بان المشيب ولاح في عرضائي ونعيت من بعد المشيب صبائيوهذا من المواضيع المحببة عند حميدان فكثيراً ما افتتح قصائده بذكر الشيب كقوله(14):
قال عودٍ حداه الكبر والمشيب وانحنى تقل قوسٍ يتالي عصاه
طاح قدره وحاله ولا به مزيد وان ومر من عياله صغيرٍ عصاه
يوم عنده حلالٍ وقوله يطاع يركض الكل منهم بزاده وماه
الرجل كل ما قل ماله يعاف وان عمى بالكبر عمس رايه وباه
وقوله في قصيدة أخرى(15):
قال عودٍ زلف له سنين مضت زَلّ عصر الصبى والمشيب حْضِرِه
حاضره بالمجالس يتالي العصا زهد فيه الولد والوغد والمره
من بقا معه مالٍ فهو غاليٍ يكنسون الحصا بالعصا عن ثِرِه
وان بقا ما معه شٍ فهو خايبٍ قيل عودٍ كبيرٍ وفيه الشره
أي أن الكبر بالنسبة لحميدان يعني العجز والحاجة وقلة ذات اليد وتنكر الزوجة والأولاد. وقد لخص ذلك في قصيدة له يقول فيها(16):
بالعون منيفٍ قاله لي يقول غلاك يوم انت صبي
ترى الشايب عند عياله وام عياله مثل العزبي(17)
لو يطلبهم رَدَّة لِقْمِه قالوا مخلي وش ذا الصلبي
كلوا فيده وعادوه عقب التمسّك بالسبِبِ(18)
احفظ مالك تجي غالي حتى يلاقونك بالعتب(19)
كَذّبت منيفٍ في قوله وتبيّن لي ما كان غبي(20)
أحدٍ يقال له لبيه واحدٍ يقال له وش تبي(21)
حتى ام عيالي زهدت بي نسيت زماني وطربي
فْقِدَت منّي شٍ ما اطريه على بهمي وعلى ركبي
لو هو يشرى كان اشريه وارخص به مالي وذهبي
ولو تدبرنا افتتاحية الهمزية لوجدناها تدور حول هذه المعاني:
بان المشيب ولاح في عرضائي ونعيت من بعد المشيب صبائي
نعيت خِلًّ كان في ماضٍ مضى لاحت عليه بوارح الجوزاء
ومرةٍ جهالتها علي كبيره تحسبني اخرج من نقا الدهناء(22)
تقول حِطّ وقِطّ والا فارق مالي بشوف الشيبة الشمطاء(23)
قلت أيها الشوق الذي من قبل ذا ما هوب شَرْهٍ يوم عصر صبائي(24)
واليوم خالفت الطبوع وكثرني منك الكلام وزادت البغضاء
ان كان تبغي قَطّ هِمّات الصبا تراي عنها قد طويت رْشائي
ثم يخرج حميدان من هذا الموضوع إلى موضوع آخر، أو مصدر آخر من مصادر شقائه وتعاسته، لأن مقدمة القصيدة بمثابة عرض حال يقصد منه استدرار شفقة الممدوح وعطفه.
العام انا لي كِدّةٍ ماشومه هبّت عليها الجانح اليمناء
اسلفت به يومين ثمًّ جذّت عنها العصير الى انها بيضاء
وادلجت راسي مرّتين توجّد وصفّقت بالوسطى على الطرفاء
فهو يقول في هذه الأبيات أن له "كدة" أي فلاحة أو مزرعة وأنه خسرها، فهل كان حميدان فلاحاً؟ إذا ثبت أنه فلاح فهذه قرينة أخرى ترجح أن القصيدة له فعلاً. لو ألقينا نظرة عابرة على شعر حميدان لوجدنا فيه ذكراً للفلاحة والنخيل كقوله من قصيدة له قالها بعد ما هجر بلدته القصب(25):
الا يانْخَلاتٍ لي على جال عيلم حدايق غلبٍ شوفهن يروع
اخذت بهن عامين حْيالٍ زوافر من القيظ ما خلّن فيّ ضْلوع
الا يانخلات الصدر جِضّن بالبكا وهِلّن ياحِدْب الجريد دموع
حلفت ياصافى الما فلا يشربنّه مني ولا يسقي لهن جذوع
غلاكن عندي قبل هذا وانكرن عليكن الليالي والزمان يضوع
الى قرّبن من غيظ الاصحاب عفتهن لو هن على شط الفرات شْروع
انا بالسما وعدي ورزقي ومطلبي ما هوب في صبخا مراغة جوع
تِقَلّلَت عن دارٍ وراي ومنزل وقبّلتها حثو التراب كْسوع
الا ياعاير القصب الجنوبي ليتني اشوفك من حدر السراب لموع
وقوله من قصيدة أخرى(26):
ترى الخير في راسيات الجذوع الى دلبحن السنين الحطايم
خنينٍ ظليله ويطرب مقيله وسمعك تمتّع بصوت الحمايم
تْوَفِّر حلالك وتفرح عيالك ويكثر نوالك بيوم الصرايم
وقوله من قصيدة أخرى يهزأ من ابنه مانع(27):
أنا سهرٍ بِمْنيحيتي وهو مِجْلَنْطٍ بسطوحه(28)
أنا آكل من شين ثْماره وهو له زينه وبلوحه
نعود الآن إلى الهمزية. نعم أتفق مع الأخ محمد الحمدان أن أسلوب القصيدة لا يخلو من الغرابة ومعانيها فيها شيء من الغموض إلا أنها مع ذلك تظل قصيدة متماسكة محكمة النسج متينة الحبك. يخلص فيها الشاعر من موضوع إلى آخر ببراعة متناهية لا تتأتى إلا لشاعر قدير ملك زمام القول ولديه القدرة على تصريف الكلام كالشاعر المبدع حميدان الشويعر. وحينما أتحدث هنا عن تلاحم القصيدة فلست أقصد ما يسميه نقاد الشعر "حسن التخلص"، بل الذي أعنيه شيئاً أسمى من ذلك. الذي أعنيه هو الوحدة العضوية والتكامل الفني بين أجزاء القصيدة بجميع أبياتها ومعانيها بحيث يؤدي كل جزء منها وظيفة فنية خاصة تساعد على دفع حركة القصيدة وتساهم في عمقها وثرائها كعمل فني متكامل.
فكما ذكرت، يفتتح حميدان قصيدته بذم الشيب والتحسر على عصر الصبا الذي ولى إلى غير رجعة. ثم يستطرد إلى ذكر ما يلازم كبر السن من ضيق الحيلة وقلة ذات اليد وما يترتب على ذلك من نشوز الزوج وعقوق الولد، وكما لو كانت هذه المصائب لا تكفي في حد ذاتها يمضي حميدان يستعرض الطامة الكبرى وقاصمة الظهر، تلك الخسارة المادية التي مني بها في ماله وفلاحته. وقصده من ذلك كله هو تجسيد ألم المعاناة وعمق الجرح ومرارة المأساة لعل في ذلك ما يثير شفقة الممدوح ويستدر عطفه.
ثم هو بعد ذلك يقوم بحركة شعرية رشيقة ويلجأ إلى حيلة فنية لطيفة. فبدلاً من أن يهجم فجأة على الممدوح يطريه ويستجد به نجده يعمد إلى تغليف طلبه فيقدمه كعروس حسناء تزف إلى عريس كفء.