إبداعه الشعري
كافة آثار كازانتزاكيس (الروايات, المسرحيات, أدب الأسفار) مشرَّبة بحسٍّ شعري, وكتاباته كافة نبع للشعر لا ينضب. كتب كازانتزاكيس ثلاث قصائد كبرى:
- الأوذيسة
- ترتسينِس
- السونيتات.
الأوذيسة
صَرْحٌ أدبي عملاق مؤلَّف من 33333 بيتًا، أنفق نيكوس كازانتزاكيس في كتابته 12 عامًا. وقد أعاد كتابته ستَّ مرات.
يصف فيه مغامرات عوليس، مغامرات الإنسان المعاصر، الساعي إلى حياة جديدة, الباحث عن الحرية, عن تجاوز نفسه.
من أجل أن يكتب هذه القصيدة – ثمرة تطوره الفكري – استلهم كازانتزاكيس رحلاتِه في أوروبا، في أفريقيا وفي آسيا، وكذلك قراءاتِه العديدة.
تبدأ المغامرة في اليونان (إيثاكا, اسبارطة, كريت)، وتتواصل في أفريقيا (مصر وأفريقيا الوسطى)، لتنتهي في القطب الجنوبي.
الأوذيسة عمل حَظِيَ في نظر كازانتزاكيس، وفي نظر الأجيال القادمة، باهتمام عظيم. عنه كتب كازانتزاكيس:
هذا الكتاب لم يُكتَب للعجائز، لكنْ للشباب، وحتى للذين لم يولدوا بعد. إنه كتاب سأحمله معي إلى القبر.
ترتسينِس
من آثار كازانتزاكيس التي لا يعرفها إلا القليلون. كُتِبَتْ بين عامي 1932 و1937. وهي مؤلَّفة من 21 قصيدة (نُشِرَتْ في العام 1960 في أثينا)، يتصدُّرها الاستهلالُ التالي الذي كتبه كازانتزاكيس نفسه في العام 1939:
وددت، في هذه الأناشيد، لو أتمكن من إظهار الاضطراب والفرح اللذين تهبني إياهما النفوس التي غذَّتْ نفسي. إنها الأمهات اللواتي غذَّينَني بمحبتهن، كما أفهمها, بالسلوك الروحي، والدأب، والإصرار – مع المقاومة – وليس المقاومة وحسب، ولكن الحب الفَرِح، وليس حب الوحدة الكاره للبشر. واليوم أنشر هذه الأناشيد. ومن بين الناس الذين أعرفهم, سبعة أو ثمانية فقط، على ما أستشعر، سوف يستبدُّ بهم الفرح لدى قراءتها. أما الآخرون فسوف يرمونها بقلق. لغتها, البحر, الإيقاع, "الملك المستور" الذي يحكمها, الطريقة الفرحة، المتعطشة, اليائسة، التي أنظر بها إلى المغامرة الفردية والعالمية, فوق كلِّ سلوى, فيما يتعدى كلَّ ثواب، بعيدًا عن كلِّ خوف – هذا كله لا يطيقونه. أتوسل إليهم أن يرأفوا بي؛ إذ لم أبذل أيَّ جهد لنيل إعجابهم. وحتى لو كنت فعلت ذلك لأخفقت. فالوحدة قد قسَّتْ طباعي بعض الشيء، والفرح الذي ينتابني عند الإبداع من العِظَم بحيث إنه لا يحق لي أن أطالب بأية أتعاب أخرى.
وهذه القصائد الـ21 هي:
1. دانتي
2. الغريكو
3. جنكيز خان
4. بسيخاري
5. القديسة تيريزا
6. لينين
7. دون كيخوتي
8. إلى الذات
9. محمد
10. نيتشه
11. بوذا
12. موسى
13. الثُّلاث الشعري
14. إيليني
15. شكسبير
16. ليوناردو
17. تودا رابا
18. هيديوشي
19. الإسكندر الأكبر
20. المسيح
21. الجد – الحفيد
السونيتات
متأثرًا بدانتي، كتب كازانتزاكيس العديد منها في أبيات إغريقية التفعيلة من 11 مقطعًا لفظيًّا. نذكر منها "أوديبوس", "ثرموبيلِس"، "الأبديون", "شجرة اللوز". وقد نُشِرَتْ في العام 1914.**
وما عدا هذه القصائد فإن آثار كازانتزاكيس الأخرى، وأعني الروايات والمسرحيات وأدب الأسفار، مشرَّبة بجمال شعري خارق.
وفي مقدمة الترجمة الفرنسية لمسرح كازانتزاكيس اعتبر نيكوس أثاناسيو أن النتاج المسرحي للكاتب برمَّته "قصيدة عظيمة" (فليعُد القارئ فعلاً إلى ثلاثية بروميثيوس أو نيقفوروس فوكاس). وبالمثل فإن بلدية هيراكليون قد ضمَّنتْ عددًا من مسرحياته الكتابَ الذي خصَّصتْه لآثار كازانتزاكيس الشعرية. وأخيرًا تنضح من آثاره كلِّها شاعرية رفيعة.
فالصفحات المخصَّصة للأراضي المقدسة وجبل آثوس, لبخارى وسمرقند, ولإسبانيا، من سرده لرحلاته، ذات جمال شعري لا يُنسى.
كتبت السيدة ماري لويز بيدال–بودييه في كتابها نيكوس كازانتزاكيس: كيف يصير الإنسان خالدًا (1971, ص 51):
الحياة الشعرية هي عنصره الطبيعي، إيقاع تنفُّسه نفسه. وعند قراءته يستشعر المرء أنها قد نضجتْ فيه نضجًا طبيعيًّا، مثل البذرة التي تختمر. فالفكر الأكثر تجريدًا يبطِّنه الشعر، ويتفتَّح في صور ناصعة. ولعلنا نستطيع الذهاب إلى أن التجلِّي الشعري كثيرًا ما يكون بمثابة الجواب عن سؤال الروح الموجع. ألا تكفي رؤية شجرة لوز مزهرة في كانون الأول, في حديقة بائسة، لكي يخلد إلى السكينة قلبُ كازانتزاكيس المعذَّب، وقلبُ صديقه، الشاعر سيكِليانوس, العائدين من الحج إلى جبل آثوس, إذ تجيب الشجرة عن أسئلتهما بمعجزة جمالها وشجاعتها.
في رسالته إلى بوريي كنوس في العام 1951، كتب بخصوص الإغواء الأخير:
كثيرًا ما كانت مخطوطاتي مبقعة... لأنني لم أستطع أن أمسك دموعي. بعض الأمثال التي ما كان ليسوع أن يتركها هكذا غير ناجزة, كما نجدها في الأناجيل, أكملتُها وأضفيت عليها الخاتمة النبيلة والرؤوفة الخليقة بقلبه – أقوال لعله لم ينطق بها أضعُها في فمه، لأن هذا ما كان سيقوله, لو كانت لتلاميذه قوَّتُه النفسانية وطهارتُه. وفي كلِّ مكان شعر, ومحبةٌ للحيوانات, للعشب, للبشر, ثقةٌ في النفس, يقينٌ بأن النور آتٍ... طوال سنة استعرتُ من مكتبة كانّْ كلَّ الكتب التي كُتِبَتْ عن المسيح، عن منطقة اليهودية, أخبار ذلك الزمان، التلمود، إلخ. وبذلك فإن كافة التفاصيل صحيحة تاريخيًّا؛ ولكن يجب الاعتراف للشاعر بالحقِّ في أن لا يتبع التاريخ خانعًا: فالشعر أكثر فلسفة من التاريخ.
*
في العام 1957، قبيل مغادرته أنتيب ببضعة أيام، في رحلته الأخيرة إلى الصين واليابان، كتب في الكتاب الذهبي لإحدى مكتبات أنتيب:
الشعر هو الملح الذي يحول بين العالم والتفسخ.
وأخيرًا، قبيل موته ببضع ساعات في فرايبورغ في برايسغاو، قال للأطباء:
أوَتعلمون, الشعراء لا يموتون أبدًا... على كلِّ حال تقريبًا أبدًا!