غــانا .. ومــالي .. والصنغاي ، وأشاروا - بإعجاب - إلى ما كانت تتمتع به تلك الجالية العربية من حظوة وتقدير عند سلاطين وملوك تلك الإمبراطوريات ، فقد وجدوا بعضهم إلى جانب أولئك المشتغلين بالتجارة والتعليم والدعوة وجدوا بعضهم في قصور الحكام كمستشارين ومترجمين بل ووزراء ورؤساء دوواين في كل المناطق التي تمكنوا من الوصول إليها .
وقد تمتعت الجاليات العربية المسلمة عموما بكل التسهيلات الممكنة في طول البلاد وعرضها بسبب انفتاح وتسماح حكام هذه الإمبراطوريات حتى الوثني منها ، الأمر الذي فتح المنطقة على مصراعيها أمام المؤثرات الثقافية العربية الإسلامية ، وأتاح للدعاة والفقهاء القيام بمهامهم على أحسن وجه وأكمله لنشر مباديئ الإسلام الحنيف بين مختلف شرائح المجتمع وطبقاته .
ويمكن أن نستشف بعض مظاهر هذا الوجود ومؤثراته وصور من تسامح حكام البلاد من هذا الحديث للبكري عن إمبراطورية غانا ... يقول البكري :
" .. ومدينة غانا مدينتان سهليتان ، إحداهما المدينة التي يسكنها التجار العرب .. " ويذكر أن فيها قريبا من اثنيْ عشر مسجدا .. ويضيف : " .. وتعج بالعلماء والتجار العرب ... "
والمدينة الأخرى " .. مدينة الملك .. " طبعا تضم إلى جانب الملك آله وخدمه وحشمه وحاشيته والورزاء ومجموعة الحرسات وغيرهم ممن لهم علاقة بالقصر الإمبراطوري ، وحتى هذه المدينة أو الحي الخاص - في تعبيرنا الحديث - يوجد بها مسجد تقام فيه الصلاة ، ربما يكون معد بأمر من الإمبراطور ليتمكن زواره من العرب المسلمين ومن يعمل لديه في الديوان من أداء شعائرهم الدينية بدون تضييق أو إحراج .
وربما يقودنا هذا إلى الحديث عن بعض المظاهر الحضارية والثقافية التي برزت وترسخت في المنطقة في عهد الإمبراطوريتين الإسلاميتين :
مـــالي والصُّنْغَايْ :
ودعوني أقول إن الحديث عن هاتين الإمبراطوريتين في الحقيقة إن أردنا الشمول والتعمق طويل وفيه الكثير من الأمجاد والعبر والدروس العملية التي تجسدت فيها أجمل صور العيش المشترك بين كل مكونات النسيج البشري - شعوبا وقبائل - المكون لسكان المنطقة ، والتي تستحق الذكر والإشادة والتنويه ، وبما أن المقام لا يسمح بالإطالة والإطناب فسأحاول عرض بعض المظاهر في نقاط مختصرة للعلم والتذكير فقط .
من المعلوم أن إمبراطورية مــالي قامت وأزدهرت خلال القرنين : الثالث عشر والرابع عشر الملاديين ( 13/14 م ) ومعلوم كذلك أنها قامت بداية على سواعد قبائل الماندينج القاطنة في المنطقة الواقعة بين أعالي نهريْ : ( النيجر والسنيغال ) .
وكان البكري يسمي هذه الدولة بـ : (( ملل )) - ربما تكون هذه التسمية هي التي كانت شائعة لها حينذاك عند التجار العرب - ويذكر أن تأثير الإسلام فيها كان مبكرا حيث يقول :
" ... وملكهم يعرف بالمسلماني .. " ويسترسل البكري في ذكر قصة إسلام هذا الملك على يد أحد التجار العرب ، وكيف أن أغلب رعيته أعتنقوا هذا الدين الجديد الذي أعتنقه إمبراطورهم ، وهذا مصداق للقول المأثور في لغة العرب : ( الناس على دين ملوكهم ) .
والحقيقة أن أعظم ملوك دولة مالي الإسلامية هـــو : منسى موسى أو ( كانكان موسى ) - كما يعرف في بعض المصادر - ( 1321 - 1337 م ) والذي وجدناه في المصادر العربية التي دونت حياته أنه كان أشهر وأعظم ملك إفريقي عرفه العالم في القرون الوسطى ، ورحلته إلى الديار المقدسة كانت الأشهر إفريقياً وقد شغلت حيزا مهما من الإهتمام العالمي في حينها لما ظهر به موكب الملك منسى من بذخ وما بدا على حاشيته ومرافقيه من ترف وأبهة ، وربما كانت هذه الرحلة فرصة لإبراز حجم ثروة مالي الكبيرة من معدن الذهب التبر ، الأمر الذي لفت الإنتباه إليها ووجه الأنظار إلى ما تتمتع به من غنى وأزدهار ، وسلط عليها الأضواء وأعطاها الشهرة والصيت العظيمين في كل أرجاء العالم في ذلك الوقت .
وتتحدث المصادر العربية بكثير من الإعجاب عن سجايا هذا الملك ومآثره النبيلة فتصفه تارة بالتقي والورع ، وتذكر حبه الجم وتقديره لأهل العلم والدين ، وأنه أصر في عودته من رحلة الحج أن يصطحب معه جمعا كبيرا من العلماء والفقهاء والتجار والأدباء بل ومن أصحاب الحرف والمهندسين ، وهم الذين استعان بهم في بلده لتشييد النهضة العمرانية والصناعية والإقتصادية التي عرفتها البلاد في عهده .
ومن أشهر من رافقه في عودته تلك من العلماء والفقهاء : الفقيه / عبد الرحمن التميمي ، الذي كان أول قدومه على تمبكتو في معية السلطان / منسى موسى ، ومن المهندسين : المهندس المعماري والأديب والشاعر الأندلسي الشهير : ( أبو إسحاق إبراهيم الطويجن الساحلي ) وهوالذي شيد للملك منسى المسجد الجامع في تمبكتو ( جِنْقَرَيْ بيري ) كما بنى له القصر الإمبراطوري الفخم في حاضرة ملكه .
فكانت تللك المباني بداية لنمط وطراز من المعمار المتميز عرفت به المنطقة واصطلح على تعريفه - لاحقا - بالمعمار : ( الصحراوي السوداني ) .
ولا زالت نماذج من هذا المعمار المميز ماثلة للعيان حتى يوم الناس هذا في كل من مساجد مدينة تمبكتو العتيقة ، ومسجد مدينة جٍنَّيْ الرائع ، ومسجد مدينة قاوه ومسجد مدينة أَقَدَزْ التاريخي .
والذي لا شك فيه أن تلك الثلة المختارة التي رافقت الملك منسى في رحلة عودته من الحج قد ساهمت بنصيب الأسد فيما عرفت البلاد بعد ذلك من نهضة وتقدم ورقي في مختلف مناحي الحياة ، وقد تمثل بعضه في إنشاء المدن الجديدة ، والنشاط المتنامي في حركة البناء والعمارة ، وما طرأ على الفن المعماري من إضافة جماليات جديدة أو إضافة أشكال هندسية مبتكرة أو إدخال تعديلات جديدة على الأشكال القديمة التي كانت سائدة لدى القوم ، كما استخدمت لأول مرة في المباني المستحدثة زخارف ومنمنمات مأخوذة من الخطوط العربية الجميلة وأدخلت مختلف أشكال الفسيفساء مرسومة على الزليز والمرمر .
وقد سجل المؤرخون أن من أهم النتائج التي ترتبت على هذه الرحلة التاريخية ربط علاقات مميزة بين دولة مالي الإسلامية مع كبرى حواضر العالم الإسلامي في بلاد المشرق ، وخاصة القاهرة عاصمة المماليك وبلاد الحجاز الأمر الذي ضمن استمرارية التواصل بين مالي وهذه الحواضر الكبرى التي كانت تمثل - في حينها - قلب العالم الإسلامي إن لم نقل قلب العالم كله ، فازداد تبادل دولة مالي التجاري مع العالم ، وخاصة مع مصر والحجاز وبلاد المغرب بل ومع أوروبا من خلال بلاد الأندلس ، وتجار صقلية وجنوه والبندقية الذين كانوا يترددون على الموانيئ الجنوبية للمتوسط .
وفي هذا السياق نستشهد بنص للكاتب والمؤرخ الإقتصادي الفرنسي : ( بردويل ) عن حجم وأهمية ثروة مالي الذهبية حينذاك ، وحجم تأثيرها في اقتصاد عالم القرون الوسطى ، النص : " ... إن ذهب مالي كان أكثر من أساس لرخاء شمال إفريقيا والأندلس وقد لعب دورا بارزا في تاريخ حوض المتوسط كله ، فقد بدأ تداول هذا الذهب من القرن الرابع عشر الميلادي عقب رحلة الحج الشهيرة لملك مالي منسى موسى .. . " أ . هـ .
فيلاحظ أن هذا الاتصال المباشر بين إمبراطورية مالي والمراكز المزدهرة للحضارة العربية الإسلامية الكبرى كان سببا قويا في تعريف العالم الخارجي بهذه الدولة ، وذيوع صيتها وقد ساعد في تدفق غير مسبوق للمؤثرات الحضارية والثقافية على حواضر ومدن الإمبراطورية من خلال هجرة العقول وكبار أصحاب المال والأعمال ، والدعاة ، والباحثين عن فرص النجاح والربح والتفوق.
ولم تلبث أن أعطت هذه المؤثرات أكلها وأنعكس ذلك جليا على كل مظاهر الحياة في كل المراكز الحضرية الكبرى للدولة .
وتغلغل الإسلام وثقافته العربية في كل أرجاء المنطقة ، وبدا التأثير الثقافي المباشر لبلاد المغرب في سيطرة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية ، وإزاحتهما لبقايا مفاهيم شيعية ترسبت في بعض الممارسات الشعبية أو بعض رؤى وعقائد الإباضية التي كانت قد تسربت إلى المنطقة بواسطة العلاقات التجارية مع الرستميين والدعوة العبيدية التي كانت ترافق بعض التجار والدعاة القادمين مناطق بلاد الجريد في جنوب القطر الجزائري حاليا .
ونتيجة للحراك الثقافي واهتمام الحكام وعلية القوم بالثقافة العربية الإسلامية سجل المؤرخون رواجا غير مسبوق للكتاب العربي ، وارتفعت أثمان الكتب بصورة ملفتة للإنتباه ، وارتفعت مداخيل أصحاب الحرف المرتبطة بالكتب ، كالنسخ والتغليف والزخرفة والتجليد .. الخ .
فكان الإهتمام البين لأغلب نخب المجتمع باقتناء الكتب والتنافس في جمعها في مكتبات منزلية تتصدر بيوت الميسورين والعلماء والدعاة ويسمونها ( خزائن ) .
ويبدو أن هذه الظاهرة الملفتة هي التي نتج عنها هذا التراكم المذهل للكتب والمخطوطات في حواضر وبوادي هذه المنطقة ، والذي يشهد له ما بين أيدينا حتى الآن من موروث غني وثروة عظيمة من المخطوطات تتجاوز - حسب إحصاءات بعض الجهات المهتمة بتراث المنطقة المخطوط - عدة ملايين من الكتب المخطوطة والوثائق التاريخية القيمة .
ومن مظاهر وآثار ذلك التأثر بالحضارة العربية الإسلامية في بلاد القوم لوحظ شيوع انماط وسلوكيات أهل الشمال في الحواضر الكبرى للدولة .
ويقول القلقشندي في هذا السياق :
" ... إن كتابة أهل مالي بالخط العربي على طريقة المغاربة ... " ويستشهد بكتاب بين يديه وصله للتو من سلطان مالي إلى أحد سلاطين المماليك في مصر ، وهذا يبين بوضوح تأثير بلاد المغرب في المنطقة .
ويضيف القلقشندي في النص نفسه عن ملابس وأزياء الماليين ، وكيف يركبون خيولهم ، حيث يقول :
" ... ولباس أهل مالي عمائم بحنك مثل العرب ، وجلاليب ودراريع كالمغاربة ، وهم في ركوبهم الخيل كأنهم العرب ... الخ " أ . هـ .
وهنا يجدر التنويه بعلاقة أباطرة هذه الدولة الروحية والوجدانية باللغة العربية وثقافتها فقد أشارت المصادر العربية إلى حب أباطرة مالي العميق للغة العربية وثقافتها وشديد تمسكهم بها ، خاصة الملك ( منسى موسى ) وكذلك الملك ( منسى سليمان ) وأنهما كان يجيدان اللغة العربية إجادة تامة ، ويتذوقان الشعر والأدب العربيين ، بل وكان أغلب من يحيط بهما على إلمام بدرجة أو أخرى باللغة العربية وآدابها .
ومما تقدم نتبين شيوع المؤثرات الثقافية والحضارية العربية في هذه الإمبراطورية ، وكذلك كان الأمر في امبراطورية الصنغاي وخاصة بعد أن استلمت أسرة الأسكيا محمد توري الكبير زمام الحكم في الإمبراطورية .
فقد أضفى الملك الأسكيا الحاج / محمد توري الكبير على دولته طابعا إسلاميا خالصا ، فعكس بذلك ما كان عليه أسلافه السابقين من ملوك ( آل ضياء ) و ( ذا أو جا اليمن ) من مجافاتهم للعلماء والفقهاء واستخفافهم بالدين ، بل ومعاداة بعضهم له بشكل صريح ومباشر كما هوحال سوني آلــي بيري .
وقد ازدهرت الثقافة العربية الإسلامية في عهد الملك / محمد توري أيما ازدهار ، وانتعش الإقتصاد وازدهرت التجارة ، وعم الرخاء أرجاء البلاد ، ونظمت الأسواق وأمنت طرق القوافل التجارية القادمة من الشمال نحو المراكز التجارية في الدولة .
وسجل للأسكيا / محمد توري اهتمامه البالغ بجامعات تمبكتو ، وبعلمائها وطلاب العلم فيها ، وقد تقاطر على حاضرته العديد من العلماء والفقهاء لما بلغهم عنه من علو الشأن وحبه للدين الحنيف وتقديره لأهل العلم والمعرفة ، وكان من أهم من أستضافهم هذا الملك من علماء الشمال في تلك الفترة وتصدروا للدرس في مجلسه الملكي وسمع منه واستفتاه : علامة الصحراء وبلاد السودان الشهير الشيخ / سيدي محمد بن عبد الكريم المغيلي وكان يرافقه في هذه الرحلة تلميذه النجيب ومريده الطائع وحامل رسالته من بعده في الصحراء وبلاد السودان : سيد عمر الشيخ الكنتي .
ومن الأمور التي ميزت هذه الزيارة ما خُلِّد في التراث الثقافي للمنطقة عن تلك الدروس العلمية في مجلس الأسكيا / محمد توري للشيخ / المغيلي والتي عرفت فيما بعد بـ : أجوبة المغيلي على أسئلة الأسكيا الحاج / محمد توري ، وكانت هذه الأسئلة تتمحور حول أغلب القضايا والمشكلات التي كانت تدور في مملكة الأسكيا ، وتهم رعاياه وعموم شعبه ولم يجد لها أجوبة شافية عند فقهاء مملكته .
وقد استمر على نهج الأسكيا محمد هذا في اهتمامه بالعلم وتقديره لأهل العلم والعلماء أغلب من جاء بعده من ملوك الصنغاي .