داخل حسن: مؤرخاً وعاشقاً وصائغ أطوار ..

داخل حسن: مؤرخاً وعاشقاً وصائغ أطوار ..

اسم الصفحة: ثقافة شعبية

انك تعرفه.. أنه ينقل اليك الريف بكل ما فيه من فتنة وروعة وجمال.. حينما يغني، فتارة ينقل لك حفنة من عبير أزاهير (الغزيزي) القوي الشذى لتدغدغ أحاسيسك وتدفع بك في متاهات كبيرة من متاهات الجمال الخلاب والسحر السرمدي.. وينقل لك تارة أخرى اللون (الخمري) الخلاب في تلك المنطقة من بلادنا أو ينقل لك لون الدموع الصافية التي تذرفها عينا فتاة متألمة في تلك المناطق، وصفاء قلوب أهلها وطبيعتهم، وصفاء نياتهم.. انك تعرفه أنه المطرب الريفي داخل حسن.
سألته أن يحدثنا عن هذا النوع من الأداء أو عن هذا (الطور) الذي أشتهر به.. فأجاب:
- منذ عام 1924 كان في لواء الناصرية مطرب أسمه الملا جادر الخيقاني، وكان عمري في حينها عشر سنوات وكنت من المعجبين بهذا المطرب وبلونه الخاص من غناء الأبوذية،

حيث كان يغني طوراً خاصاً يسمى طور (المجراوي) ورحت أقلده بعد ان هويت الغناء الريفي.
وكبرت قليلاً وتمكنت من الغناء ووجدت نفسي حينما أغني في بعض الحفلات الخاصة، بلا شخصية فنية كل ما هناك أنني مقلد، ففكرت بيني وبين نفسي أن ابتكر لوناً خاصاً بي في غناء الأبوذية وكان ذلك في عام 1930 فجمعت بعض الألوان (الأطوار) الخاصة من الأبوذية والتي كانت شائعة في ذلك الوقت، مثل أطوار (الحياوي والشطراوي والمجراوي والطويرجاوي والعنيسي والملائي والعياشي)، جمعت هذه الأطوار كلها وأخذت من كل واحد منها شيئاً مناسباً فجمعت هذه الأشياء في قالب واحد وصغت منها طوري هذا الذي أغنيه منذ ذلك الحين حتى الآن.
* ما اسم هذا الطور؟
- لا اسم له.. واذا شئت فسمه (طور داخل حسن) وهو من نغم (البيات).
* لماذا لا نسمع أحداً غيرك يغني هذا الطور؟
- لا يستطيع أحد ان يغنيه لصعوبته واذا استطاع أحد من المطربين ان يغنيه بإجادة ومن دون أي تحريف فأنني مستعد أن اهدي له جائزة على ذلك.
* بمناسبة الحديث عن الأبوذية والأطوار، هل تستطيع ان تعرف كيف ولد الغناء الريفي؟ ومن أين جاء؟
- في البادية يوجد لون من الغناء يسمونه (الأهزوجة) ومازال (البدو) يغنونه حتى الآن وبمرور الزمن تطور هذا اللون فأخرجوا منه ثلاثة ألوان أخرى هي (النايل والسويحلي واللامي).
وفي زمن مشيخة (آل سعدون) وفي زمن الشيخ محمود السعدون بالذات طلب هذا الشيخ من أهل الغناء في ذلك الوقت ان يطوروا غناءهم المعروف في حينه وهو (الركباني واللامي والسويحلي)، فأجتمع المطربون وهم (العبادي وعبد الله المعيبر وبشارة الصبي) وكلهم من أهالي (سوق الشيوخ) اجتمعوا وطوروا في غنائهم فأبتكر كل واحد منهم لوناً من ألوان الغناء الريفي حيث ابتكر بشار الصبي لون (المحمداوي) وابتكر العبادي لون (الأبوذية)، اما عبد الله المعيبر فقد أبتكر التوشيح (الدارمي) الذي مازال يغنى حتى الآن في (البستات).
* هل يمكن تطوير غناء الأبوذية؟
- لا يمكن ذلك.. حيث تفقد الأبوذية لونها الريفي الأصيل وقد حاول، ويحاول بعضهم القيام بذلك ففشلوا، ومازالوا فاشلين في نظر الجمهور، والفاشلون يعرفون أنفسهم وكذلك المقلدون.
* ما أول أغنية غنيتها؟
- أول أغنية لي كانت (يا حضيري بطل النوح.. نوحك اشفادك) وكنت أخاطب فيها الأخ (حضيري أبو عزيز) وقد سجلتها عام 1937 على أسطوانة لحساب شركة (سودا-عكار ونار) في حلب بسوريا.
* هل هناك دافع جعلك تهوى الغناء وتصبح من أهله؟
- كان عمري (16) عاماً حين طرق قلبي الحب، وكان الحب متمثلاً في فتاة من لواء الناصرية همت بها وهامت بي وكدنا ان نرتبط برباط الزواج لولا ممانعة أهلها لهذا الزواج.. أثرت هذه الحادثة بي ورحت أخفف عن عذاب قلبي بالغناء، وكانت هي تحب الغناء أيضاً ومن أجلها تعلمت الغناء وأتقنته، ومنذ ذلك الوقت حتى الآن وأنا أغني بكل ما يملك قلبي من عاطفة وحزن، فأبكي أحياناً وأنا أغني فيحرج الغناء وكأنه كل ما أملك من عواطف وشجن.
* وليلاك هذه ماذا حل بها؟
- حين مانع اهلها زواجها مني كنا نلتقي أحياناً، واستمر ذلك حوالي السبع سنوات.. وأخيراً قرر أهلها زواجها من رجل آخر غيري رغماً عنها ، وقبل ان تزف إليه بمدة قليلة التقينا آخر لقاء فأنشدت هي من شعرها تخاطبني:
سنتين اتاني هواي
غير المجبلات
بالكصة لاح الشيب
والله الضنى فات
فأجبتها أنا من شعري أخاطبها:
يا ولفي لا ترتاع
واعلى العهد نام
لمن تمر وتكول
المن هالعظام
فكان فراقنا.. وقد أدخلت هذين الموشحين في أغنيتي المشهورة (احميد يا ويلي) والتي سجلتها على أسطوانة لحساب شركة (كولومبيا).
* متى غنيت في إذاعة بغداد لأول مرة؟
- حينما افتتحت إذاعة بغداد عام 1936 كنت أنا والأخ (حضيري أبو عزيز) في مسلك الشرطة وكان حسن فهمي مفتشاً للشرطة في ذلك الوقت في لواء الناصرية وكان هذا الرجل ميالاً الى الغناء، فسرنا في رفقته بعض الوقت.. وحينما عاد الى بغداد طلبوا مني ذلك أيضاً لم أوافق.
* لماذا؟
- لان والدي كان يحول بيني وبين الغناء، ولما توفى والدي (رحمه الله) أقنعني الأخ (حضيري أبو عزيز) بأن استقبل من الشرطة التحق معه في الإذاعة ففعلت وكان ذلك في عام 1937.
ومنذ ذلك الحين وحتى الآن وأنا أغني في الإذاعة، وقد قارب عدد الأغاني التي سجلها على أسطوانات للإذاعة (63) أغنية.. وكل أغنية مسبوقة بـ(نايل) أو (أبوذية) أو (سويحلي).
جريدة (كل شيء)
العدد (17) في 28/9/1964

» قصة إغتيال أطوار بهجت