يستعين بنص شعري ليضع لحنه. عملية تبدو أكثر من تقليدية في الظاهر. ولكنها في الحقيقة شغلت الموسيقيين والشعراء ونقادهما عميقاً، في الثقافة الغربية منذ القرن السادس عشر. على أنها شغلت الفلسفة منذ إفلاطون: لأيهما السيادة في الأغنية: للموسيقى أم للنص؟ وفي موسيقى الآلات، التي تخلوا من كلمات، هل يُخفي اللحن خيطاً حكائياً(أدبياً) وراءه؟
في الموسيقى العربية اليوم لم نشغل أذهاننا بالتساؤلات، بالطريقة التي شغلها العرب الأقدمون، أيام الرعاية التي حضت بها الموسيقى من قِبل النقد والفلسفة. على أن الجمهور عادة ما يُصغي لكلمات الأغنية، ويحفظها مع سياق اللحن، أو دونه. أو يحفظ اللحن وحده دون الكلمات، الأمر الذي يستدعي من نباهتنا تساؤلاً حول طبيعة العلاقة بين الاثنين: هل يلاحق اللحنُ معنى الكلمات بالضرورة؟ وهل بالامكان وضع كلمات للحنٍ جاهز؟
حين وضعت كتابي 'الفضائل الموسيقية' حول علاقة الموسيقى بالشعر، قمت بمسح لكتاب 'الأغاني' للأصفهاني، مُنتخباً كل خبر يعبر عن موقف نقدي. وكانت علاقة الموسيقى بالنص الشعري أحد أهم هذه المواقف. وهذه بضعة أمثلة: 'قال أبو نافع الأسود:إذا أعجزك أن تُطربَ القرشي فغنّه غناء ابن سريج في شعر عمر بن أبن ربيعة فإنك تُرقصه.'
'..أبو النضير يزعم أن الغناء على تقطيع العروض، ويقول: هكذا كان الذين مضوا يقولون، وكان مُستهزئاً بالغناء حتى تعاطى أن يغني، وكان إبراهيم الموصلي يُخالفه في ذلك ويقول: العروض مُحدثٌ، والغناءُ قبله بزمان.'
'سُئل مالك بن أبي السمع عن صُنعته في ’لاح بالدير من أُمامةَ نارُ..’ فقال: أخذته من مكاري بالشام يسوق أحمرةً، فكان يترنم بهذا اللحن بلا كلام، فأخذتُه فكسوته هذا الشعر.'
'.. أن إسحاق بات ليلةً عند المعتصم وهو أمير، فسمع لحناً لعبد الوهاب المؤذّن على باب المعتصم، فأصغى إليه فأعجبه، فأعاد المبيت ليلة أخرى حتى استقام له اللحنُ، فبنى عليه لحنه: ’هزئت أسماءُ مني وقالت..’.'
' كان الأعشى يغني في شعره، فكانت العرب تسميه صنّاجة العرب..'
عينات تعكس بعضاً من تلك المشاغل العقلية بشأن علاقة الموسيقى بالشعر. فهما في الخبر الأول شرطان للأغنية الناجحة. وفي الثاني تبدو الأولوية للموسيقى، وما الشعر إلا مُلحقاً ووسيلة. وفي الثالث توكيد على أن الموسيقى مستقلة ولا شأن لها بالنص الشعري. وفي الرابع يبدو اللحن الموسيقي لا يرتبط بغاية أو بموضوع. والخامس ينتصر للشعر، ويرى الموسيقى ملحقاً نافعاً.
العربي المعاصر يرغبُ أن يرى الموسيقى ذات دلالة ومعنى. وهذه الدلالة عادة ما تكون حكائية (أدبية)، مُتخيّلة وراء اللحن. ولذلك لا تفلت مقطوعة موسيقية تعتمد الآلات وحدها من عنوان ذي دلالة يتوّجها. على خلاف ما نعرفه في الغرب بشأن الموسيقى المجردة. حيث نجد توجهاتٍ نقدية لا تعرف لموسيقى الآلات إلا قوىً جمالية تتوهجُ من البنية والشكل. ورغبة العربي منطقية، لأن هذه الموسيقى في جملتها لا تعتمد شكلاً ثابتاً صارماً، مثل شكل السوناتا في الموسيقى الغربية الكلاسيكية. بل هي ألحان حرة، تصور بالضرورة حكاية ما، أو تصف عاطفة، أو خيالاً. وهذه الألحان الحرة شائعة في الموسيقى الغربية، وذات مسميات مثل القصيدة السيمفونية.
بين يدي كتابٌ، صدر هذا الشهر عن دار Oxford، تحت عنوان 'الفنون المتضادة'، دراسة في المُعترك القديم بين الأدب والموسيقى، لأستاذ أمريكي يُدعى بيتر كايفي. الكتاب ذو منحى فلسفي كعادة معظم الكتب التي تقرب علم الجمال. غنيّ، عميق، ولا يفتقد إلى عنصر الإمتاع. وهو يذهبُ بعيداً في طبيعة العلاقة بين الصوت والدلالة، وينتصر ، كما يبدو، لاستقلال قوة الجمال والتأثير الموسيقيين عن الشعر، واللغة الدلالية بصورة عامة. أودُ لو أعرض له، حين أُنجز قراءته، في حديث قادم.
فوزي كريم